ارتاح كثيرون لفوز
قيس سعيد بالانتخابات الرئاسية
التونسية، حينما كان خصمه في تلك الانتخابات نبيل القروي، الذي كَشفت وثائق عن تعاقده مع ضابط مخابرات إسرائيلي سابق لتسويقه لدى الولايات المتحدة الأمريكية (اعتقل القروي بتهم فساد وأفرج عنه قبل أكثر من شهر)، وذلك في حين رفع سعيد الشعارات العروبية، والمناهضة للتطبيع (هذا بغضّ النظر عما يقال عن كون سعيد حصان طروادة مدفوعا بمكر إلى قلب المؤسسة التونسية).
لم يكن هذا الارتياح ناجما لمجرد الموقف المناصر لفلسطين، ولكن لأنّ التطبيع مع "إسرائيل" كان من أهمّ مشاريع قوى الثورة المضادة المناهضة للتحوّل الذي بشّرت به الثورات العربية، وفي طليعتها الثورة التونسية.
بالرغم من أنّ فوز سعيد في حينه بدا ضربة للثورة المضادة، للاعتبار المذكور، إلا أنّ فوزه لم يكن ليعني هزيمة
للثورة المضادة، وهو في ذاته دلالة على اهتراء النخبة السياسية الحزبية التونسية، وهو ما ذكرتُه في مقالة لي عقب فوزه. رأيت في فوزه تلك الضربة للثورة المضادة، دون هزيمتها، وفتح الباب في تونس لاحتمالات متعددة، مع ملاحظتي أيضا تلك الدلالة بفوزه على اهتراء النخبة السياسية. بيد أنه يمكن القول الآن بوضوح أكثر، إن فوزه كان انقلابا بالمعنى الاجتماعي لا السياسي، فالانتخابات انحصرت بين رجلين، أحدهما مغمور يفتقر إلى التجربة السياسية ومنعدم القاعدة الحزبية، وهو الذي فاز، والآخر شخصية إشكالية جدلية، مما كان يشير بالضرورة إلى ضيق الناس من نخبة ما بعد الثورة.
قيس سعيد نواياه معلنة منذ فترة طويلة، وثمة خطط تكشّفت في هذا السياق، ومحاولته الاستعانة بقوى الجيش والشرطة صريحة، وقوى الثورة المضادة تتأهب وتدعم، والاستثارة الشعبية بما يوفّر الغطاء الشعبي سهلة للاستعصاء والفشل السياسي الذي تعانيه نخبة ما بعد الثورة. ومع ذلك فإنّ المستهدف الأوّل من هذا الانقلاب، وهو حركة النهضة، لم يفعل شيئا غير متوقع
في المباشر، يمكن الآن ملاحظة قضيتين، الأولى اشتغال الثورة المضادة المحموم للإجهاز على بقايا الثورات العربية وحضور "الإسلام السياسي" في المجال العام، وبقاء هذا المشروع حاضرا في أولويات أجندتها بالرغم من كل التحوّلات الجارية، حتى في علاقات قوى الثورة المضادة ببعضها، والثانية أنّ هذا الانقلاب كان مكشوفا ظاهرا، فقيس سعيد نواياه معلنة منذ فترة طويلة، وثمة
خطط تكشّفت في هذا السياق، ومحاولته الاستعانة بقوى الجيش والشرطة صريحة، وقوى الثورة المضادة تتأهب وتدعم، والاستثارة الشعبية بما يوفّر الغطاء الشعبي سهلة للاستعصاء والفشل السياسي الذي تعانيه نخبة ما بعد الثورة. ومع ذلك فإنّ
المستهدف الأوّل من هذا الانقلاب، وهو حركة
النهضة، لم يفعل شيئا غير متوقع؛ من خارج "خط الانحناء المزمن للريح"، لمنع الانقلاب قبل وقوعه، أو إظهار الاستعداد لإبطاله ساعة وقوعه.
يمكن عدّ بداية الفشل؛ في
الدستور التونسي، الذي اعتمد النظام البرلماني، دون أية قيود من شأنها أن تَحُول دون تَحَوّل هذا النظام إلى عجز سلطوي دائم، مما يعني تسهيل الانقلاب على البرلمان للعجز السلطوي الناجم عن تربّص أحزاب البرلمان والشركاء ومواقع القرار ببعضهم، وعوزهم إلى التسويات البينية في أكثر القرارت. ومن ثمّ فإنّ القوى الممثلة في هذا البرلمان، لا سيما ذات الأغلبية، ستكون في صدارة المستهدفين، لكونها جزءا من النظام، مع أنّها، كما هو ظاهر، لا تتمتع بحضور قويّ في مؤسسات الدولة، وهو ما كانت تحتاجه لحماية التحوّل الديمقراطي وحماية نفسها، لكنها لم تفعله مرتكنة إلى براغماتية مفرطة، هي أبعد ما تكون عن الواقعية السياسية.
يمكن وصف براغماتية كثير من الإسلاميين بالفهلوة السياسية؛ التي لا تُلاحِظ موقع التكتيك في خدمة الاستراتيجيا، ولا أهمية الإنجازات الراهنة بالنسبة للأهداف البعيدة، فيصير بذلك التكتيك هو الاستراتيجيا، وتجاوز عقبات الراهن اليومي هو الهدف النهائي، ومن ثمّ لا يصير مستغربا أن ترتكز النهضة إلى تحالفات تكتيكية، تخدمها في الراهن لكنها لا تخدمها في المآلات، ثم لا يصير مستغربا غياب الحسّ النقدي عند كثير من الإسلاميين المراقبين، الذين يُبجّلون التجربة التونسية، ومن قبلها المغربية، لمجرد طول أمد الراهن، دون الفحص عن المنجز السياسي الحقيقي، أو عن التحوّلات المفصلية التي يفترض أن يقود إليها التكتيك اليومي!
يمكن وصف براغماتية كثير من الإسلاميين بالفهلوة السياسية؛ التي لا تُلاحِظ موقع التكتيك في خدمة الاستراتيجيا، ولا أهمية الإنجازات الراهنة بالنسبة للأهداف البعيدة
يندرج في السياق نفسه، المداراة الاجتماعية المتمثلة في التسليم بالنموذج الاقتصادي النيوليبرالي، وانعدام الرؤى الاقتصادية الخاصّة، والتنازلات الأيديولوجية المنفلتة. وينبثق التسليم والتنازل في الحالتين عن الرغبة في إثارة الإعجاب، التي تتحوّل بدورها إلى نظرية سياسية تتسم بالكثير من الادعاء، فضلاً عن فقر الفكر في النقد الجدّي للنماذج القائمة، والعجز عن تجاوز حالة الهزيمة النفسية إزاءها التي سلّمت بكونها نهاية التاريخ، وهو الأمر الذي سيفقد القوى المهزومة فكريّا قواعدها الاجتماعية بالتدريج، ويحوّلها إلى أغطية شعبية للمشاريع الانقلابية.
قد لا تكون مجريات
الانقلاب التونسي كالمصري، لاختلاف طبيعة الدولتين، واختلاف الفاعلين في الانقلابين، واختلاف القوى المدنية في المُجْتَمَعَيْن كذلك، وهو ما يخلق شيئا من الأمل بأن يكون المسار التونسي أزمة تفضي إلى تسويات، ولكن هذا ليس حتمية في الوقت نفسه، بيد أن المأمول الأكبر هو الاستفادة من هذه التجربة، بإعادة قراءة الإسلاميين لتجاربهم السياسية، بالتخلّص من آخر الأوهام المتمحورة حول تقديس شكلية الإنجاز على حساب الهدف والبرامج الجدّية المتمايزة.
twitter.com/sariorabi