بينما تستعد أسر 17 معتقلا من أبناء ورموز كرداسة لزيارة ذويهم، حيث يقبعون بظلم في عنبر المخصوص داخل سجن وادي النطرون، يرتدون من غير ذنب ولا إدانة بدلة الإعدام منذ سنوات، توالت الأخبار عليهم كالجمر بأنهم رحلوا وانتهى الأمر، في حين أبلغت وزارة الداخلية أسر ثمانية منهم بخبر التنفيذ ظهر يوم الإثنين (27 نيسان/ أبريل، الموافق 14 رمضان)
استعدادات لزيارة تضع حدا لمشاعر الشوق لأحبتهم ولو مؤقتا، ومهما انتابهم الخوف مع كل زيارة بأنها ستكون الأخيرة، ولكن أبت السلطة لهم ذلك، ففاضت عليهم بشرورها وفرقت بينهم دون وداع ولا داع، سوى التلذذ في ممارسة الشر وسكب المر عليهم.
هكذا تلقت أسر
المعتقلين أخبار تنفيذ قرارات القتل في ذويهم وسط حالة من الصدمة وعدم توقع أحد أن يصل التوحش إلى حد الإقدام على قتلهم في نهار رمضان، وكأن النظام يتفاخر بانعدام المروءة والأخلاق بعد أن أصبح من المعتاد عليه تدنيس الدستور والقانون.
وفي ظل احتجاب رسمي معتاد بعدم الإعلان عن واقعة التنفيذ، تضاربت الأخبار حول أعداد المنفذ في حقهم، هل هم تسعة كما أعلنت بعض وسائل الإعلام المقربة من السلطات، أم اشتمل التنفيذ على الـ17؟ وتاه بين هذه الأخبار والأعداد أهالي كرداسة واستسلموا لما هو أسوأ بالتنفيذ في الجميع، والسلطات تشاهد وكأنها تستمتع بحيرة اختلطت بحزن وسعي أهالي المحكومين بالإعدام للحصول على معلومة دون جدوى.
اتجهت بعض أسر من لم يصلهم اتصال رسمي بالتنفيذ، حسب موعد الزيارة المحدد صباح الثلاثاء (28 نيسان/ أبريل)، وبالفعل تمكنت من رؤية أبنائها المهددين بالقتل في أي لحظة. لقاء قصير جدا عزلتهم فيه أسلاك وحواجز وحاصرتهم أعين وأجساد الحراس.
حالة من السعادة المؤقتة عاشتها بعض الأسر رغم قسوة المرحلة وعدم إنسانية الزيارة، ولكنهم في النهاية اطمأنوا بأن البعض لا زال على قيد الحياة، ومهما ضعف الأمل في النجاة سيتمسكون بالأمل لعل الله يحدث أمرا كان مفعولا.
دعونا قبل أن نتعرف على بعض الضحايا نستعيد محطات هذه القضية التي انطلقت بانتهاكات وانتهت بجرائم لن تسقط عن مرتكبيها ولو بالممات، فإنهم إن نجوا في الدنيا من شر الفعال فعند الله تجتمع الخصوم وله كل شيء وإليه المآل.
اقتحمت قوات من الجيش والشرطة بعتاد الحرب وغطاء الجو في 19 أيلول/ سبتمبر 2013، وعاثت في منازل المئات فسادا ونهبا وحرقا، وبالأطفال والنساء ترهيبا وتنكيلا وبالشباب والرجال سحلا وضربا، ومن بينهم ضحايا تلك
الإعدامات، وقد تم شحنهم على معسكر الأمن المركزي (تابع لوزارة الداخلية)، ومن لم يجدوه من المطلوبين يتم على الفور أخذ رهينة من أقاربه حتى يسلم نفسه.
وضعت السلطات عنوانا لهذه الحملة، والذي كان "القبض على المتهمين في اقتحام قسم شرطة كرداسة" وتقديمهم لجهات التحقيق وفق ما يقره القانون، ومن ثم محاكمتهم وبحث مدى تورطهم في اقتحام القسم وقتل 11 من العناصر الأمنية يوم 14 آب/ أغسطس 2013، في أعقاب بدء مجزرة رابعة العدوية. ولكن من واقع الممارسة وعمليات القبض والبلطجة والترويع ثبت أن العنوان للاستهلاك وفارغ من جوهره، وأن ما حدث كان انتقاما من رافضي الانقلاب واستغلال واقعة القسم لتحقيق هذا الغرض.
لم تتوقف حملات التعذيب الممنهج للمعتقلين داخل معسكر الأمن المركزي، وعلى الرغم من وجود آثار واضحة على عدد منهم تغافلت النيابة عن ذلك ولم تسمح لأحد بإثبات ما تعرضوا له من تعذيب طوال عملية التحقيق التي تمت داخل المعسكر، في مخالفة لقانون الإجراءات الجنائية الذي ينص على أن تتم التحقيقات داخل سراي النيابة، كما لم يتمكن المحامون من حضور التحقيقات.
وأحيلت القضية بعد ذلك إلى محكمة الإرهاب "الدائرة 5" برئاسة المستشار محمد ناجي شحاتة، وهي من الدوائر الاستثنائية التي شكلتها السلطة خصيصا للانتقام من الخصوم السياسيين. وشهدت جلسات المحاكمة التي وصلت إلى 25 جلسة
انتهاكات خطيرة؛ ترتب عليها العصف الكامل بكافة ضمانات ومعايير المحاكمات العادلة، حيث لم تكتف السلطات بعرضهم على قضاء استثنائي غير مستقل عبّر عن قناعته ووجهته وعدائه الشديد للتيار الذي ينتمي إليه المعتقلون.
تجاوزت المحكمة كافة الأعراف القانونية وسلبت المعتقلين حقهم في الدفاع وعزلتهم عن إجراءات محاكمتهم، واستبعدت أدلة النفي الجوهرية لتستند فقط على تحريات الأمن الوطني والمباحث الجنائية وشهادات عناصر الشرطة، لتنتهي المحاكمة في 2 شباط/ فبراير 2015 بقرار إعدام جميع المتهمين بمن فيهم من أطفال وسيدة مُسنة.
ألغت محكمة النقض حكم ناجي شحاتة لما فيه من عوار قانوني جسيم وهشاشة في الأسانيد بصورة جعلت الحكم فعلا غير قانوني منعدم الأثر، ليعاد النظر بالقضية من جديد ولكن أمام نفس القضاء الاستثنائي؛ الذي لا يختلف عن سابقه إلا في قدرة الهيئة الجديدة على تغليف القرار المراد اتخاذه بغلاف قانوني أكثر انضباطا يمكن تمريره. وبالفعل هذا ما حدث مع القاضي محمد شيرين فهمي الذي اتجه إلى ما اتجه إليه ناجي شحاتة من عوار وانتهاكات وعصف بضمانات التقاضي على مدار 34 جلسة، ولكنه عدّل في شكل القرار بإعدام 20 شنقا و90 بالسجن المؤبد ليقتلوا إهمالا و بالبطيء، في 2 تموز/ يوليو 2017 (ذكرى الانقلاب).
وعلى الرغم من وجود نفس العوار التي تسبب في إلغاء حكم ناجي شحاتة، إلا أن محكمة النقض التي تمكنت السلطة التنفيذية من السيطرة عليها أيدت حكم شيرين فهمي، وبات ما تتمناه السلطة من قرار باتا وقد تزين من حيث الشكل بزينة القانون وصدر من داخل قاعة محكمة.
وها نحن الآن نشهد تنفيذ القرار بالتزامن مع عرض مسلسل أعدته وكتبته على غير الحقيقة الأجهزة الأمنية، تحت تأثير شعورها بالذنب وبنفسية المجرم الذي يرهقه التفكير فيسعى لتحسين صورته والتملص من جرائمه بقلب الحقائق والتشجيع على سفك الدماء، دون النظر إلى حرمة الدم ولا حتى حرمة الشهر الفضيل.
قتلوهم في نهار رمضان دون أدنى احترام لقدسية هذا الشهر وفي سابقة لم تحدث من قبل، بتنفيذ حكم (إن جاز التعبير) الإعدام بحق أشخاص في مناسبة كهذه، خاصة وأن هناك قيدا قانونيا يحظر التنفيذ في المناسبات والأعياد الدينية للمحكوم عليه، فما الداعي للإقدام على التنفيذ في أيام المسلمين المعدودة وشهرهم المقدس ليقتلوا كما قُتل صدام حسين ليلة عيد الأضحى؛ في مشهد اتحدت فيه كل الشعوب الإسلامية على أن في هذا الفعل إهانة للمسلمين؟
ذلك هو ملخص القصة التي بدأت بجرائم مع أبرياء وانتهت بسفك للدماء، في مشهد أبعد ما يمكن عن الدستور والقانون، وصنّاعه أقرب بفعالهم إلى عصابة إجرامية يحكمها الجنون، وصل بها الحال إلى تنفيذ الإعدامات في شهر رمضان المبارك بالمخالفة لقانون تنظيم السجون (المادة 69) وقانون الإجراءات الجنائية (المادة 475)، والمنصوص فيهما على عدم تنفيذ أحكام الإعدام في المناسبات والأعياد الدينية للمحكوم عليهم.
وهنا يكمن السؤال: لماذا صدر قرار التنفيذ في هذا التوقيت؟ وما هو الهدف المرجو منه ونحن في رحاب الأيام المعدودات؟ لماذا تجاوزت السلطات أعرافها عند تنفيذ أحكام الإعدام بأن يتم مرة بحق المحكومين ما داموا في قضية واحدة؟ لماذا قضية كرداسة المحكوم فيها بغير عدل على 20 رجلا بالإعدام؟ ففي العقرب قتلوا ثلاثة العام الماضي والآن يرتقي تسعة، ليتبقى ثمانية، ولا يعلم أحد متى وبأي شكل سيتم قتلهم.
وعلى صعيد آخر متصل وغير منفصل، من هؤلاء الذين قُتلوا اليوم بعد كل هذه الانتهاكات والجرائم؟ وماذا يُقال عنهم وكيف ستُحكى قصصهم وتُحيا ذكراهم؟ بالخير أم بالشر؟ بعذب الكلام وطيبه أم بالمر وسوئه؟ تُجيب صفات بعضهم وأعمالهم ورصيدهم في قلوب مجتمعهم عنهم.
وأول هؤلاء الشيخ والعالم عبد الحليم جبريل وشهرته "عبد الرحيم جبريل"، الرجل المُسن (82 عاما) صاحب التاريخ الطويل في الدعوة إلى الله في أوروبا ودخل على يده العشرات إلى الإسلام، البطل الذي شارك في حرب أكتوبر، وصاحب الصوت الندي الخاشع في صلاة الفجر، مُحفظ القرآن ومربي الأجيال.
وثانيهم الشيخ العلامة علي السيد القناوي الذي تجاوز سن السبعين، صاحب الوجه البشوش والعلم الشرعي وفصاحة اللسان عزب الكلام، بليغ في اللغتين العربية والإنجليزية. لم يكتفوا بما ألحقوه به من خسائر وتضييق في عمله خلال فترة التسعينيات وكان حينها من أهم رجال المقاولات، ولم يدخر جهدا في خدمة مجتمعه والإصلاح بينهم، ظل لسنوات في محبسه الانفرادي تتضاعف عليه آلام الأمراض وتنخر في جسده حتى أصيب بشلل.
أما ثالثهم فهو الشيخ الجليل مصطفى القرفش، الأستاذ الستيني ومحفظ القرآن والإمام الطيب الداعي دائما بالحكمة والموعظة الحسنة، الوقور في سيره وعند حديثه، والصبور عند غضبه وامتعاضه.. حسن السيرة والبصيرة، ولم يترك خلفه إلا الطيب في القول والعمل.
تلك هي النماذج المتشابهة في سيرتها ورصيدها بعد أن أفنوا أعمارهم لله ولأوطانهم ومجتمعاتهم وارتقوا وهم صيام شهداء، وبدلا من أن تكرمهم الدولة وترعاهم، قتلتهم بعدد أيام حبسهم، وزادوا في قتلهم بالبطيء عندما غضوا الطرف عن تقدمهم في العمر، وبدلا من أن يقدموا لهم الحد الأدنى من الرعاية الصحية كونهم مرضى تركوهم في زنازين انفرادية بلا دورات مياه لا يسمح لهم إلا بساعة للتريض يوميا! هذا إن استطاعوا لذلك سبيلا واستجمعوا قواهم للنهوض من أماكنهم، بعد أن تدهورت أحوالهم الصحية قبل قتلهم.
متى ينتهي هذا الهم وتعود أجهزة الدولة إلى صوابها وتُعلي من قيم القانون وتُحيي معاني الإنسانية في القلوب، وتُغلق هذه الصفحة البائسة الدموية بمعاقبة وإنصاف.. معاقبة كل من أجرم وثبت إجرامه، وإنصاف المظلومين كافة، الأحياء منهم ومن انتهت بالغدر أيامه؟
تأكد قبيل نشر هذا المقال إجهاز السلطات على من تبقى من المعتقلين داخل سجن وادي النطرون 440 وعددهم ثمانية، بعد يومين من إعدام التسعة الآخرين.