بصرف النظر عن اختلاف مواقف
التونسيين والقوى الإقليمية والدولية من "إجراءات 25 تموز/ يوليو"، فإن تلك "الإجراءات" قد غيرت المشهد التونسي بقواعد التفاوض وموازين الضعف التي تحكمه. ويبدو، بعد تجميد مجلس النواب وحل الحكومة وفرض "حالة الاستثناء"، أن الرئيس في موقع تفاوضي قوي سيسمح له - بعد استعادة المبادرة من كل القوى السياسية ومن الاتحاد العام التونسي للشغل - بفرض خارطة الطريق التي كان طرحها قبل اتخاذه لتلك الإجراءات ولكنها لم تكن محل ترحيب من أغلب الفاعلين الجماعيين.
ورغم قبول أغلب مكوّنات "العائلة
الديمقراطية" بإجراءات الرئيس - مع وجود بعض الاستثناءات التي لا تنقض القاعدة - فإن حسابات تلك القوى أو انتظاراتها من الوضع الجديد لا تتطابق بالضرورة مع مشروع الرئيس، وهو ما يعني أن الصراع بين الرئيس والبرلمان، بل صراع الرئيس ضد الديمقراطية التمثيلية والنظام السياسي والوساطات الحزبية وغيرها، ليس إلا لحظة أولى ستعقبها صراعات مؤكدة بينه وبين العديد من القوى التي ما زالت تسانده بتحفظ، ومن المتوقع أن تظهر تلك الخلافات بعد طرح الرئيس خارطة الطريق خلال الأيام القادمة.
الصراع بين الرئيس والبرلمان، بل صراع الرئيس ضد الديمقراطية التمثيلية والنظام السياسي والوساطات الحزبية وغيرها، ليس إلا لحظة أولى ستعقبها صراعات مؤكدة بينه وبين العديد من القوى التي ما زالت تسانده بتحفظ، ومن المتوقع أن تظهر تلك الخلافات بعد طرح الرئيس خارطة الطريق خلال الأيام القادمة
وسنحاول في هذا المقال أن نتطرق إلى بعض الأسباب التي قد تصدّع "الجبهة الرئاسية"، وتعيد هندسة المشهد التونسي خلال الفترة المقبلة.
بعد إغلاق البرلمان، أثبتت مواقف أغلب القوى الفاعلة سياسيا ونقابيا ومدنيا – بما فيها القوى الممثلة في البرلمان والمستفيدة من النظام البرلماني المعدل وقانون "أفضل البقايا" - هشاشة النظام السياسي التونسي وفقدانه لكل مقومات المناعة. إذ أظهرت الوقائع أنّ الرئيس قد نجح في إظهار الصراع وكأنه ليس صراعا ضد الديمقراطية التمثيلية والمنظومة الحزبية، بل هو صراع ضد حركة
النهضة وحزامها الحزبي "الفاسد". وقد ساهم هذا "الإخراج" للصراع في تفتيت القوى البرلمانية والحزبية والدفع بأغلبها إلى مساندة الرئيس. فالرئيس – حسب هؤلاء - قد نجح في ما فشلوا فيه بالوسائل القانونية والدستورية، قبل اعتماد الفصل 80 من الدستور: إخراج حركة النهضة وحلفائها خاصة ائتلاف الكرامة؛ من مركز الحقل السياسي، وهو ما يعني - حسب توقعاتهم - إعادة هندسة المشهد البرلماني والسياسي بعد انتهاء مرحلة الاستثناء؛ بصورة مختلفة جذريا.
إن "التقاطع" بين الرئيس وبين أغلب مكونات "العائلة الديمقراطية"، بأحزابها ومنظماتها ونقاباتها وإعلامها ونخبها، هو واقع سابق على إجراءات 25 تموز/ يوليو. فإذا كانت صورة "القوى الديمقراطية" تكاد تُختزل في الوعي الجمعي بمعاداة النهضة وائتلاف الكرامة (وهي معاداة تتراوح بين منطق الاستئصال الصلب ومنطق الاستئصال الناعم، مع الإقرار بوجود بعض الأطروحات النقدية العقلانية ولكنها ما زالت أقلية ومهمشة)، فإن معاداة الرئيس للديمقراطية التمثيلية وحربه على الفساد تكاد تُختزل هي أيضا في حركة النهضة وائتلاف الكرامة.
هذا التقاطع يخفي اختلافات جذرية بين الرئيس و"العائلة الديمقراطية"، وهو اختلاف يبدو أن سياسات الرئيس بعد 25 تموز/ يوليو - خاصة استبعاده لتلك "العائلة" من دائرة القرار بل من دائرة الاستشارة - قد نبّهت بعض "قوى المساندة" إلى أهميته، الأمر الذي دفعها إلى الانتقال من منطق المساندة المطلقة إلى منطق المساندة المشروطة أو النقدية
ولكنّ هذا التقاطع يخفي اختلافات جذرية بين الرئيس و"العائلة الديمقراطية"، وهو اختلاف يبدو أن سياسات الرئيس بعد 25 تموز/ يوليو - خاصة استبعاده لتلك "العائلة" من دائرة القرار بل من دائرة الاستشارة - قد نبّهت بعض "قوى المساندة" إلى أهميته، الأمر الذي دفعها إلى الانتقال من منطق المساندة المطلقة إلى منطق المساندة المشروطة أو النقدية.
رغم إيمان الرئيس
قيس سعيد بأن ما حصل في تونس هو "ثورة"، فإنه لم يُخف يوما معارضته لعملية مأسسة تلك الثورة واستحقاقاتها، بدءا من الدستور وانتهاء بالنظام السياسي. فمنذ أن كان خبيرا دستوريا صرح بنهاية زمن الديمقراطية التمثيلية (وما تعنيه من وساطة الأحزاب)، بل صرّح بعد عمليتي الاغتيال السياسي خلال حكم الترويكا بضرورة أن يرحلوا جميعا "بحكومتهم ومعارضتهم".
إننا أمام قناعات معروفة أكدتها تصريحات السيد قيس سعيد بعد وصوله إلى قصر قرطاج. وما لم تفهمه "العائلة الديمقراطية" إلى حد الآن هو أن صراع الرئيس ضد حركة النهضة سببه الأهم هو أنها الحزب الأهم في الديمقراطية التمثيلية وفي المنظومة الحزبية، كما لم تفهم أن الرئيس كان سيصارع أي حزب آخر لو اختلفت السياقات، ولو كان ذلك الحزب دستوريا أو قوميا أو يساريا. فضرب الديمقراطية التمثيلية والمنظومة الحزبية يقتضي ضرب الحزب الأقوى بصرف النظر عن أيديولوجيته، تمهيدا لمشروع الرئيس القائم أصلا على عدم الحاجة إلى "الوساطات" بين الإرادة الشعبية و"الزعيم" الذي يُجسده.
ما لم تفهمه "العائلة الديمقراطية" إلى حد الآن هو أن صراع الرئيس ضد حركة النهضة سببه الأهم هو أنها الحزب الأهم في الديمقراطية التمثيلية وفي المنظومة الحزبية، كما لم تفهم أن الرئيس كان سيصارع أي حزب آخر لو اختلفت السياقات، ولو كان ذلك الحزب دستوريا أو قوميا أو يساريا
إن دعم "القوى الديمقراطية" للرئيس يعود أساسا إلى طبيعة انتظاراتها منه: هندسة مشهد سياسي جديد يتراوح بين تهميش حركة النهضة أو حتى حلها في الحد الأقصى، وتغيير النظام السياسي إلى نظام رئاسي يحد من صلاحيات مجلس النواب ولكنه يحافظ على دوره الرقابي، وإشراك "القوى الديمقراطية" في صنع القرار بصورة حقيقية. وهي انتظارات تفترض أن مشروع الرئيس يقبل الشراكة مع الأحزاب ومع نخب "الانتقال الديمقراطي"، أو يبقي على دورها المعروف في الديمقراطية التمثيلية.
إننا أمام "سوء فهم" جذري لمشروع الرئيس، وهو سوء فهم يتجاوز الأحزاب إلى غيرها من أشكال الوساطة مثل النقابات، بل حتى منظمات المجتمع المدني والإعلام. فكل هؤلاء يظنون أن الرئيس قد جاء لخدمة مشاريعهم، ولا يطرحون بجدية فرضية أنهم هم من يخدمون مشروع الرئيس دون قصد منهم.. ولكن ما هو مشروع الرئيس؟
رغم غياب أدبيات واضحة لمشروع الرئيس، فإن مشروع "الديمقراطية المجالسية" يطرح نفسه باعتباره لحظة تجاوز أو بديلا للديمقراطية التمثيلية، ولكل الوساطات التقليدية المرتبطة بها (خاصة الأحزاب). وإذا كانت أغلب مكونات "العائلة الديمقراطية" توافق الرئيس في ضرورة الانتقال إلى النظام الرئاسي لتجاوز المآزق التي أوجدها النظام البرلماني المعدّل، فإنها لا يمكن أن تجاريه في باقي نقاط مشروعه: إسقاط الوساطات التقليدية من الأحزاب وغيرها، ومركزة السلطة بين يدي الرئيس ومن معه في مشروعه دون إشراك "النخب الديمقراطية"، والمحافظة على سلطة الأحزاب "الديمقراطية" وأشكال الوساطة النقابية والمدنية وغيرها.
لقد أكدنا في كتابات سابقة أن مشروع الرئيس ليس إلا لحظة توافقية ثانية، مهما كان التوصيف السياسي والدستوري لإجراءات 25 تموز/ يوليو، أي لحظة تجسد عدم الحاجة إلى حركة النهضة والنظام البرلماني المعدّل لتجاوز الأزمة الحالية لمنظومة الحكم، ولضمان مصالح القوى الإقليمية والدولية التي تقف خلف نواتها الصلبة.
مهما كانت الأجوبة التي ستقدمها الأيام القادمة للأسئلة الواردة أعلاه، من المؤكد أن تونس لن تخرج من منطق التوافق وإن تغيرت أطرافه ومحاوره ورهاناته. فالرئيس لا يبدو قادرا على مواجهة النواة الصلبة لمنظومة الحكم (المركّب المالي-الجهوي- الأمني)، وإن كان قادرا على فرض بعض "الإصلاحات" السطحية أو الشكلية عليه
ولعل الإشكال الأهم الذي يواجه الرئيس وكل القوى الداعمة له هو في تحديد شكل "التسويات" الممكنة أو المقبولة بين مختلف الأطراف، فهذه اللحظة التوافقية ما زالت "هلامية" وقابلة لأكثر من مسار تبعا لخارطة الطريق التي سيقدمها الرئيس: هل سيعلق العمل بالدستور أم لا؟ هل سينهي حالة الاستثناء أم سيجعلها مفتوحة ودون سقف زمني؟ هل سيعود مجلس النواب للعمل ووفق أية شروط وصلاحيات؟ هل سيدفع الرئيس بمشروعه السياسي للاستفتاء الشعبي أم لا؟ هل سيكون الاستفتاء حول النظام الرئاسي فقط أم سيكون على نقاط أخرى في مشروع الرئيس؟.. الخ.. الخ.
مهما كانت الأجوبة التي ستقدمها الأيام القادمة للأسئلة الواردة أعلاه، من المؤكد أن تونس لن تخرج من منطق التوافق وإن تغيرت أطرافه ومحاوره ورهاناته. فالرئيس لا يبدو قادرا على مواجهة النواة الصلبة لمنظومة الحكم (المركّب المالي-الجهوي- الأمني)، وإن كان قادرا على فرض بعض "الإصلاحات" السطحية أو الشكلية عليه. فتلك النواة ليست مجرد فاعل محلي - من وارء الستار - بل هي وكيل لمصالح إقليمية ودولية يصعب على الرئيس أن يهددها بصورة جدية. وهو ما يعني في التحليل الأخير أن مخرجات "إجراءات 25 تموز/ يوليو" لن تتجاوز المشهد السياسي ولن تغير شيئا في واقع التبعية البنيوية للخارج، بحكم غياب أي مشروع وطني جامع، أو غياب الكتلة التاريخية القادرة على تحقيق مقوّمات السيادة والتعبير عن القرار الوطني المستقل عن المحاور الإقليمية والقوى الدولية النافذة في الشأن التونسي.
twitter.com/adel_arabi21