كتاب عربي 21

حقائق الفصل العنصري.. الأبارتهايد ومصداقية البيض المطلقة

1300x600

في حين كانت الدول التي قد حصلت على استقلالها مؤخرًا في آسيا وإفريقيا تشنّ هجومًا شرسًا على نظام الفصل العنصري/الأبارتهايد في جنوب إفريقيا في أوائل الستينيات، في محاولة منها لعزل نظام الاستعمار الاستيطاني الذي مأسس الفوقية العرقية البيضاء، كان الليبراليون والاشتراكيون الأوروبيون البيض يحتفلون بتحقيق التفوق العرقي اليهودي في إسرائيل، حيث اجتمع الاشتراكيون الأوروبيون البيض في عام 1960 تحت مظلة "مجلس الأممية الاشتراكية"، وأيدوا حق تقرير المصير القومي للشعوب المستعمرة.

 

وقد أعلن الاشتراكيون البيض من أحضان المستعمرة الاستيطانية اليهودية العنصرية في مدينة حيفا، دون أية مفارقة، أنه "بالنسبة إلى المجتمعات متعددة الأعراق ... فلا يوجد حل ممكن إذا كان قائمًا على أي شكل من أشكال التمييز العنصري، سواء من قبل الأقلية على الأغلبية أم العكس". في تلك الحقبة، كانت إسرائيل تحتجز البقية الباقية من السكان الفلسطينيين الأصليين، الذين هجّر أغلبهم خلال حرب عام 1948، في مدنهم وقراهم المتبقية، بموجب الأحكام العرفية الصارمة وأنظمة الطوارئ وقوانين حظر التجول العنصرية لحصرهم في غيتواتهم، بعد مصادرة أراضيهم وممتلكاتهم ونقلها للاستخدام الحصري لليهود - وهو نظام استمر حتى عام 1966/1967.

على الأقل منذ الستينيات، كان تشبيه الفوقية العرقية اليهودية الإسرائيلية والاستعمار الاستيطاني في فلسطين بنظام الأبارتهايد/الفصل العنصري في جنوب إفريقيا شيئا عاديًا من قبل الآسيويين والأفريقيين. وقد أوضح ياسر عرفات هذه المقارنة في خطابه الافتتاحي عام 1974 من على منبر الأمم المتحدة بنيويورك: "تعود جذور القضية الفلسطينية إلى أواخر القرن التاسع عشر... إلى ذلك العهد الذي كان يسمى عصر الاستعمار والاستيطان…. إنها الحقبة التي ما زلنا نشهد آثارها العنصرية البشعة في الجنوب الإفريقي وكذلك في فلسطين". ولم يفت عرفات في خطابه مقارنة إسرائيل بالنظم العنصرية في روديسيا وناميبيا التي كانت خاضعة آنذاك لاحتلال جنوب إفريقيا.


وعندما ساوت الجمعية العامة للأمم المتحدة الصهيونية بالعنصرية في عام 1975 في القرار رقم 3379، فما أقره المجتمع الدولي آنذاك هو ما كان متداولا ومعروفا بين جميع الأمم، باستثناء البيض الأوروبيين والأمريكيين الإمبرياليين، الليبراليين منهم والمحافظين على حدٍ سواء. أعلنت الأمم المتحدة أن الصهيونية هي "شكل من أشكال العنصرية والتمييز العنصري"، وقد وضعتها في معية العنصرية الاستعمارية الاستيطانية في جنوب إفريقيا وروديسيا. وكانت الغالبية العظمى من الدول الأعضاء التي صوتت ضد القرار، والبالغ عددها 35 دولة، من المستعمرات الاستيطانية الأوروبية في الأمريكتين وأوقيانوسيا، والبلدان الأوروبية المستعمِرة، في حين أن الأعضاء الـ 142 الذين صوتوا لصالح القرار فقد كانوا ينتمون في الغالب إلى دول آسيا وأفريقيا التي استقلت حديثًا.

أما على مستوى المؤلفات والدراسات الأكاديمية والتاريخية عن إسرائيل والفلسطينيين، فقد دأب مؤلفوها على عقد هذه المقارنة في معظم الأعمال. فقد قام الباحث الفلسطيني فايز الصايغ بتشبيه العنصرية الصهيونية بنظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا في كتابه الصادر عام 1965 بعنوان "الاستعمار الصهيوني في فلسطين". كما كتب الصحفي البريطاني ديفيد هيرست في كتابه "البندقية وغصن الزيتون" الصادر عام 1977 عن "الأسلوب الإسرائيلي للأبارتهايد/الفصل العنصري"، بينما وصف إدوارد سعيد الممارسات اليهودية الإسرائيلية العنصرية ضد الفلسطينيين في كتابه الكلاسيكي "المسألة الفلسطينية" الصادر عام 1979 بأنها "أبارتهايد/فصل عنصري بحكم الواقع." وقد حرص سعيد على الحديث في كتابه عن "الأبارتهايد/الفصل العنصري الصهيوني" ووصف المؤسسة العرقية التعاونية الصهيونية الأشكنازية الرئيسة "الكيبوتس" بأنها ليست سوى "أبارتهايد/فصل عنصري تمامًا".

 

وبحلول الثمانينيات، وباستثناء العنصريين الليبراليين والمحافظين الأوروبيين والأمريكيين البيض الملتزمين بدعم الاستعمار الاستيطاني اليهودي، فقد كان تشبيه النظام الإسرائيلي بنظام الأبارتهايد منتشرًا في كل مكان. وقد عنون الباحث اليهودي الأشكنازي المعادي للصهيونية يوري ديفيس، كتابه الصادر عام 1987 "إسرائيل: دولة أبارتهايد/فصل عنصري"، لكنه ظل خارج الشرعية الصهيونية الإسرائيلية تمامًا.

وبعد سقوط نظام الفصل العنصري/الأبارتهايد في جنوب إفريقيا عام 1994، أعرب قادة مناهضون للفصل العنصري، من نيلسون مانديلا إلى ديزموند توتو عن تنديدهم بالسياسات الإسرائيلية، ووصف العديد من أعضاء حزب المؤتمر الوطني الأفريقي الذين زاروا فلسطين المحتلة معاملة إسرائيل للفلسطينيين بأنها "أسوأ من سياسات نظام الفصل العنصري".

 

ومع ذلك لم تلق هذه التصريحات والتنديدات أي اهتمام من قبل الغالبية العظمى من المدافعين الليبراليين الأوروبيين والأمريكيين البيض عن إسرائيل، حيث ظلوا يعتبرون تقييم الآسيويين والأفارقة لإسرائيل غير موضوعي. فالموضوعية تظل ملكية حصرية للبيض. وكما أكد فرانتز فانون في أوائل الستينيات من القرن الماضي: "بالنسبة إلى المواطنين الأصليين، فإن الموضوعية دائمًا تستخدم ضدهم".

بحلول فجر القرن الحادي والعشرين، هرع الليبراليون والمحافظون الأوروبيون والأمريكيون البيض للدفاع عن إسرائيل ضد هذا التشبيه "الكريه". وفي عام 2001، أثناء انعقاد المؤتمر العالمي لمناهضة العنصرية في مدينة ديربان في جنوب إفريقيا، قاد وزير الخارجية الأمريكي من أصل أفريقي، كولين باول (وباول من قيادات السود الذين احتوتهم الطبقة البيضاء الحاكمة في البلاد)، انسحاب الوفد الأمريكي احتجاجًا على أن مندوبين زعموا أن إسرائيل دولة فصل عنصري، وهو وصف اعتبره باول بلا خجل بأنه يعبر عن "لغة كراهية". وعندما طالب أعضاء هيئة التدريس والطلاب المقيمون في الولايات المتحدة في عام 2002 بسحب الجامعات الأمريكية استثماراتها من الشركات التي تدعم الاحتلال الإسرائيلي وسياسات الفصل العنصري الإسرائيلية، وصف أبراهام فوكسمان، رئيس رابطة مكافحة التشهير الأمريكية اليهودية، تشبيه إسرائيل بالفصل العنصري في جنوب إفريقيا بأنه تشبيه "كريه". وعندما قمت أنا وإدوارد سعيد، وبمعيتنا عدد من أعضاء هيئة التدريس والطلاب في جامعة كولومبيا، بمطالب مماثلة في نفس العام، وصف رئيس جامعة كولومبيا إشارتنا إلى الأبارتهايد الإسرائيلي بأنها تشبيه "بغيض ومهين على حد سواء".

دأبت مجموعات حقوق الإنسان الفلسطينية وحركة المقاطعة منذ عقد ونصف على الإشارة إلى إسرائيل بوصفها دولة الأبارتهايد/الفصل العنصري، بينما بدأ الطلاب المتضامنون مع الفلسطينيين في جميع أنحاء الولايات المتحدة وكندا وأوروبا منذ عام 2005 بتخصيص "أسبوع الفصل العنصري الإسرائيلي" كحدث سنوي لفضح سياسات الفصل العنصري الإسرائيلي داخل الحرم الجامعي، حيث غالبًا ما تتم مضايقتهم والتحرش بهم من قبل المدافعين عن عنصرية إسرائيل، من طلاب وإداريين.

في شهر كانون الثاني/ يناير من هذا العام، وبعد ما يقارب من ثلاثة وسبعين عامًا على إقامة إسرائيل، أصدرت مجموعة حقوق الإنسان الإسرائيلية ذات الأغلبية الأشكنازية اليهودية "بتسيلم" تقريرًا وصف النظام الإسرائيلي بأنه نظام "فوقية عرقية يهودية" ووصف إسرائيل كدولة فصل عنصري/أبارتهايد (وأصدرت منظمة حقوق إنسان إسرائيلية أخرى هي "ييش دين" تقريرًا آخر يصف حكم إسرائيل في الأراضي المحتلة بأنه "فصل عنصري/أبارتهايد"). لم يرتكز تقرير "بتسيلم" على واقع جديد حوَّل إسرائيل فجأة إلى دولة عنصرية يهودية متعصبة، بل على القرار المتأخر الذي اتخذته "بتسيلم" بالاعتراف بأن "المصطلحات التي استخدمناها في السنوات الأخيرة لوصف الوضع ... لم تعد مناسبة "، ما يعنيه أن المصطلحات التي أقرها الفلسطينيون وآخرون، معظمهم من غير البيض، لعقود – أي " الفصل العنصري "و" الفوقية العرقية اليهودية "-- أصبحت فجأة المصطلحات المناسبة الوحيدة لـ "بتسيلم" لوصف النظام الإسرائيلي. بطبيعة الحال، لم تنحسر العنصرية الإسرائيلية في السنوات الأخيرة، حيث كان "قانون الدولة القومية" الإسرائيلي لعام 2018 هو الأحدث من بين عشرات القوانين العنصرية التي تم سنها منذ عام 1948، ولكن لم يبدأ التفوق اليهودي لإسرائيل ولا جرائم الفصل العنصري مع هذا القانون الأساسي الذي أقره الكنيست؛ فما قام به القانون ببساطة هو إضافة المزيد من الأدوات القانونية إلى العنصرية المؤسسية والاستعمارية السارية في البلاد منذ عقود.

أما الآن، وبعد أن أعطت منظمة إسرائيلية يهودية أشكنازية محترمة مباركتها لاستخدام هذه المصطلحات، فقد شعرت منظمة "مرصد حقوق الإنسان" أو "هيومن رايتس ووتش" التي بدأت عملها كسلاح غربي في الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفييتي، والتي يهيمن عليها البيض ومقرها الولايات المتحدة، أن الوقت قد حان لتعريف إسرائيل كدولة فصل عنصري/أبارتهايد. وشأنها شأن منظمة "بتسيلم"، لم تصدر "هيومن رايتس ووتش" قبل بضعة أيام قرارها في اتهام إسرائيل بارتكاب "جرائم ضد الإنسانية من الفصل العنصري/الأبارتهايد والاضطهاد" بناءً على بعض السياسات الإسرائيلية الأخيرة، بل هي تقر بأن هذا هو ما كانت عليه إسرائيل دائمًا. وهو ما يذكره التقرير صراحةً: 

"لقد حافظت إسرائيل على حكمها العسكري على جزء من السكان الفلسطينيين طوال تاريخها الممتد منذ 73 عامًا باستثناء ستة أشهر. وقد طبقت ذلك على الأغلبية العظمى من الفلسطينيين داخل إسرائيل من عام 1948 وحتى عام 1966. وحكمت الفلسطينيين عسكريا في الأراضي الفلسطينية المحتلة، باستثناء القدس الشرقية منذ عام 1967 حتى الوقت الحاضر. على النقيض من ذلك، فقد حكمت منذ تأسيسها جميع اليهود الإسرائيليين، بمن فيهم المستوطنون في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ بداية الاحتلال في عام 1967، بموجب القانون المدني الذي يحترم الحقوق بشكل أكبر." 

ما تدعيه "هيومن رايتس ووتش" هو أن الجديد الذي قدمته هو أن تهمة ارتكاب إسرائيل لجرائم الفصل العنصري/الأبارتهايد والاضطهاد ضد الإنسانية تستند إلى "تحليل قانوني" يتماشى مع تعريفات القانون الدولي. وكانت "هيومان رايتس ووتش" حريصة في توضيح أنها لا تتهم إسرائيل بأنها "دولة فصل عنصري" ولا تقارنها بنظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، لأن هذه مفاهيم "غير محددة في القانون الدولي"، ويفترض أنها بالتالي ليست مقارنات موضوعية!

في الواقع، وثّقت منظمة "عدالة" الفلسطينية منذ فترة طويلة عشرات القوانين الإسرائيلية التمييزية التي تمنح امتيازًا لليهود، وهي سارية منذ إنشاء المستعمرة الاستيطانية في عام 1948. وقد كانت هذه القوانين دائمًا مدرجة في الدراسات الفلسطينية حول هذا الموضوع. فقد أدرج الباحث والمناضل صبري جريس في كتابه الكلاسيكي "العرب في إسرائيل" في أوائل السبعينيات (وقد نُشر الكتاب بالعبرية والعربية والإنجليزية) هذه القوانين وشرح فعاليتها التمييزية والعنصرية في إخضاع الفلسطينيين للسيطرة اليهودية. في حقيقة الأمر، لقد كانت انتهاكات إسرائيل العديدة للقانون الدولي بمثابة اللازمة الدائمة في تعاملات الأمم المتحدة منذ إنشائها في عام 1948، حيث تم استصدار العديد من قرارات الجمعية العامة ومجلس الأمن التي أدانت ذات الممارسات التي تعترف بها "هيومان رايتس ووتش" و"بتسيلم" اليوم كجرائم ضد الإنسانية.

ليست هذه هي المرة الأولى التي يصر فيها "المجتمع الدولي" (اقرأ "الدول الغربية البيضاء والمثقفين الليبراليين البيض") على انتظار يهود إسرائيل الأشكناز لتأكيد ما دأب الفلسطينيون على قوله طوال الوقت قبل تصديق الادعاء، ناهيك عن تأييده. وخير مثال على ذلك هو حقيقة طرد الصهاينة 85٪ من الشعب الفلسطيني من وطنهم في فترة 1947/48، الأمر الذي نفته إسرائيل والمدافعون عنها في الغرب لعقود من الزمان باعتباره كذبة فلسطينية، رغم الكم الهائل من الأدلة الدولية التي حشدتها الصحافة، والأمم المتحدة، والصليب الأحمر، والمؤرخون الفلسطينيون عن التهجير القسري للفلسطينيين منذ عام 1948. فقط عندما كشف مؤرخ أشكنازي صهيوني إسرائيلي في الثمانينيات من القرن العشرين وثائق إسرائيلية رسمية رفعت عنها السرية مؤخرًا، تحدثت عن حجم التهجير والمجازر التي قامت بها إسرائيل، قام المثقفون الغربيون المساندون لإسرائيل بقبول هذه الحقائق على مضض بعد سنوات من كشفه عنها، وحتى ذلك الحين، قبلوها جزئيًا، حيث استبدلوا ادعائهم بأن اللاجئين الفلسطينيين كانوا قد "فروا" بمفردهم، بالإشارة إلى اللاجئين الذين "فروا أو تم تهجيرهم"، وذلك لتخفيف أثر جرائم إسرائيل.

قد يكون ما أعلنته "بتسيلم" و"هيومان رايتس ووتش" في تقاريرهما الأخيرة جديدا بالنسبة لبعض اليهود الإسرائيليين الليبراليين والمثقفين الليبراليين الأمريكيين والأوروبيين البيض الذين لم يتزعزع دعمهم للاستعمار الاستيطاني اليهودي في فلسطين قط. ولكن، لا ينبغي لمثل هذه التقارير أن تحظى بأي تثمين أو تقدير من قبل الفلسطينيين ومؤيديهم. بل عليهم، بدلاً من ذلك، إدانة جماعات حقوق الإنسان الإسرائيلية والغربية العنصرية هذه التي أخفقت في تقاريرها الأخيرة في الاعتراف بعنصريتها وتواطؤها مع نظام الفصل العنصري/الأبارتهايد الإسرائيلي على مدى عقود، عندما أصرت عبر هذه السنين على عمى بصيرتها وعدم رؤيتها لنظام الأبارتهايد/الفصل العنصري الإسرائيلي الذي لطالما كان واضحًا دون لبس لكل ذي بصيرة.