ضرب
التونسيون موعدا مع الشارع مجددا، بعد قرارات رئيس الدولة التي عطلت البرلمان وشلت الحياة السياسية، وركزت جميع السلطات في يديه، كنتاج مباشر للمحاولات العبثية التي جرت خلال الأشهر الماضية من أجل "مصرنة" الحالة التونسية عبر سيناريوهات خاصة، حتى باتت البلاد على شفا العودة إلى مرحلة حكم الفرد التي اتسمت بها حقبة ما قبل
الثورة.
إنها ثورة الياسمين التي اندلعت قبل عشر سنوات، وكان للشارع فيها فعل السحر في نفوس أبناء شعب تواق للحرية؛ تمكن في غفلة من الزمن من إشعال الشرارة الأولى، لينير الطريق أمام ثورات الربيع العربي، فأضحت تونس بثورتها وتجربتها التعددية علامة مضيئة تبعث الأمل، وسط منطقة حالكة السواد بأنظمتها القمعية.
هذه الخصوصية التي تمتعت بها الثورة التونسية لم تستند إلى فضل السبق فقط، وكان لما أفرزته من توافق وتعددية رمزية خاصة، بعدما استوعبت جميع الفرقاء السياسيين، وشكلت في بداية الأمر فسيفساء متجانسة تمحورت حول مبادئ الدستور وإعلاء القيم المشتركة التي توافق عليها الجميع، وأكدت عدم قبول الردة إلى الخلف مرة أخرى.
ظلت التجربة التونسية تشكل حالة ديمقراطية فريدة في المنطقة حتى حانت لحظة الانقلاب عليها، بعد سلسلة من الأزمات الاقتصادية، والتجاذبات السياسية، وتردي الخدمات، وفشل المؤسسات المنتخبة في أداء دورها، إضافة إلى تململ المواطن الذي لم يجد ثمرة الديمقراطية وفق ما كان يحلم به
ظلت التجربة التونسية تشكل حالة ديمقراطية فريدة في المنطقة حتى حانت لحظة الانقلاب عليها، بعد سلسلة من الأزمات الاقتصادية، والتجاذبات السياسية، وتردي الخدمات، وفشل المؤسسات المنتخبة في أداء دورها، إضافة إلى تململ المواطن الذي لم يجد ثمرة الديمقراطية وفق ما كان يحلم به، أو ما يليق به على أقل تقدير.
وكعادة الفيروسات الفتاكة التي لا تهاجم الجسم السليم إلا بعد إضعاف جهازه المناعي وانهيار مقاومته، بدأ محور الثورة المضادة في المنطقة استهداف تونس، واستغلال أزماتها الداخلية للانقضاض على التجربة الديمقراطية، وإفشال النموذج الذي استعصى على أفهامهم خلال العقد الأخير، بعدما عصفت المحن المتتالية بمختلف ثورات الربيع العربي.
بالطبع لم يكن تركيز دول المحور المعادي للربيع العربي على تونس بنفس القدر الذي كان مع دول محورية تمتلك حدودا مشتركة مع دولة مدللة في المنطقة يُعنى الغرب بتأمينها، وتستخدم الدول الكبرى حق "الفيتو" من أجل عيونها، كما هو الحال في مصر أو سوريا، لكن الدور جاء وأصبحت تونس على رأس قائمة الأولويات، بعدما استتبب الأمر في مصر لصالح الانقلاب، ودخول سوريا واليمن مرحلة اللا عودة حاليا، ومحاولات السيطرة المتتالية على ليبيا لضمها إلى معسكر الثورة المضادة، وهو ما يجري حاليا بهدف تطويقها بنظام انقلابي من الغرب يسهّل مأمورية السيطرة عليها.
إن عودة الزخم إلى الشارع التونسي، والحراك المستمر ضد الانقلاب أمر مطلوب بطبيعة الحال؛ لكن الضغط الشعبي لن يحسم الأمر وحده، ويحتاج التونسيون إلى تفكيك عوامل القوة لدى محور الثورة المضادة، الذي التف على سلطة منتخبة وطوّعها وفق إرادته، حتى التبس الأمر على بعض البسطاء، الذين يرون خيارهم الديمقراطي يتصرف بهذه الطريقة المشينة.
عودة الزخم إلى الشارع التونسي، والحراك المستمر ضد الانقلاب أمر مطلوب بطبيعة الحال؛ لكن الضغط الشعبي لن يحسم الأمر وحده، ويحتاج التونسيون إلى تفكيك عوامل القوة لدى محور الثورة المضادة، الذي التف على سلطة منتخبة وطوّعها وفق إرادته
يحتاج أبناء الثورة إلى الانتصار في معركة الوعي لكسب أرض جديدة، نظرا لأن الطرف الآخر يمتلك من وسائل الدجل ما يستطيع به تلبيس الأمور على المواطنين، لا سيما مع ظهور نخب أعماها الحقد على حركة النهضة عن رؤية الحقيقة، حتى أنها لا تجد غضاضة في بقاء الاستبداد السلطوي الذي يمارسه الرئيس طالما بقي البرلمان بأغلبيته خارج المشهد، ولا يعنيها نسف قيم الحرية والديمقراطية في سبيل الإطاحة بالمكون الإسلامي تماما.
وهذه أمور تحتاج إلى فتح الباب واسعا لمناقشة مختلف المبادرات الوطنية، التي تهدف إلى الخروج من الأزمة الحالية، ومحاولة الوصول إلى أرضية مشتركة تجمع ألوان الطيف السياسي التونسي، سعيا لإنهاء حالة السيولة السياسية التي يعوّل عليها محور الثورة المضادة في استمرار الانقلاب.
ويظل تحييد المؤسسة العسكرية عن الصراع الحالي أمراً في غاية الأهمية، بعد التسريبات التي تدعي وقوفها خلف قرارات سعيد، ولن يتأتى ذلك إلا بزيادة اللحمة الوطنية، واستمرار محاولات رأب الصدع من أجل الوصول إلى الكتلة الحرجة، التي يستعصي معها الاستمرار في مخطط الانقلاب على التجربة الديمقراطية في البلاد.
يظل تحييد المؤسسة العسكرية عن الصراع الحالي أمراً في غاية الأهمية، بعد التسريبات التي تدعي وقوفها خلف قرارات سعيد، ولن يتأتى ذلك إلا بزيادة اللحمة الوطنية، واستمرار محاولات رأب الصدع من أجل الوصول إلى الكتلة الحرجة، التي يستعصي معها الاستمرار في مخطط الانقلاب
وعندما تصل الأمور إلى هذه المرحلة الفارقة، يحدث التمايز، ويفرض المواطن إرادته، بعيدا عن ادعاءات قيس الوصل بليلى (الشارع التونسي)، وتأكيده في أكثر من مناسبة أن قراراته تحظى بظهير شعبي يساندها ويقف وراءها، وهو أمر فضحته الكاميرات التي أظهرت أن ليلى تونس تمتلك رأيا آخر غير الذي يدندن به
قيس سعيد، حينما خرج التونسيون يعلنون تمسكهم بالدستور، الذي يمثل عقدا اجتماعيا ومرجعية قومية تحول دون الفرقة وتحكم بين المختلفين، ويعول عليها في إيقاف حالة التشظي القائمة حاليا.
هذا الضغط الشعبي المتواصل حتما سيوقف الرئيس التونسي أمام مسؤولياته، لتصبح الشعارات التي يعلنها على المحك؛ ولا وسيلة حينئذ لاختبار جدية شعاراته سوى إعلان الانتخابات المبكرة، التي يمكن أن تشكل حلا لمعضلة دستورية وضع فيها البلاد بعد تجميد البرلمان، واختزال جميع السلطات في يده، ووقتها يكون لكل حادث حديث.