فى قصة الصراع القديم الجديد بين الشرق والغرب سنجد أن الغرب يتعامل مع هذا الصراع بطريقتين لا ثالث لهما: البطش الشديد والقسوة وإحداث أكبر قدر من الأذى، والسيطرة التامة على كل المقابض والمقاليد، فإذا تمت مواجهته بقوة والرد عليه وبما يهدده فعليا وعمليا، فإنه يلجأ إلى الطريقة الثانية فورا ودون أي تفكير وهي: الاحتواء والتبريد والتدوير، وإلى حين، وحتى تتكشف له نقاط الضعف والقوة ومكامنها وطريقة تعامله معها، ثم يصنع قراره ويأخذ خطواته في الاتجاه الذي يحقق له دائما أهدافه الاستراتيجية الكبرى، والتي هي كما هي، على الأقل حتى الآن، ثم يبدأ ثانية في القبض على زمام الأحداث وتفاعلاتها وبنفس طريقته القديمة.
رأينا ذلك كثيرا - بدرجات نوعية مختلفة - في أغلب الصراعات الكبرى التي كانت وحدثنا عنها التاريخ في هذا الصراع الممتد الموصول المتواصل، بدأ من طرق أبواب أوروبا شرقا: حصار العرب للقسطنطينية المرات الثلاث (653م 668م 717م)، والأكثر أهمية طرق أبواب أوروبا غربا عبر موقعة بلاط الشهداء(732م)، وبالطبع الحروب الصليبية (1095م 1291م)، والفتح العثماني للقسطنطينية (1453م)، إلى الهجمة الاستعمارية الكبرى التي أدت إلى تحطيم الدولة العثمانية (1923م) وغرس الخفير الشهير في قلب المنطقة (
إسرائيل) لجعلها في حالة دائمة من التوتر والتخلف والتصارع التافه مع إحداثيات متتالية من الهزيمة والانكسار والانتكاس، وما يلي ذلك من إحباط وانحطاط وهدم مادي ومعنوي لكل مقومات هذا الكيان الحضارى الكبير المعروف بـ"الشرق الإسلامي".
المفكر الكبير محمد عبد الله عنان (1896م- 1986م) حدثنا عن ظلال مهمة حول كل ذلك في كتابه المهم "مواقف حاسمة في تاريخ الاسلام"، وهو بالمناسبة يعتبر أن "حصار العرب ثم فتح الترك القسنطينية" و"بلاط الشهداء" أعظم الحوادث الحاسمة في صراع الشرق والغرب.
معركة "سيف القدس" أحدثت تغييرا تاريخيا هائلا في سردية هذا الصراع، وهو ما تعكف عليه مراكز التفكير وصنع القرار في الغرب بشكل مكثف، وظهر ذلك واضحا في طريقة التعاطي مع المشهد، مفاجأة وارتباكا وترددا وتغيرا من حال إلى حال.
ورحم الله العلامة الكبير المستشار طارق البشري، الذي كان يقول لأصدقائه دائما عبارة صوفية رقيقة عميقة: "لله في كل نفَس مائة ألف فرج قريب".. وقد كان رحمه الله يقول دائما على الصراع مع إسرائيل: "لسنا (يقصد مصر) طرفا في صراع بين متنازعين، ولكننا نحن موضوع الصراع وأحد طرفيه في ذات الوقت، وهذا الوضع يعطينا مزية لا تكون لغيرنا قط، وهي مزية لا ينفد معينها".
وكان يصف
المقاومة من اليوم الأول للانتفاضة الأولى 1987م قائلا: ما من بلد غلبه المعتدون على أمره وانتهى جهاده ضدهم إلا برد المعتدي، وقد تكسرت إمبراطوريات أمام هذا الصبر والتصميم والمصابرة وطول النفس؛ لأنه في صراع الوجود وفي مجال الدفاع عن الذات، يمكن للجماعة أن تُغلب مرة ومرات، ولكنها مجتمعة أو منفردة، لا تملك أن تتنازل عن الحق في الوجود الحاضر أو في البقاء في المستقبل، والأجيال تتوالى ولا يؤثر في حقوقهم ما انضغطت به إرادة أسلافهم.
"الفرج القريب" سنراه دائما يطل علينا في الأوقات الأكثر صعوبة في تاريخ هذه الأمة العظيمة.
جوزيب بوريل (74 عاما)، الإسباني المخضرم والممثل الأعلى للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية في الاتحاد الأوروبي، كان أحد وجوه التغير من حال إلى حال وبسرعة مدهشة لا تخلوا من طرافة. ففي آب/ أغسطس 2020م اعتبر أن
السلام لم يعد شرطا مسبقا للتطبيع، حيث طورت كل من السعودية والإمارات العربية "رؤية سردية" تصف التطبيع بأنه "محرك لعملية بناء الثقة الإسرائيلية العربية"، مما يخلق بيئة أكثر ملاءمة لحل الدولتين. لكن هذه الرؤية السردية باغتها ما باغتها ذات فجأة، فأصبحت في أيار/ مايو 2012م وعلى لسان بوريل أيضا: "تطبيع عدد من الدول العربية علاقاتها مع إسرائيل أعطى انطباعا بأن القضية
الفلسطينية انتهت وأن النزاع العربي الإسرائيلي بلغ نهايته". لكن الرجل والحق يقال، له جملة مهمة وهي أن: "مفاوضات عملية السلام لم تحل النزاع ولم توقف توسيع المستوطنات على الأراضي الفلسطينية".
عبارة "عملية السلام" كانت "شعارا يستخدم لإخفاء علامات الوقت" يعني: لتضييع الوقت.. هكذا قال ويليام كوانت (80 عاما)، أحد كبار العرابين لمعاهدة السلام الإسرائيلية المصرية (كامب ديفيد 1979م). وذكر ذلك في كتابه المهم "عملية السلام".. ما سيلفت نظرنا أن الكتاب يصف ويؤرخ لهذه "العملية" بدءاً من أم الهزائم في 5 حزيران/ يونيو 1967م.
"عملية السلام" تعتبر الظن أحد أهم "جثث" معركة سيف القدس.. وهذه العملية ينطبق عليها نظرية "الاحتواء والتبريد والتدوير" انطباقا مطابقا لما يقوله كتاب المؤامرة نصا وفصا، وكان المقصود بها الانتفاضة الأولى، من أول تصريح الجنرال بن أليعازر (1936- 2016م) الحاكم العسكرى للضفة الغربية وقتها لصحيفة معاريف الإسرائيلية، في 14 تشرين الثاني/ نوفمبر 1983م بأن لديه تقارير مهمة عن بروز ظاهرة إلقاء العرب بالحجارة على الإسرائيليين، وانتهاء بتصريح السيد عباس للسيد بلينكن في 25 أيار/ مايو 2012م بأنه ضد العنف ومع المفاوضات والمقاومة السلمية.. مرورا طبعا بمدريد وأوسلو وواي ريفر وكامب ديفيد 2000م، وخريطة الطريق والمحادثات الفلسطينية الإسرائيلية والمفاوضات المباشرة وطابا... إلخ، وحتى مبادرة ترامب للسلام (صفقة القرن) والتي قيل وقتها إنها أفضل ما يمكن أن يقدم للفلسطينيين..
وكما يقول المصريون الطيبون: "ياما في الجراب يا حاوي"، بمعنى ما أكثر الألاعيب في جراب الحاوي الذي يلهي الناس بألعاب سحرية وبهلوانية.
إذا كان المحيط الدولي قد فوجئ بما حدث في معركة "سيف القدس" وسيرتب أموره بالشكل التقليدي في المواجهة مع "القوة الكامنة"، فيها بكل ما تحمله تلك القوة من إيمان المقاومة وصواريخ المقاومة وتنظيم المقاومة، فإن المحيط الإقليمي أكثر مفاجأةً بل وقلقاً أيضاً، وستكون له كلمته التي لا بد من أن تتقاطع في مسار من مساراتها مع الغرب وخفير الغرب (إسرائيل) وخفير خفير الغرب (السلطة الفلسطينية).
معركة "سيف القدس" وضعت الغرب في أزمة، والمنطقة كلها في أزمة، ووجود إسرائيل نفسه في أزمة.
twitter.com/helhamamy