تقارير

كاتب لبناني لـ "عربي21": عرفنا الاحتلال الإسرائيلي مبكرا

هيثم مزاحم: اللبنانيون أسهموا في إسقاط وهم إسرائيل الكبرى (عربي21)

تنشر "عربي21" في قسم "فلسطين الأرض والهوية"، كل يوم جمعة، توثيقا أسبوعيا لفلسطين، كما تبدو فكرة ومفهوما في أذهان المثقفين والسياسيين والنشطاء الحقوقيين في العالم.. على اعتبار أن هذه الكتابات هي جزء من وثائق التاريخ الفلسطيني الحديث والمعاصر.

اليوم ننشر الجزء الأول من حوار أجراه الكاتب والباحث التونسي توفيق المديني مع الكاتب والإعلامي اللبناني الدكتور هيثم مزاحم.  

 

هزيمة 67 وما بعدها

 

بعد هزيمة 1967 كان شعار الكفاح الفلسطيني المسلح يحظى بدعم عربي واسع ولا سيما من قبل سوريا التي كانت ترفع شعار حرب التحرير الشعبية طويلة الأمد... ومن قبل مصر عبد الناصر الذي اعتبر أن المقاومة الفلسطينية هي ظاهرة أحرزتها الأمة للرّد على هزيمة 1967. وحتى الأنظمة الدائرة آنذاك في الفلك الإمبريالي لم تكن تجرؤ على إعلان مواقف مناهضة للكفاح المسلح الذي كان يحظى في حينه بتأييد شعبي عربي كاسح. وكان التحاق المئات من أبناء الشعوب العربية بحركة المقاومة الفلسطينية أحد تعبيرات الالتفاف الشعبي العربي حول الكفاح الفلسطيني المسلح. 

وجاءت حرب الكرامة في آذار/ مارس 1968 لتعزز من نهج الكفاح المسلح ولتؤكد مصداقية وصحّة الرهان عليه كوسيلة وحيدة لتحرير فلسطين. فالانتصار الفلسطيني في تلك المعركة، واندفاع عدد كبير من ضباط وجنود الجيش الأردني للمساهمة في تلك المعركة، قدم نموذجاً حياً لما يمكن أن يحققه الكفاح المسلح من نتائج ملموسة على الأرض.
 
كانت معركة الكرامة قد لفتت الأنظار لدى الإمبريالية وحلفائها الإقليميين إلى الخطر الذي تمثله هذه المقاومة الفلسطينية على مستقبل ووجود الكيان الصهيوني، ولذلك فقد شكلت نقطة الانطلاق لضرب المقاومة الفلسطينية على الساحة الأردنية، حيث بدأت منذ ذلك التاريخ التخطيط لضرب المقاومة. 

ويمكن القول: إن العصر الذهبي للكفاح المسلح لم يدم طويلاً ويمكن حصره في فترة ما بعد معركة الكرامة عام 1968 التي أعادت الثقة للشعب الفلسطيني بقدراته، وفي رفض الفصائل الفلسطينية عام 1969 مشروع الملك حسين ومبادرة روجرز، لأنها تتجاهل الأراضي المحتلة عام 1948، ولأنها تقود للاعتراف بإسرائيل.

في سيرورة الثورة الفلسطينية المعاصرة التي جاءت ردّاً على النكبة، والتي سطع نجمها في فضاء السياسة العربية والعالمية بفعل ممارستها وانتهاجها خط الكفاح المسلح في عملية المواجهة مع معسكر أعداء الأمة العربية، رفضت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية مشاريع التسوية المطروحة، ولا سيما مشروع روجرز، وهو ما اضطرها إلى التصادم مع النظام الأردني في أحداث أيلول الأسود عام 1970، إذ دفع الشعب الفلسطيني ثمناً باهظاً من الشهداء نتيجة رفضه لنهج التسوية. 


وجاء تطور الأحداث التي انتهت بالمواجهة بين المقاومة الفلسطينية ونظام الملك الأردني حسين بين 1969 و1970 بمذبحة للفدائيين (أيلول الأسود) قبل طردهم من المملكة، ليبدد أي أوهام لدى الزعماء الفلسطينيين الذين كانوا يضمرون الضغينة لبعض الأنظمة العربية التي لم تناصر قضيتهم منذ بداية النزاع مع الحركة الصهيونية. وقد انتهت المواجهة مع الأردن، بزيادة الضغوطات العربية والدولية على المقاومة الفلسطينية، ولا سيما بعد خروجها من الأردن، إذ فقدت أهم قاعدة جغرافية وسكانية للصراع مع العدو الصهيوني بطول 670 كيلومترا، لكي تتموقع من جديد في لبنان، بعد توقيع اتفاقية شتورا عام 1969. 

منذ نهاية الستينيات، وبعد الخروج من الأردن، وانتقال مركز ثقل المقاومة الفلسطينية إلى لبنان، بدأ بعض الفدائيين الفلسطينيين وبعض المجموعات اللبنانية المساندة لهم بالتسلل بشكل محدود من الجنوب اللبناني للقيام ببعض العمليات الفدائية، وكانت "إسرائيل" تردّ بعنف على القرى الجنوبية اللبنانية، فيرتفع صوت اليمين اللبناني مطالبا بوقف العمل الفدائي من لبنان، ليقابله صوت اليسار اللبناني وممثلي الطوائف الإسلامية بشكل خاص، مطالباً في المقابل بتسليح الجيش اللبناني وتحصين الحدود وبناء الملاجئ في الجنوب وتأمين مقومات الصمود والوقوف ودعم القضية الفلسطينية باعتبار أن العدو الصهيوني له مطامع في لبنان. 

في هذا المناخ المقاوم، ولد الدكتور اللبناني هيثم مزاحم في بلدة مشغرة في البقاع الغربي، لكنَّه نشأ وترعرع في بيروت وهو مقيم فيها حالياً، وقد التقته "عربي21" في حوار حول تشكل وعيه المبكر عن القضية الفلسطينية.

يعمل الدكتور هيثم أحمد مزاحم أستاذًا جامعيًا، وناشطًا إعلاميًا، وباحثا لبنانيًا في مجالات فكرية وفلسفية وسياسية واستراتيجية مختلفة، فقد حصل على شهادة الدكتوراه في الفلسفة من الجامعة اللبنانية ـ بيروت 2014 ـ 2015، ونشر دراسات ومقالات ومراجعات كتب باللغتين العربية والإنجليزية في عدد من الصحف والدوريات والمواقع الالكترونية. وعمل باحثاً في مركز الدراسات الاستراتيجية والبحوث والتوثيق ـ بيروت (1992 ـ 1998)، ورئيس مركز الدر اسات الآسيوية و الصينية في بيروت.


كما ألف عدة كتب، نخص بالذكر منها: كتاب "حزب العمل الإسرائيلي (1968 ـ 1999) الصادر عن مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية في أبوظبي في العام 2001، وكتاب لماذا تحدث الثورات؟ في سنة 2016، وكتاب "النظريات السياسية الشيعية الراهنة: من ولاية الفقيه إلى ولاية الأمة" في سنة 2017، وكتاب مونتغومري وات والدراسات الإسلامية الصادر عن جداول للنشر والترجمة والتوزيع، بيروت لبنان، الطبعة الأولى، تشرين الثاني (نوفمبر) 2018.

فلسطين كانت محور الحرب الأهلية اللبنانية
 
يقول الدكتور هيثم مزاحم عن بداية تشكل الوعي عنده عن فلسطين: "كانت بداية معرفتي بقضية فلسطين حين كنت طفلاً خلال الحرب الأهلية اللبنانية، حيث قرأت حينها كتاباً يشرح للصغار بطريقة سردية روائية قضية تقسيم سايس بيكو للمنطقة العربية ووعد بلفور الذي منح فلسطين للصهاينة.

ولم تمضِ سوى سنوات قليلة حتى غزا جيش الاحتلال الإسرائيلي لبنان صيف العام 1982، وحاصر العاصمة بيروت، حيث حوصرت عائلتي في منطقة الحمراء لأشهر عدة. وأذكر كيف أبكاني كلام الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات وهو يتحدث ويبكي في مقابلة معه على إحدى الإذاعات عن مجزرة صبرا وشاتيلا.

لنحو أكثر من عقدين من الزمن عرفنا واقع الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان وبقاعه الغربي، حيث حرمنا من الذهاب إلى بلدتي مشغرة بسبب وجود الاحتلال وعملائه فيها. وأذكر حين كنت أتابع مراسم عاشوراء في مدينة النبطية، وهي بلدة أمي، كيف هاجمت الحشود في 16 تشرين الأول (أكتوبر) 1983، موكباً لجنود الاحتلال دخلوا بسياراتهم وشاحناتهم إلى وسط الحشود حيث دارت معركة أحرق فيها المنتفضون جميع سيارات الدورية الإسرائيلية، وأسفرت الانتفاضة عن سقوط شهيد وقتلى وإصابات في صفوف جنود الاحتلال، وحصار تام للمدينة مدة ثلاثة أيام، وحملة اعتقالات بحثاً عن المقاومين، ما دفعني وأنا فتى صغير للمغادرة إلى بيروت خشية الاعتقال.

خلال هذه السنوات منذ ريعان الطفولة وصولاً إلى سن المراهقة والشباب، كانت فلسطين والكيان الإسرائيلي الذي أقيم على أرضها، حاضرين في قراءاتي واهتماماتي اليومية. فنحن اللبنانيون شعب مسيّس وجيلنا نشأ في الحرب الأهلية والاحتلال الإسرائيلي والاعتداءات الإسرائيلية اليومية بدءاً من اجتياح 1978، مروراً باجتياح 1982 وصولاً إلى عدواني 1993 و1997 وتحرير الجنوب والبقاع الغربي من الاحتلال في أيار (مايو) 2000.

ولعل أبرز تجليات جدلية الهزيمة في عام 1967 ظهور المقاومة اللبنانية التي استطاعت أن تُحرّر جنوب لبنان بقوة السلاح في 25 أيار / مايو عام 2000. ثم هناك حرب يوليو/ تموز 2006 التي مثلت فصلاً مُهماً من فصول نهاية "إسرائيل الكبرى" وتحطيم جيشها وقوتها الوهمية. فهذه الحرب كبدت دولة الاحتلال خسائر كبيرة لم تَخسرها على مدار تاريخها الحربي. ولا تزال لعنة حرب لبنان تطارد غالبية السياسيين والعسكريين في "إسرائيل" الذين سيدفعون ضريبة باهظة لفترة طويلة، لأن صمود المقاومة اللبنانية في وجه أسطورة الجيش الذي لا يقهر خلق أزمة وجودية "لإسرائيل" بسبب الإخفاق في تحقيق جيش العدو الصهيوني جملة من الأهداف الاستراتيجية للدولة "الإسرائيلية"، وهذا هو الجزء المهم في مضمون التقرير المرحلي للجنة "فينوغراد" الذي صدر في الثلاثين من نيسان (إبريل) 2007.

هذه القراءة تقودنا إلى الاستنتاج أن لدى شعوب الأمة العربية حيوية ملهمة ولكن ليست لديها مرجعية وطنية أو قومية. ورغم ذلك تمكنت هذه الحيوية من أن تحقق إنجازات متقطعة مثل إصرار مصر على الصمود بعد الهزيمة، و"معركة الكرامة" أوائل 1968، ثم انتفاضتي شعب فلسطين الأولى في نهاية عام 1987، والثانية في نهاية أيلول (سبتمبر) 2000، ضد الاحتلال والتهويد وبروز مقاومة الاحتلال في كل من فلسطين ولبنان والعراق التي استطاعت أن تهز المواقع الأمريكية ـ الصهيونية، عبر بَثِ روحية تحريرية جديدة في مقاومة الولايات المتحدة الأمريكية. فالأجيال التي ترعرعت بعد العام 1967 والتي تكوّن اليوم الغالبيّة العظمى من الشعوب، تدرس تاريخاً مُشبعاً بالخطاب الديني. ويثير هذا الخطاب أيضاً شعوراً بالذنب لدى كلّ من ينحرف عن التقوى ويضلّ الطريق القويم".