-1-
هنا القاهرة
هنا مصــرُ تفقـــدُ أبناءَها
وفي عينــها نظـــــرةٌ حائـرة
هنا الدم يجري على الأرضِ ماءً
هنـا يُقصـفُ الفكرُ بالطائرة
(خالد الطبلاوي)
-2-
"ساقونا كالأنعام إلى كرسي المذبحة"
"أحبائي، أكتب هذه الرسالة قبل موتي، لكنني لا أعرف اليوم بالتحديد الذي سأقتل فيه وأقربائي. يدي ترجف، ومن الصعب مواصلة الكتابة إلى النهاية، كنت أحب الحياة وأتمنى تحقيق شيء من الخير، لكن كل شيء قد فُقد. إخوتي من جميع البلدان، انتقموا لنا إنهم يقودوننا كأكباش إلى كرسي الموت. وداعا".
هذي رسالة عمرها 79 عاما سطرتها فانجا بارباكوف في 16 حزيران/ يونيو 1942م قبل أن تلقى حتفها، تعرضها مؤسسة "ياد فاشيم" في معرضها عبر الإنترنت مع عشرات الرسائل التي تمس المشاعر الإنسانية والتي كتبها ضحايا يهود قبل قتلهم من قبل النازيين، تحت عنوان "إنها أسطرهم الأخيرة قبل الموت". وفي حجرات الأرشيف للمؤسسة بالقدس توجد أكثر من 200 مليون صفحة من الوثائق، و450 ألف صورة و125 ألف تقرير لشهود عيان جمعتها "ياد فاشيم"ـ لتكون فيما بعد أكبر أرشيف للهولوكوست في العالم.
فماذا عن
توثيق هولوكوست "رابعة والنهضة" وغيرهما من عشرات المذابح البشرية التى ارتكبها العسكر في
مصر منذ اندلاع الثورة الشعبية في 25 كانون الثاني/ يناير 2011م، مرورا بالمرحلة الانتقالية وإجراء الانتخابات الرئاسية، وصولا إلى الانقلاب العسكري في 3 تموز/ يوليو 2013م، وما صاحب ذلك من الإبادة الجماعية لأنصار الشرعية والمعارضين السياسيين بسبب آرائهم وأفكارهم وأيديولوجياتهم ومعتقداتهم؟
-3-
بعيدا عن الجدل الذي يثار دائما عند مناقشة أحداث هذه الجريمة البشرية، لكن الحقيقة تشير أن المنظمة الصهيونية العالمية واللوبي الصهيوني استطاعا إبقاء الحدث تاريخا حيا لا يموت منذ قرابة 80 عاما، بالرغم من أن الحزب النازي الألماني في هذه المرحلة من الحرب العالمية الثانية (1939-1945) استهدف مجموعات أخرى من البشر، فقد تضمنت قائمة ضحايا الهولوكوست بخلاف اليهود؛ الغجر، والسلاف وخاصة في الاتحاد السوفييتي وبولندا ويوغوسلافيا، وذوي الإعاقة، والمثليين، وجماعة "شهود يهوه"، والسود، فضلاً عن المعارضين السياسيين، ولكن تضاءل ذكرهم وغاب الحديث عنهم لعدم حمل قضيتهم.
لقد نجح اليهود واللوبيات الصهيونية في أوروبا الشرقية وأمريكا في استعمال كافة الأدوات الفنية والثقافية والسياسية والاجتماعية لجعل مناصرة الهولوكوست من ضرورات الحياة كالماء والهواء والدواء، وكسب تعاطف المجتمع الدولي، فأنشأوا المتاحف في معظم العواصم، وأقاموا المعارض والمراكز في أغلب المواقع، ودشنوا المؤسسات الخاصة بالأرشفة والحفظ والتوثيق بالصور والفيديوهات والأفلام الوثائقية، وتقديم أكثر من 200 فيلم، أغلبها من إنتاج هوليود وألمانيا وإسرائيل وبعض دول أوربا الشرقية، حصدت معظمها مئات الجوائز الدولية.
-4-
كنت هناك حاضرا وشاهدا، حيث افترش الآلاف أرض رابعة العدوية، في اعتصام سلمي دام 48 يوما، قوامه من الأحرار والحرائر الرافضين لحكم العسكر وانقلابهم، يمثلون كافة الشرائح العمرية والثقافات الشعبية والتوجهات السياسية. ترى فيهم مصر المتعطشة للحرية والتواقة للديمقراطية، أرواحهم متوضئة بحب مصر، وأفئدتهم تهفو إلى الكرامة الإنسانية، يتمسكون بتلابيب أمل لدولة مدنية عايشوها عاما تنصرم من أيديهم. وكان بيان انقلاب 3 تموز/ يوليو 2013م بمثابة طوفان يغرق أحلامهم ويدمر أمانيهم، فكان الاعتصام ملاذا لهم لعلهم يفلحون في النجاة بوطنهم.. عشرات الآلاف يروحون ويجيئون ومثلهم معتصمون لا يفارقون أرض الميدان.
يخرجون نهارا في مظاهرات يومية تجوب القاهرة الكبري وتنضم إليهم الجماهير بكل مناطق عبروها، ثم يعودون للميدان ليلا، فتسمع مزامير القرآن في خيامهم وصلوات القيام ودعاء الليل في ابتهالاتهم، وأذكار الصباح يستقبلون بها يوما جديدا. ومع قدوم شهر رمضان تحول الميدان الى معتكف للصائمين ومدرسة للمناضلين. وساد بينهم الشعار: "سلميتنا أقوى من الرصاص" يستمدون منه عنوان اعتصامهم؛ رفضا للعنف وإشهارا لعدم التورط في أعمال فوضى وشغب. ومع كل إشراقة شمس يترقبون ثمة تصويبا لقرارات الجنرال العسكري عبد الفتاح السيسي وجوقته في احترام الشرعية والإرادة الشعبية؛ والعدول عن خطته وهو يرى هذه الملايين الرافضة لعسكرة مصر ودفن معالم الدولة المدنية الحديثة.
-5-
صبيحة يوم 14 آب/ أغسطس 2013م، كان المعتصمون المسالمون بميدان رابعة والنهضة بالجيزة في اعتصامهم؛ لا يدرون أنهم على موعد مع يوم من أسخن شهور آب/ أغسطس خلال القرن الحالي.. انفتحت عليهم جهنم بكل لهيبها وعذابها وأشرارها.. قوات الجيش والشرطة تحرق الأحياء وتقنص الأطفال والشباب والبنات والنساء والعجائز.. مذبحة القرن.. الكل محصور بين الموت والموت..
أغلقوا كافة الطرق المؤدية إلى الاعتصامين، واستمرت المذبحة من السادسة صباحا حتى السادسة مساء تتساقط خلالها أجساد المحاصَرين، ونصبوا لهم شراك ممرات آمنة للخروج، فمن سلكها كان بين معتقل وشهيد. وشاهد العالم في بث مباشر لمدة 12 ساعة واحدة من أبشع المجازر البشرية راح ضحيتها 2200 شهيد حسب منسق المستشفى الميداني في رابعة العدوية، و802 قتيلاً وفقا لبعض الموثقين.
ووصفت منظمة هيومن رايتس ووتش استخدام قوات الأمن المصرية للقوة في فض الاعتصامات بأنه أسوأ حادث قتل جماعي التاريخ المصري الحديث. وصنفت المنظمات الدولية الحقوقية ما حدث في رابعة والنهضة كإبادة جماعية، حيث أنه التدمير المنتظم لكافة أو جزء من مجموعة عرقية أو إثنية أو دينية أو وطنية.
وفي الذكرى الدموية الثامنة ثمة استفهامات حزينة وأسئلة محتقنة تتحشرج في حلوق ذوي الضحايا والمصابين والمفقودين قبل غيرهم من كل المناصرين للإنسانية؛ حول الصمت الدولي عن محاكمة القتلة الدمويين وهم معلومون بالضرورة ويسكنون قصور الحكم ولايزال بعضهم في مواقع المسئولية؟
-6-
استطاع اليهود والمنظمة الصهيونية العالمية إحياء الهولوكوست (اليهودي) مثالاً ونموذجا للإبادة الجماعية، رغم مرور 80 سنة واكتساب حقوقهم القانونية والإنسانية وتعاطف المجتمع الدولي، فما بال القوم من الإخوان المسلمين وتحالف دعم الشرعية والمناصرين للقضية العادلة والإنسانية يتقاعسون ويقعدون خلال ثماني سنوات عن توثيق مذبحة الألفية الحالية؛ مجزرة الفض أكثر المجازر بشاعة في مصر؟ وكيف يقف الجميع مكتوفي الأيدي حيال قيام النظام الانقلابي في مصر حاليا وعلى رؤوس الأشهاد بطمس معالم مجزرة هولوكوست رابعة والنهضة والعبث بالشهود والأحراز والأدلة، وتزوير التاريخ وتغيير ملامح مسرح الجريمة؟!