لا تحتار وأنت تبحث عن دور شعراء فلسطين في ترسيخ حضور فلسطين في التاريخ والحاضر.. غير أن شاعرنا الكبير محمد العدناني يجعلك في حيرة من أمرك، في أي مجال تصنفه، أهو الشاعر أم الباحث أم العالم أم اللغوي أم النحوي؟!
لطالما قرأتُ، ككاتب يحب البحث في لطائف اللغة العربية وصحيح الألفاظ والمعاني، في كتاب "معجم الأخطاء الشائعة"، واعتمدته في كتابتي كمرجع في الكتابة الصحفية، نظراً لأن كاتبه يشرح الأسباب ويضرب الأمثلة، معتمداً على أكثر من ثلاثمائة مرجع ومصدر. ولم يخطر ببالي أن مؤلف الكتاب هو نفسه الشاعر الفلسطيني المخضرم محمد العدناني.
المفاجأة جعلتني أعيد قراءة شعره برؤية أعمق، آخذاً بعين الاعتبار عمق هذا الشاعر وتبحّره في علوم اللغة العربية، وهو عضو الشرف في المجمع اللغوي الأردني، وله محاولات لتوحيد المجامع اللغوية العربية (أو توحيد معاجمها)..
اهتمامه بالقضية واضح من ثاني خطأ لغوي يعالجه في الكتاب، وهو:
لا بدّ للعرب من استرداد فلسطين، طال الزمن أم قصر..
لا بد للعرب من استرداد فلسطين، سواءٌ أطال الزمن أم قصر
كما ذكرنا في المقالات السابقة، الشاعر الفلسطيني المخضرم هو الذي عاصر النكبة بين موجتين شعريتين، فظهر دوره التحريضي ضد الاحتلال البريطاني والتحذير من الحركة الصهيونية والاستيطان الصهيوني في فلسطين، وخرجت مآسي ومشاهد النكبة في شعره، ثم عايش تطورات القضية الفلسطينية في محيطها العربي، وتناول التطورات السياسية في المنطقة بقصائده، وخصوصاً الحروب والوحدة العربية. فهو شاعر من شعراء الاتجاه الواقعي في الشعر الفلسطيني، بالأسلوب الاتباعي الكلاسيكي. وهو في الوقت نفسه قاص وباحث ودارس وناقد مميز، وعالم لغوي مرموق.
وهو الذي تحول من دراسة الطب إلى الأدب العربي بتوصية من أمير الشعراء أحمد شوقي، ولهذا قصة مثيرة، حيث أن العدناني التحق بالجامعة الأمريكية لدراسة الطب، ودرس الطب فعلاً سنتين تحضيريتين وسنتين في الطب، وكان شوقي يصطاف في لبنان عام 1923، وزاره العديد من الأدباء المخضرمين والشبان للسلام عليه، وكان محمد العدناني بينهم. وقرأ محمد العدناني أمامه قصيدة يعارض فيها قصيدة ابن زريق الشهيرة:
لا تَعذِليه فإن العذلَ يولعُهُ .. قد قلتِ حقاً ولكن ليس يسمعُهُ
وعندما وصل العدناني في قصيدته إلى قوله:
رأيته عندَها والدّمع مضطربٌ .. والجفنُ يحبسُهُ والوجدُ يدفعُهُ
فَخِلت نفسك تدري ما ألمَّ بِه .. يومَ الفراقِ وما تبديهِ أدمعُهُ
وفي المآقي دموعٌ لست تنظرُها .. وفي الضلوعِ أنينٌ لستَ تسمعُهُ
عند ذلك قام أحمد شوقي من مكانه طرباً وإعجاباً، وقبّل العدناني من جبينه وأثنى عليه، واستحلفه أن يتحول من دراسة الطب إلى دراسة الأدب، ووعده أن يكون أباً روحياً له. ونزل محمد العدناني عند طلب أمير الشعراء أحمد شوقي، ودرس الأدب العربي في الجامعة الأمريكية.
من هو محمد العدناني؟
ولد شاعرنا عام 1903 في مدينة جنين بفلسطين، وكان والده هو القائم مقام فريد عبد الله خورشيد حاكماً لجنين (في العهد العثماني)، ثم لطولكرم وغزة والقدس ومن بعد دمشق وصيدا. لذلك درس العدناني الابتدائية والإعدادية في مدارس جنين وطولكرم وغزة ودمشق، واستكمل دراسته الثانوية في مدرسة الفنون بمدينة صيدا اللبنانية عام 1920.
ونظراً لاعتزازه بعروبته، غيّر اسمه من محمد فريد عبد الله خورشيد إلى محمد العدناني، ذلك لأنه رأى أن اسم خورشيد ليس عربياً، وكنيته أبو نزار.
وبعد تخرجه عام 1927 عمل مدرساً للغة العربية في الثانوية المركزية ودار المعلمين العليا في بغداد، لكن شاعرنا لم يهدأ هناك وناضل ضد الاستعمار واعتقلته سلطات الاحتلال البريطاني مرتين، وضايقته بشكل دائم بحجة أنه يقوم بتحريض الطلاب العراقيين على سلطات الانتداب، فغادر العراق عائداً إلى فلسطين عام 1931، وحطّ الرحال في مدينة نابلس، حيث عمل مدرساً للأدب العربي في كلية النجاح (1931 ـ 1933)، خلفاً لشاعر فلسطين إبراهيم طوقان.
ومن نابلس انتقل إلى القدس للتدريس في الكلية الرشيدية التي مكث فيها تسع سنوات (1933- 1942). وهناك لم يهدأ أيضاً، واعتقلته سلطات الاحتلال البريطاني أثناء إقامته في القدس ثلاث مرات، واتهمته في إحداها بقتل مدير المتحف الفلسطيني في القدس المستر "إيليف".
وفاز في هذه الأثناء بالجائزة الأولى لمسابقة "حرب الطيارات" سنة 1941.
وفي أثناء الحرب العالمية الثانية، نفته سلطات الاحتلال البريطاني سنة 1942 إلى يافا، وفرضت عليه الإقامة الجبرية فيها حتى نهاية الحرب العالمية الثانية 1945، وفي يافا تولى التدريس خلالها في المدرسة العامرية.
وفي أيار النكبة، كان محمد العدناني نزيل المستشفى في مدينة القدس، وقد وقع هذا المستشفى في قبضة العصابات الصهيونية، فكان عليه أن يغادر بلده وهو مقيد بأربطته، إلى مدينة الزرقاء بالأردن، ثم رحل إلى سورية، وأقام في دمشق فترة مارس خلالها التدريس في جامعتها وفي دار المعلمين.
ثم انتقل إلى حلب بشمال سوريا، وهناك لمع نجمه من جديد بثقافته ونشاطه، حيث درّس اللغة العربية في جامعتها، وامتد نشاطه إلى سائر أوساط المجتمع حيث برز وتألق في غمار الحركة الثقافية والحياة الأدبية، وأصبح أديباً مرموقاً وشاعراً مبدعاً، ألفته المنابر والمحافل في المناسبات القومية والاجتماعية في المناسبات الوطنية والدينية المختلفة. وتولى رئاسة اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد القومي الفلسطيني في محافظتي حلب وإدلب إبان الوحدة بين سوريا ومصر.
وفي عام 1964 بلغ سن التقاعد فرحل من حلب إلى لبنان، وأقام في مدينة صيدا، متفرغاً للإنتاج الأدبي، وظل فيها إلى أن توفي في مثل هذه الأيام قبل 40 عاماً (5 آب / أغسطس 1981).
من دواوينه الشعرية: "اللهيب" 1954. "ملحمة الأمومة" 1957. "فجر العروبة" 1960. "الوثوب" 1965. "الروض" 1965. "العدنانيات" (ثلاثة مجلدات) 1984.
من دراساته: "أمير الشعراء شوقي". "أبو بكر".
من قصصه: "في السرير" قصة واقعية. "أقاصيص الأطفال". "قصص عالمية للأولاد والأحداث"، سلسلة أكثر من 80 قصة بالاشتراك مع روز غريب.
من مؤلفاته في اللغة: "النحو البسيط". "الإعراب". "الروضة للمحفوظات". معجم الأغلاط اللغوية المعاصرة. "معجم الأخطاء الشائعة".
في غمار الشعر:
بدأ الشاعر محمد العدناني الشعر مبكراً، واعتلى المنابر فتياً، حيث ألقى وهو في السابعة عشرة من عمره قصيدة في مدرسته بعنوان "الاستقلال"، يقول فيها:
وهبتُ لأمتي قلبي ولبّي .. وآمالي، وأحلامي العِذابا
وأهلي أجمعينَ، وكلَّ صحبي .. وشِعري والأحبةَ والشبابا
فمن لم يفدِ أمتَهُ بروحٍ .. جَنى من دَهرِهِ المحنَ الغضابا
واعتقله الفرنسيون إثر إلقائه قصيدة "شهداء العروبة" عام 1927 في بيروت، والتي يقول فيها:
كَفكِف دموعَكَ واشهدْ أدمعَ القلمِ .. حمراءَ تهتِكُ سترَ الظلمِ والنقمِ
واسمع دويَّ نفوسٍ أرعدَتْ غضباً.. على دخيلٍ يداهُ التاثتا بدمِ
واذكر رجالاً فَدوا بالروحِ أمتَهُم .. فأنقذوها وقد أشفتْ على العدمِ
ولم يترك شاعرنا قضايا الشعوب العربية، فكتب في معظمها، وعلى رأسها ثورة الجزائر في ديوانه "الوثوب" سنة 1965:
كم مَضَّني جرحُ الجزائر .. وَقَضَت على حِلمي المجازر
..
لولا الجماجمُ، والدما .. ءُ، تسيل نهراً، والعساكر
ما فاز باستقلاله .. شعبٌ، ولا انتشتِ المشاعر
فالفجر يـأتي قانياً .. لِيَزُفَّ بالصبحِ البشائر
وفي أثناء النكبة، كتب شاعرنا قصائده النارية في دعم المجاهدين في حرب فلسطين، ومنها قصيدته "القائد الشهيد" في رثاء عبد القادر الحسيني:
زغردي اليوم يا جِنان الخلود .. واهتفي بالنشيد تلو النشيد
جاء سبطُ الرسولِ طلق الأسار .. يرِ محاطاً بهالة التمجيد
..
يا حُماةَ الحِمى، ورمزَ الأماني .. وأسود الوغى، وغيظَ الحسودِ
أبِّنوا القائد المجاهد بالنا .. رِ ولا تكتفوا بنار قصيدي
ولم يتوقف العدناني عند الشعر العامودي، بل نظم بعض الأناشيد، ومنها "نشيد فلسطين":
تاريخها فخرُ .. وتربُها تِبرُ
وجوُّها سحرُ.. وخيرها بحرُ
فتًانةُ القلبِ .. ومُنيةُ العربِ
ومنتهى حبي .. روحي لها مهرُ
وعن ضياع فلسطين، ومسؤولية العرب، كتب أبياتاً تشبه قصيدة عمر أبو ريشة (أمتي)، فقال:
لقد ضاعت فلسطين ولمّا .. نعدّ لخصمنا حرباً زبوناً
أليس الذئب يفتكُ بالمواشي.. إذا ما بات حارسَها الأمينا
ونختم النماذج الشعرية بمقطع من قصيدة "ذكرى بدر" التي ألقاها الشاعر محمد العدناني في مهرجان أقيم في القدس سنة 1946:
سلوا التاريخ عما قد فعلنا .. وقد دارت رحى بدرٍ طَحونا
سَحَقنا الشِّركَ فيها دونَ لينٍ .. ومزّقنا صفوف الكافرينا
لكلّ ثلاثةٍ منهم شُجاعٌ .. من الشُّوسِ الأباةِ المؤمنينا
إذا شدَّت كُماةُ العُرْبِ مادت .. جحافلُ خصمهم هلعاً وهوناً
وحَسبُهمُ الرسولُ أخا جِلادٍ .. يفضُّ الجحفلَ اللجبَ الحرونا
فيمعنُ في جناحيهِ اقتحاماً .. ومَن لم يَقضِ خلَّفهُ طعيناً
"بيت عائلة السقا" التاريخي.. أول منتدى اقتصادي عرفته فلسطين
جنين.. مدينة الجنان والبساتين والمقاومة
محمود سليم الحوت.. نموذج الفلسطيني المثقف والمعلم