في عام 1960م وفي عز قوة ومجد "الزعيم الخالد" وقتها نشر الكاتب الكبير توفيق الحكيم (1898-1987م) في جريدة الأهرام القاهرية الشهيرة مسرحية بعنوان "السلطان الحائر".. كان قد مر على حركة الضباط ثماني سنوات، وكانت صراعات السلطة قد انتهت وتربع كل ذي سلطان على سلطانه، وعلى رأس الجميع سلطان الزعيم الذي كان يشير اليه كاتبنا الكبير، والذي أراد أن يدق له الأجراس بقوة بعدما رأى وسمع وشاهد وعاين وتبين له بما لا يدع مجالا لأي شك أن ثمة صراعا عنيفا يدور في رأس السلطان بين سلطة القانون وسطوة السيف، وأنه ككل البشر في كل الأزمان تتملكه حيرة حارة بين أن يكون حاكما جمهوريا بسلطة القانون وأبنيته المساعدة من برلمان ورقابة وقضاء، أو أن يكون ملكا جمهوريا مستبدا غير قابل للمراجعة والمساءلة.
وكلنا نذكر تلك الحيرة التي كانت في رأس يوليوس قيصر (100– 44 ق.م) بعد أن حقق لروما أمجادا وانتصارات لم يحققها حاكم روماني من قبل، وبالتالي يحق له ما لم يكن يحق لأي حاكم قبله. شاعر الإنجليز الكبير شكسبير (1551- 1616م) سطر سطور هذه المأساة بكل تفاعلاتها التي جمعت تقريبا كل تناقضات وصراعات البشر والحياة: صداقة وحب ونصر وعبقرية وحكمة ومجد ووفاء، وعكس كل ذلك.. ثم يأتي أخيرا متفردا مختالا سيدهم جميعا: وَهم الخلود!.
دائما هناك تبرير وتفسير ومبررات مبرئات مما قد يُظن من سوء في النية والفعل.. فعلها إبليس وتحدث عن الغواية والطين والنار وما إلى ذلك، وقال واستطال فيما قال، وعليك أن تصدقه في ادعائه بأنه لم يستكبر ولم يعص ولم يتمرد على خالقه سبحانه وتعالى!!
يقولون إن كل من يصل إلى السلطة يقع تحت تهديد التحول إلى ديكتاتور ثم ديكتاتور بشرطه، أي ديكتاتور فاسد، وإذا كانت هذه السلطة مطلقه سارحة اليدين فهي الهلاك المطلق والفساد المطلق للديكتاتور وللناس ولكل شيء.
الاستبداد والديكتاتورية والانفراد بالأمر والنهى يعرّض الإنسان - أي إنسان - لتغير جوهري في طبيعته الإنسانية العادية، إذ تحدث السلطة المطلقة فيه حاله من الانهيار العام لمبادئه وشخصيته وسلوكه وخياله وأفكاره ومواقفه وعلاقاته، أي باختصار سنكون أمام إنسان آخر تماما، لا علاقة له بإنسان ما قبل السلطة المطلقة
الاستبداد والديكتاتورية والانفراد بالأمر والنهى يعرّض الإنسان - أي إنسان - لتغير جوهري في طبيعته الإنسانية العادية، إذ تحدث السلطة المطلقة فيه حاله من الانهيار العام لمبادئه وشخصيته وسلوكه وخياله وأفكاره ومواقفه وعلاقاته، أي باختصار سنكون أمام إنسان آخر تماما، لا علاقة له بإنسان ما قبل السلطة المطلقة. يقولون إن إنسان ما بعد السلطة المطلقة يشبه إنسان ما قبل التاريخ في شراسته وغلظته وبدائيته وقلقه وخوفه ممن حوله ومن مستقبله، فلا يمكن أن يوجد إنسان آدمي تتجمع في قبضة يديه سلطة مطلقه إلا وتحدث في خلايا مخه كمية من التغيرات النوعية العميقة، والقصة هنا تكمن في مرّكب السلطة نفسه.
حين أصدر الرئيس التونسى قيس بن سعيد قراراته المؤجلة من أيار/ مايو الماضي - كما سيأتي ذكره - قال إنه استشار رئيس الحكومة ورئيس مجلس نواب الشعب وطبق الفصل 80 من الدستور، وليذهب إلى الجحيم كل تناقض حدث من قبل في دنيا التناقضات الشهيرة أمام تناقض الرئيس قيس؛ في استشارة وإعفاء رئيس الحكومة واستشارة وتجميد مجلس النواب ورئيسه! وليذهب إلى الجحيم أيضا ما ناقض به الرئيس نفسه حين قال في مدينة القيروان قبل عامين أمام الدنيا والناس، بمناسبة إحياء المولد النبوي الشريف في جامع عقبة ابن نافع، إن القيم الحقيقية والنبيلة للإسلام وللإيمان بالله وبالتوحيد تقوم على: "الاستقامة" في كل مجالات الحياة و"الأمانة". وأضاف الرجل بكل وضوح وتحديد أن القضية اليوم تتعلق بـ"الأخلاق".. سنحاسب على كل خطوة أمام الله وأمام الشعب وأمام التاريخ..
تقول العرب إن شر الكلام ما ناقض بعضه بعضه، والرجل خالف وناقض الثلاثة في طلعة واحدة كما يقول المصريون الطيبون: الاستقامة والأمانة والأخلاق.. انحرف عن نص وروح المادة 80 من الدستور - والتي استند إليها - وانتهكها ليس مرة واحدة بل أكثر من مرة!!
رئيس الحكومة محتجز في مكان مجهول (قبل أن يظهر مؤخرا)، رئيس مجلس النواب مُنع من الوصول إلى مجلس النواب، المدرعات تقف أمام المجلس الذي منعه الجيش من الانعقاد، رغم أن المادة 80 تنص على أن يظل منعقداً طوال الفترة الاستثنائية، التي لم تأت بعد! (انهيار وشيك للنظام العام).
رأينا أن كل ما فعله الرئيس قيس طوال الأيام التي تلت هذه القرارات لم يكن إلا معالجة ملفات فساد عادية؛ حقيقية كانت أم غير حقيقية
وقد رأينا أن كل ما فعله الرئيس قيس طوال الأيام التي تلت هذه القرارات لم يكن إلا معالجة ملفات فساد عادية؛ حقيقية كانت أم غير حقيقية، والفساد في كل صورة ومكان له معالجاته القديمة قدم الدول والحكومات نفسها.. المدهش أن القرارات ذكرت أيضا أنه سيصدر أمرا يُنظم هذه التدابير الاستثنائية التي حتمتها الظروف والتي ستُرفع بزوال أسبابها، فهل يقصد بهذه الأسباب
الفساد؟ فإلى الآن لم نر في الحقيقة مهددات منذرات بانهيار وشيك. أكثر من ثلثي بلدان العالم تسجل أقل من 50 درجة على مؤشر مدركات الفساد (المقياس من صفر إلى 100.. الأكثر فسادا إلى الأكثر نزاهة)، ولم يحدث في بلد واحد منها أن وقفت مدرعة أمام البرلمان ومنعت رئيسه من الدخول!!
تقول الحكاية التي ستخرج منها ألف حكاية وحكاية، أن هناك وثيقة سُربت من داخل قصر قرطاج ونشرها موقع "ميدل إيست آي" في 13 أيار/ مايو الماضي بأن عددا من مستشاري الرئيس قيس أعدوا خطة انقلاب شامل، تتضمن الإطاحة بكافة مؤسسات الدولة ومنح السلطات كافة إلى الرئيس، وجعله ينفرد بحكم البلاد. وتقترح الوثيقة استدعاء كافة السياسيين والممثلين عن مؤسسات الدولة إلى القصر لمقابلة الرئيس ومنعهم من الخروج، ووضع عدد كبير من مسؤولي الدولة في إقامة جبرية واعتقال آخرين ومنع آخرين من السفر.. إلخ.
مجرد حديث الرئيس شخصيا عن وثيقة وتسريب وما إلى ذلك - وليس تنفيذ محتواها بعد 70 يوم من نشرها - يشير إلى أن في تلافيف الأمور أمور، وأن المعلن فوق الطاولة يختلف تماما عما هو تحت الطاولة
الرئيس قيس علق على هذه الوثيقة في اجتماع مع رئيس الحكومة ووزير الدفاع الوطني وقتها قائلا: أصبحنا على وشك تأسيس وزارة خاصة بالتسريبات، فلان ذهب وفلان خرج وفلان قال. مجرد حديث الرئيس شخصيا عن وثيقة وتسريب وما إلى ذلك - وليس تنفيذ محتواها بعد 70 يوم من نشرها - يشير إلى أن في تلافيف الأمور أمور، وأن المعلن فوق الطاولة يختلف تماما عما هو تحت الطاولة.
كثيرون أشاروا في هذا الصدد لتغريده أحد رجال الأمن الخليجيين قبل قرارات الرئيس بيومين أو ثلاثة، ومرة ثانية، مجرد نشرها تفاهة في تفاهة.. صحيح أن هناك أصابع كثيرة بالغة الاتساخ تشير إلى هنا وهناك، لكنك للأسف لن تجد إلا "عصير التفاهة"، إذ لو بحثت عن "فكرة عميقة مُوجَهة بمُثل عليا" خلف كل ما يحدث من 2011م موصولا بهذه الجهة، فلن تجد إلا الخواء والوضاعة والأباطيل.
لكن أهم تعليق - في رأيي - هو ذاك الذي كتبته صحيفة نمساوية مؤخرا ونشرته كثير من المواقع؛ من أن ما يجرى في
تونس سيؤدى إلى ما لا تتمناه أوروبا كلها، وقالت نصا: "بؤرة جديدة مضطربة جنوب البحر الأبيض المتوسط بجوار ليبيا هو آخر شيء يمكن أن تحتاج إليه أوروبا".
وإذا زدنا من الشعر بيتا، سنجد أنك تتحدث عن توتر قابل للتمدد مغاربيا بنسب توقع كبيرة تفوق كثيرا ما حدث من عشر سنوات مضت وانقضت.
twitter.com/helhamamy