أراد زميلي؛ في معتزلنا الإجباري الحالي، أن يكون نقاش ما كتبه عدد من الصحفيين، عن جلسة مجلس النواب، وما دار فيها، نهاية أبريل الماضي، ذا طبيعة سياسية، فحاولت إقناعه أن الأجدى أن يبحث الموضوع من زاوية منطقية فلسفية تاريخية، فاستغرب، وتساءل: أقول لك الصحف تكتب أن نائبا صحفيا ذكر أن "جهاز الأمن الوطنى حذر هيئة السكك الحديدية من وجود 162 من العاملين بها ينتمون لجماعة الإخوان، وأن العدد زاد الآن ليصل إلى 252 يعملون فى مواقع حساسة... وأن وزير النقل، كامل الوزير، أقر بوجود مثل هؤلاء العاملين الذين يعملون على تخريب جهود التطوير"، وأنت تقول لي فلسفة ومنطق؟
فأجبته: القاعدة الأولى يا زميلي هي "أن لا تخدع نفسك، فأنت أسهل شخص يمكن خداعه"، هذه ليست مقولتي، فقائلها هو ريتشارد فينمان، الفيزيائي الأمريكي، الحاصل؛ جراء إسهاماته في تطوير الكهروديناميكا الكمية، على جائزة نوبل للفيزياء عام 1965، وقد قرأتها في كتب مصور لطيف يناسب المبتدئين في دراسة المنطق عنوانه "المحاورة بالحيلة"، وهو عن المغالطات المنطقية. أراد فينمان؛ الذي ترجمت له عدة كتب للعربية، أن ينبهنا إلى أننا صانعو وعينا وتصوراتنا عن العالم، وأننا يجب أن نكون على حذر عند تلقي المعلومات والأخبار.
فسألني، زميلي: ما علاقة الأخ ريتشارد بالكارثة التي أحدثك عنها؟
فأجبته: هناك مشكلة كبيرة بالنسبة للأخ ريتشارد معي، قد نتحدث عنها فيما بعد، فأنا لم أستسغ يوما؛ على قدر ما قرأت له أن يكون، مثل هذا العالم قد شارك في ما كان يسمى بمشروع مانهاتن، أي مشروع صنع القنبلة النووية. أردت فقط أن أفتتح كلامي بمقولته، ومن الأمانة أن أذكر اسم قائلها، أما ما أردت دعوتك للتفكير فيه فهو الرنجة الحمراء.
فقهقه زميلي بصوت عال للغاية، وقال: تبين لي، الآن، أنك؛ كعادتك تخلط الجد بالهزل، سكك حديدية ورنجة، قصدك حالنا في مصر هو "السنجة في الرنجة، والعبارة في الدوبارة يا جناب الكومندا المهم".
قهقهتي كانت أخفت بكثير، وبمرارة قلت له: أرجو أن تدعني أكمل فكرتي، ولن أطيل.
هز زميلي؛ في معتزلنا الإجباري الحالي، رأسه دلالة الموافقة، فقلت: الرنجة الحمراء عنوان فصل من كتاب عادل مصطفى "المغالطات المنطقية: فصول في المنطق غير الصوري"، وفي مقدمة الكتاب يكشف الكاتب للقراء أن دافعه للكتابة في هذا الموضوع هو ما يشاهده "كل يومٍ في الفضائيات التليفزيونية، ووسائل الإعلام الأخرى من أغلاطٍ أساسية في منطق الحوار والجدل، تجعل المناقشات غير مجديةٍ من الأصل، وتجعلها عقيمةً أو مجهَضةً منذ البداية".
وإذ لاحظت انتباه زميلي، تشجعت وواصلت: الرنجة الحمراء، كما يخبرنا الكاتب، هي "حيلةٌ كان يستخدمها المجرمون الفارون لتضليل كلاب الحراسة التي تتعقبهم، وذلك بسحب سمكة رنجة حمراء عبر مسار المطاردة، فتجتذب الكلابَ رائحتُها الشديدة عن رائحة الطريدة الأصلية، وقد استعيرت للتعبير عن كل محاولة لتحويل الانتباه عن المسألة الرئيسية في الجدل، وذلك بإدخال تفصيلات غير هامة، أو بإلقاء موضوع لافت أو مثير للانفعالات وإن يكن غيرَ ذي صلة بالموضوع المعْنِي ولا يشبهه إلا شبهًا سطحيًّا، فيقذف بالخصم خارج مضمار الحديث"، وأنا عندما أردت أن يكون مدخلنا لنقاش المعضلة التي طرحتها مقاربة المسألة من الزاوية الفكرية سعيت لجذب الحديث ناحية تبيان تهافت منطق النظام في مجمله، فالمسألة الرئيسية هي فشل النظام في إدارة مرفق السكك الحديدية وتسببه في إزهاق أرواح مئات المصريين كل بضعة شهور، ولأن النظام لا يريد معاقبة وزير النقل، كامل الوزير، أو تحميله جانبا من المسؤولية، فقد لجأ إلى حيلة- مغالطة "الرنجة الحمراء"، والكاتب، عادل مصطفي، يوضح أن "من دَأب محترفي هذه المغالطة أن يستهلكوا الخصم في تُرَّهاتٍ خارجة عن الجادة، وأن يثيروا مشاعر المستمعين وانتباههم بطرح مسألةٍ براقة أخاذة وإن تكن بعيدة عن موضوع الحديث، فتَهوِي إليها أفئدة الحضور ولا يعود أحدٌ يذكر الموضوعَ الأصلي، إنهم بذلك لا يُحاجُّون بل يصخبون ويتلاعبون ويتداهون وينفثون سحابات التمويه والتعمية، ويتحدَّثون في أيِّ شيء إلا الشيء المَعْنِي، وكثيرًا ما ينجحون في صرف الانتباه وتحويل مسار الحديث وتبديد النقاش، فينفردون بالساحة حقًّا ويبدون منتصرين في الجدل، وكأنهم يفوزون لتغيُّب الخصم!".
وسكت لفترة، فأشار زميلي؛ في معتزلنا الإجباري الحالي، بيده، طالبا أن أواصل، فواصلت: لتفنيد الأغاليط المنطقية المشهورة تاريخ طويل، بدأه أرسطو؛ الفيلسوف الأشهر عبر كل التاريخ الإنساني، الذي اكتشف أن "الناس؛ أثناء تحاورهم أو مجادلاتهم أو الحكم على الأشياء أو نقل الاخبار، يرتكبون أخطاء منطقية. وقد يتعمد البعض استخدامها. بل يدرسها للانتفاع بها، ويستخدمها، بالأخص، السياسيون والمحامون والخطباء والصحافيون؛ لتضليل خصومهم".
ومن دون توقف أكملت: النظام في مصر، فعلا، "حاطط السنجة في الرنجة"، يستخدم الترسانة الكاملة من الأغاليط، المغالطات المنطقية، خذ عندك: "أغلوطة المصادرة على المطلوب (أغلوطة تحصيل الحاصل): وهي الحكم على شيء مسبقا قبل النتيجة، ثم البرهنة عليه بعد ذلك، كأن يلقى شخص في السجن ثم يبحث له عن تهمة"، وأيضا "أغلوطة تجاهل المطلوب"، وهي التي يتجاهل فيها المتحدث الموضوع المطروح، ويذهب للحديث عن غيره، فمثلا، يكون الحديث عن مسؤولية النظام الحالي عما آل إليه الموقف المصري من ضعف في كارثة سد النهضة، فيتهم ثورة يناير بالمسؤولية.
الموضوع الذي طرحته للنقاش، أي اتهام بعض العاملين في السكك الحديدية بالتسبب في حوادث القطارات، مجرد رنجة حمراء، لتضليل الجمهور، وكأن النظام، أو على الأقل، الجناح الداعم للوزير، يريد أن يقول اتركوه وإلا... طرح تلك الفرية، والتلويح بسن قانون يجيز طرد الموظف العام من الخدمة دون تحقيق قانوني، جاء لصرف الأنظار عن مسؤولية النظام ووزيره.
وبينما زميلي؛ في معتزلنا الإجباري الحالي، مازال مصغيا، ختمت قولي: منذ قرأت ذلك الفصل من كتاب عادل مصطفى، انشغلت بالبحث عن صاحب المصطلح، ووجدت في تفاصيل حياته جوانب شيقة، وتناقضات مثيرة، يكفيني، الآن، أن أتذكر بعض وقائع من حياته، فهو: وليام كوبيت (1763- 1835)، وكان ناشرًا ومزارعًا وصحفيًا وعضوًا في البرلمان الإنجليزي، فخلال الفترة من 1806 وحتى 1832 ترشح خمس مرات للبرلمان، باءت جهوده في الأربع محاولات الأول بالفشل، ونجح في الخامسة، ومات دون أن يكمل مدته النيابية. ومع أنه كان إصلاحيا، ويمينيا في بعض المواقف؛ خاصة تجاه الثورة الفرنسية، إلا أنه كان "ثوريا" في كشف فساد بعض الضباط الفاسدين، والمعاملة القاسية للرجال المجندين في الجيش البريطاني، وكتب رواية "صديق الجندي"، احتجاجًا على الأجر المنخفض والمعاملة القاسية للرجال المجندين في الجيش. والأهم بالنسبة له؛ وهو ما يكشف عن تناقضاته المثيرة، أنه جاء من بيئة فقيرة، فكان عصاميا في الثقافة والسياسة، وبدأ في العمل منذ سن مبكرة، وكتب متذكرا سنوات حياته الباكرة: "لا أتذكر وقتًا لم أكسب فيه رزقي. كان أول عمل لي أن أبعد الطيور الصغيرة عن بذور اللفت والغربان عن البازلاء". وذكر أنه "أصبح كاتبًا سياسيًا عن طريق الصدفة"، وعلى الرغم من أنه فضح المؤسستين السياسية والعسكرية البريطانية الفاسدة، إلا أنه حمل بعنف على دعوات الثورة.
هذا الرجل؛ جذبني للبحث في تفاصيل حياته وأفكاره شغفه بمصالح الرجل العادي وقدرته على الكتابة بلغة مفهومة من قبل الطبقة العاملة، والتي جعلته الراديكالي الإنجليزي الرائد في أوائل القرن التاسع عشر، هو من دلنا على مغالطة الرنجة الحمراء، التي يستخدمها النظام في مصر كثيرا لتضليل المصريين، وأرجو أن أكون قد بينت فسادها.