تمتعت بنعمة عظيمة في شهر رمضان، على أوجه عدة. في الاستعداد له اعتبرت عزلتي الإجبارية الحالية فرصة لمراجعة ذاتية عميقة وصريحة؛ وإن كانت صامتة. وفي محاولتي لتعداد أوجه هذه النعمة تحيرت هل أعد صيامي من دون تلفاز أو مذياع؛ لأول مرة في حياتي، أحد تلك الوجوه، أم أصنفه كعرض سلبي لعزلتي؟ كما تحيرت في تقدير صواب نصيحتي لابن أختي، الذي سألني قبل نحو أربع سنوات كيف يتصرف تجاه وضعه السيئ أثناء أدائه واجب
الخدمة العسكرية.
في الأسبوع الأول من رمضان سمعت أن الجميع يجأر بالشكوى من تخمة الإعلانات التلفزيونية، وأنها تجاوزت حدود المنطق والمهنية حتى زاحمت أذان المغرب وتلاوة القرآن الكريم، كما نُقل لي آراء بعض الأصدقاء والأقارب الذين احتاروا في البحث عن أسباب استمرار هذا الكم من الإعلانات في كل رمضان، غير المنطقي حتى بمعيار السوق والمكسب والخسارة، فهم يرون أن سيل الإعلانات أتي بنتائج عكسية، فبدلا عن جذب غالبية المشاهدين لمتابعته، نفرهم منها، ودفعهم إلى البحث عن وسائل أخرى يشاهدون فيها ما يرغبون من مسلسلات أو برامج بعيدا عن إجبارهم على مشاهدة مسلسل مقطع إلى أربعة أجزاء، اقتربت كل وصلة إعلانية من وصلاته الأربع من وقته الأصلى.
وهكذا انشغلت بمسألة الإعلان واسترجعت ما كنت قد دونته من قبل من مقتطفات من كتاب الدكتورة منى الحديدي؛ المرجعي بالنسبة لي في هذا الشأن. فالإعلان "مصاحب شبه مستديم للفرد يتجول معه ويصاحبه في كل الأماكن وفي كل الأوقات، مما يجعله من أكثر الأنشطة الإتصالية التي تحاصر الفرد وتتعقبه، أينما كان وفي كل الأوقات والظروف بدون استئذان، وأحيانا بدون تنويه أو إشارة صريحة".
والقاعدة الرئيسية التي أتذكرها جيدا أن "الإعلان يخدم جهات محددة ويساعدها في تحقيق أهدافها من خلال تقديم المعلومات، والسعي لإقناع الجمهورر بمزاياها وأهميتها له".
وفي توضيح الدلالات اللغوية لكلمة الإعْلان، ذهبت للتفكير في معاني عدة، منها أنه يعني إظهارُ الشيء بالنشر عنه في الصُّحفِ ونحوِها، وإعْلانُ الحَرْبِ، أي شَنُّها وإشْعَالُهَا، وإِعْلاَنُ حَقِيقَةٍ، أي الجَهْرُ بِهَا.
لكنني وجدت ذهني ينسحب من التفكير في معضلة الإعلانات المستفزة، وإعلانات التبرع أو شراء وحدات سكنية بعشرات الملايين، إلى إعلانات أخرى، ففكرت، مثلا، في إعلان حقوق الإنسان والمواطن الفرنسي لسنة 1789، الصادر في أعقاب الثورة الفرنسية، بشعارها الخالد: الحرية، المساواة، الإخاء. وبدا لي أن بعض بنود ذلك الإعلان؛ على بداهتها، لا تزال مطلبا ملحا في مجتمعاتنا العربية، فالسلطة ليست مقتنعة بحق المواطن في حرية تداول الأفكار والآراء، وحقه في الكلام والكتابة والنشر.
تذكرت، أيضا، الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان الصادر عن الجمعية العامة للأمم المـتحدة في عـام 1948، ثم العهـدين الـدوليين الخاصين بالحقوق المدنية والسياسية والحقوق الاقتصـادية والاجتماعية والثقافية، اللذين يشكلان حجر الزاوية لسلسلة واسعة من المعاهدات الملزمة دولياً التي تتناول مجموعة واسعة التنوع من القضايا في ميدان حقوق الإنسان.
تذكرت كل هذا، وتذكرت أن الدولة
المصرية ملزمة بالالتزام ببنودها، وأنها تنتهك في كل يوم، تقريبا، التزامها هذا.
سلسلة الاستعادات هذه قطعها تذكري لسؤال ابن أختي: ماذا أفعل يا خالي؟
كنت في غربتي، وكان مجندا مجبرا على الذهاب يوميا قبل الفجر ليفتح كشكا مقاما على قارعة الطريق، ويخرج من ثلاجة بداخله كميات من اللحوم ليبيعها، وذات فجر من أيام الصيف القاسي الحرارة، زكمت أنفه رائحة اللحم الفاسد، فقد انقطعت الكهرباء وفسدت لحوم قيمتها تقارب الأربعة آلاف جنيه، وفي التحقيق أبلغه الضابط المسئول أن عليه التصرف، وله كل الحرية في أن يبيع اللحم الفاسد ويسدد قيمته، أو يسدد قيمته من جييبه الخاص ويتصرف في الفاسد من اللحم.
وقتها طلبت منه مهلة للتفكير في الأمر، واتصلت به بعد ساعتين فأخبرني أنه تصرف وأن سؤاله لي لم يعد متعلقا بما جري بل بما هو آت: كيف سأمضي الشهور المتبقية، وهل أنا ملزم بطاعة الأوامر؟
خلال مهلة الساعتين رجعت إلى المواثيق القانونية الدولية الملزمة، فوجدت أن مصر انضمت عام 1955 لاتفاقية العمل الدولية رقم (29) الخاصة بالسخرة والعمل الإجباري لعام 1930، والتي تُعرف عمل السخرة أو العمل القسري بأنه "جميع الأعمال أو الخدمات التي تفرض عنوة على أي شخص تحت التهديد بأي عقاب، والتي لا يكون هذا الشخص قد تطوع بأدائها بمحض اختياره. ولا يشمل ذلك: أي عمل أو خدمة تفرض بمقتضى قوانين الخدمة العسكرية الإلزامية لأداء عمل ذي صبغة عسكرية بحتة".
الأمر جلي، إذا، ابن أختي يتعرض للسخرة والعمل القسري، فعمله بائعا للحم في كشك مقام على قارعة الطريق لا صبغة عسكرية بحتة له. لكني نصحته بالصبر وتحمل سخرة بضعة أشهر، فقد رأيت أن ذلك أهون من البحث عن واسطة لنقله لعمل آخر، أو الفرار من الجندية.
وظلت نصيحتي له تطاردني كلما طالعت أخبارا عن المزيد من الأكشاك والمحلات والسيارات ومزارع الأسماك والدواجن وغيرها. وقد دفعتني تلك المطاردة لمراجعة نص الاتفاقية فقد أكون قد تغافلت، في حومة الغضب، عن نص يجيز الاستثناء، وبالفعل وجدته في ذات المادة التي تتحدث عن "صبغة عسكرية بحتة"، فعبارة "عمل السخرة أو العمل القسري"، في مصطلح هذه الاتفاقية، لا تشمل "أي عمل أو خدمة يفرض في حالات
الطوارئ القاهرة، أي في حالة حرب أو في حالة نكبة أو خطر نكبة مثل الحرائق أو الفيضانات أو حالات المجاعة أو الزلازل، أو الأمراض الوبائية العنيفة التي تصيب البشر أو الحيوانات، أو غزوات الحيوانات أو الحشرات أو الآفات النباتية، وعموما أية حالة من شأنها أن تعرض للخطر بقاء أو رخاء السكان كلهم أو بعضهم".
هذا هو السند القانوني: حالة الطوارئ المعلنة تجيز أن يقف ابن أختي في كشك على قارعة الطريق ليبيع اللحم؛ وإن كان فاسدا.
لكن تجديد حالة الطوارئ كل هذه المدة فاسد بدوره، لأنه يتم بتواطؤ بين السلطة التنفيذية ومجلس النواب، بالمخالفة الصريحة للدستور.
وهذا إعلان مني، أي جهر بحقيقة، وشن حرب على لحم الطوارئ الفاسد.