قيس سعيّد يفقد في كلّ يوم أنصارَه والمؤمنين به والقائلين بنظافته بعد أن اكتشف كثيرون منهم أنّه أعجز من أن يُقنع بقول أو عمل.
لذلك وجب الجنوح إلى العقل في مناقشة من بقي من هؤلاء واجتناب الإساءة إليهم وإلى رئيسهم والامتناع عن مساجلتهم لأنّ رهانهم عليه ليس إلّا نكايةً في حركة النهضة التي يُظهرها هؤلاء طليعة المدافعين عن الديمقراطية عن وعي أو غير وعي.
أغلب هؤلاء يدركون أنّ قيس سعيّد خطر على المدنيّة والديمقراطيّة ولكنّ كرههم لحركة النهضة أثقلُ عليهم من المدنيّة والديمقراطيّة وأولى لهم من أحلامهم بها.
الرجل، بعد أن تكلّم وسمعه الناس في مناسبات عديدة، ظهر عاجزا عن الإقناع، لا يرقى إلى المنزلة التي رفعه الشعب إليها في غفلة منه بعد أن قاده تهارش الطبقة السياسية إلى إحباط استغلّه هو في التسويق لنفسه كما لو أنّه حبل إنقاذ مُدّ من السماء.. فكان حبلَ قطع لا حبلَ وصل.
من الواضح أنّه جعل من الانتخابات مجرّد وسيلة لبلوغ غايته. ولمّا جلس على الكرسي بدأ بترتيب انقلابه على المسار كلّه متناسيا أنّه هو نفسه نتيجة من نتائج المسار وثمرة من ثمراته وأنّ وصفَه من وصفِه.
فشلت رهاناته كلها وهو في تراجع واضح يعوّض عنه بخُطَب ناريّة يرسلها صواعق يظنّ لها أثرا قاتلا على مخالفيه.. فلا تقتل غير أمله في أن يبلغ ما يريد.
لو كان قادرا على محاصرة البرلمان بالجماهير لما تردّد.
لو كان قادرا على استمالة المؤسسة العسكرية لتقود له انقلابا تسلّمه إليه لما انتظر.
لو كان قادرا على اختراق المؤسسة الأمنية لإحداث انقلاب أمنيّ لما تأخّر.
ولو كان قادرا على تعميم الفوضى في جانفي المنقضي لما تراجع.. ولكنّه فشل وما كانت زيارته الشهيرة لمدينة المنيهلة سوى توجيه لمتظاهري الليل بأن يتوقفوا عن مسيرات النهب الليلية وأن يدخلوا في هدنة.
وزير الخارجية خرج من جبّته وصرّح بدعمه للانتقال الديمقراطيّ.
وزير الدفاع أعلن نأي القوات المسلّحة بنفسها عن الخوض في الشأن السياسيّ.
البرلمان بمصادقته على قانون المحكمة الدستورية اتّحد الفرقاء فيه كما لم يفعلوا قبل ذلك.
حزب التيار الديمقراطي انقسم على نفسه.. بعضه كان وفيّا لنعتِهِ الديمقراطيّ وبعضه الانقلابيّ في انحسار.. لم تبق على نهج الانقلاب سوى النائبة سامية عبّو التي يقودها كبرياؤها الجريح بعد خروج زوجها من الحكم.. وبقي توابعُ لها لا معنى لهم غير تنفيذ أوامرها.. ولا أظنّ عاقلا يسمع لها.
لم يبق له من حزام غير بعض الدروايش الذين لا وجهة لهم.. وهؤلاء ما آمنوا به إلا لعجزهم عن الاختيار.
الذين بقوا معه هم أعداء حركة النهضة.. وهؤلاء لو وجدوا الشيطان يحاربها لانحازوا إليه ضدّها.
بقيت معه حركة الشعب.. وهي من صنف هؤلاء القوميين الذي لا يرون لهم من معنى خارج جبة رئيس.. فهم مع الرؤساء ضدّ الشعوب في كلّ مكان وفي كلّ زمان.. في تونس ظلّوا مع بن علي حتى آخر يوم من حكمه داخل نظامه أو على هامشه.. هؤلاء لم يوافقهم مناخ الحرية والديمقراطية.. ولا يملكون القدرة على السير فيه.. لم يحسنوا التقاط الطفرة التي مكّنتهم من الفوز ب15 مقعدا بالبرلمان بفضل وقوفهم في الانتخابات الرئاسية خلف الناشط السياسي الصافي سعيد على أمل أن يكون هو الرئيس.. وبدل أن يستفيدوا من اللحظة ويبنوا عليها بتكوين حزب عاقل ذي أفكار وبرامج، عادوا إلى مربّع صراعهم الوجودي ضدّ الإخوان المسلمين خصوم الرئيس المصريّ الراحل جمال عبد الناصر الذي تعلّموا منه أن الاستمرار مشروط بوجود عدوّ يوضع في مقام الشيطان يكون عدد أنفاس الحياة على قدر عدد استهدافه بالهجوم عليه.. بدل أن تصنع للناس شيئا مفيدا بيّن لهم أولوية انشغالك برجم شيطانك.. ولمّا كان هؤلاء عاجزين بأنفسهم يخافون من الاختفاء في انتخابات 2024 فقد اصطفّوا وراء قيس سعيّد وربّما كانوا هم متزعّمي تحريضه على النهضة/ الإخوان.
حركة الشعب هي الحزام الرئيس للرئيس.. وقد تسلّلوا إليه من الليلة الأولى التي أُعلن فيها فوزُه بالانتخابات ليعرضوا عليه خدماتهم ويضعوا بين يديه خبراتهم في محاربة الإسلاميّين الذين يشكّلون ركنا رئيسا من أركان البرلمان وليس لمن أراد أن يستهدف البرلمان ومسار الانتقال الديمقراطيّ إلّا أن يبدأ بالقضاء عليهم.. ولعلّهم هم الذين كانوا حلقة الوصل بينه وبين عبد الفتّاح السيسي ولعلّهم نصحوه بأن يسافر إليه ليتعلّم على يديه كيف يسحق ديمقراطيّة يحرسها الإخوان.. فليس أسهل من استهداف الإخوان.. والوصفة عند السيسي الشقيق.
قيس سعيّد لم يبق له في صفّه غير بعض الأتباع الذين يطلبون رأس حركة النهضة لأنّهم يرون فيها نقيضهم الوجوديّ ولو تنازلت لهم عن كلّ شيء وأجابتهم إلى جميع مطالبهم.. هؤلاء، وحركة الشعب منهم، لا يرون للحياة استقامة إلّا بالقضاء نهائيا على حركة النهضة.. ومشكلتهم، في ذلك، تراثيّة نفسيّة وليست سياسيّة.
أنصار قيس سعيّد يتقلّصون يوما بعد يوم.. ورهاناته تتساقط وهو في وضع من فقد التفكير والتركيز.. وحتى برنامج التعفين الذين اعتمدوه ليثور لهم الناس ويُحرقوا لهم التجربة ليبدؤوا من جديد يبدو أنّه قد فشل.. والوباء الذي أرادوا استثماره لمزيد الهرسلة انقلب عليهم بعد أن انكشفت مساعي الرئيس إلى منع اللقاح عن جماهير الشعب في خطّة جهنّمية لا تعكس غير الحقد الأعمى على شعب كلّ ذنبه أنّه كره السياسة وجميع الساسة ونفض يده من جميع الحكّام. الرهان على جهل الناس لم يعد مجديا.. ومن أثبت لنفسه وصفا لم يستجب الشعب له بخلعه عليه.. ومن نفى عن نفسه أمرا لم يسارع الناس إلى تصديق نفيه.
قيس سعيّد لم يستفد من شيء.. كلّ الذي فعله أنّه زاد من منسوب الإحباط لدى الناس.. فكرهوا الحُكْمَ والحكّام كما كرهوا السياسة والسياسيين.. كرهوا السياسة قبله وكرهوا الحكمَ معه..
وفكرة المهديّ خرافة ينكشف زيفها ولو بعد حين.
(عن صفحته الشخصية في فيسبوك)