كتب

رؤية جديدة للديمقرطية غير الوافدة البرَّانية من الغرب (2من2)

في عالم ما بعد الحداثة برزت خطابات جديدة مزعزعة للمحورية الغربية حول الديمقراطية

الكتاب: "البحث عن ديمقراطية عربية: الخطاب والخطاب المقابل"
الكاتب: الدكتور العربي صديقي
الناشر: مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى 2009
(504 صفحات من القطع الكبير)


يواصل الكاتب والباحث التونسي توفيق المديني في الجزء الثاني والأخير من عرضه لكتاب "البحث عن ديمقراطية عربية: الخطاب والخطاب المقابل"، لصاحبه الدكتور العربي صديقي، استعراض مقومات الديمقراطية وشروط نجاحها.

الديمقراطية التعددية

بما أن مصلحة الديمقراطية تقتضي التعددية، ولا سيما أن الديمقراطية متغيرة وتعددية بطبيعتها، فإن الديمقراطية هي خصيصة مميزة ترفض عنف الإقصاء من خلال الثبات والسلطوية والأحادية. تلك هي الفكرة الجوهرية التي يدافع عنها الكاتب، أي رفض النظرة الواحدانية بخصوص الديمقراطية التي تصر على أن هذه الأخيرة متأتية من عقل واحد أو من حقبة تاريخية واحدة أو من نظام حكم سياسي واحد.

ويوضح الباحث الصديقي هذه الفكرة بقوله: "ربما لا يمكن دحض التأكيد بأنها حتّى الآن المنتج النهائيّ السياسيّ للحضارة الغربية، فالديمقراطية الإثينية، والنهضة، والإصلاح الأوروبي وعصر العقل، تشكّل جزءاً من تراث الحضارة الغربية السياسي، لكنّ الحضارة الغربية جزء من الحضارة الإنسانية. ولذلك فإنّ تلك المزاعم الاحتكارية بأنّ الديمقراطية منتج أوروبي حصراً هي مزاعم إقصائية ومتعصبة إثنيّاً في آن معاً. وقد طُبق هذا المنطق الاعتذاري داخل الغرب وخارجه لتبرير حكم المستبدين التابعين. ويجب على الشعوب غير الأوروبية ألا تذلّ وألا تمنح الغرب احتكار ممارسة الديمقراطية (ص 30).

التحدِّيات التي تواجهها الديمقراطية

ويضيف الباحث الصديقي قائلا: "إنَّ مناظرة الديمقراطية في الشرق الأوسط العربي لا يحدث في فراغ، ويجب وضع هذه المناظرة التي يمكن رسمها هنا بصورة عامّة جداً فقط، في السياق الغربي نظراً إلى أن أصول الديمقراطية غربية من الناحيتين النظرية والعملية. ويتجلّى في الغرب التحدي الذي تلقاه خطابات الديمقراطية السائدة من خطابات مضادة ظهرت حديثاً. وهكذا قدّم انبثاق الديمقراطية انقسامات جديدة وقديمة على حدّ سواء وما يسميه شميتر "أخطاراً ومعضلات"، ففي أواخر الحداثة، أصبحت مناظرة الديموقراطية حادة جداً. ولفهم هذه القابلية للمناظرة، لابدّ من تقديم خريطة للتضاريس التحليلية والنظرية الشاسعة لمناقشة الديمقراطية التي طرحها عدد من الخطابات. وقد تمّ ربط الكتابات النقدية عن الديمقراطية بخطاباتها النموذجية بغية عدم تتفيه قوّتها وخصوصيّتها. تتكوّن التضاريس التحليلية من خطوط استجواب قديمة وجديدة تركّز على مسائل تتعلّق باتساع الديمقراطية إثارة مسائل مزعزعة للاستقرار في إطار تاريخي معولم ومناصر للحركة النسوية وتعدديّ" (ص ص35 ـ 3).

في عالم ما بعد الحداثة، برزت خطابات جديدة مزعزعة للمحورية الغربية حول الديمقراطية، ردًّا على مجموعة من الضغوط أو الإجتهادات أو التحديات المطروحة من جانب النزعة الأبويّة الغربية، وإنسانية عصر التنوير والعولمة والأحادية الثقافيّة. وثمة أربع مدارس فكريّة مؤسسة لهذه الخطابات الجديدة، منها ـ الحركة النسوية، وما بعد الحداثة، والتضامن العالمي والإصلاح، وتعدّدية الثقافات / الكوزموبوليتانيّة ـ التي تشكل القوالب التي صيغ ضمنها إضفاء الراديكالية على مناقشة الديوقراطية والمجادلات الناجمة عنها.

علماً أن مرحلة ما بعد الحداثة، بوصفها وجهة نظر عالميّة نقدية، لا تشكل نظرية سياسية متّسقة خاصة بالديمقراطية، ولا موقف ما بعد حداثي واحد من الديموقراطية. غير أنَّ هناك وجهة نظر ما بعد حداثية بشأن إشكالية الديمقراطية. لكن ما يصر عليه الكاتب، هو أن تشترك مرحلة ما بعد الحداثة في النقد الدائم للمحورية الغربية بصدد الديمقراطية، في سبيل بلورة نظرية خاصة ومميّزة للديمقراطية التي أقرّ فوكو بأنّ الحداثة تكبتها بصورة منهجيّة، وبالتالي يجب أن تفعل ذلك لأغراض الانعتاق ما بعد الحداثة، وهي أغراض لا يمكن تقييدها بالمنطق الأسسيّ للعمل العقلانيّ أو بعمليات استحضار ثابتة وشمولية للمشروع التنويري الغربي. 

فلا السوق السياسية المنفتحة والقادرة على المنافسة هي الديمقراطية، ولا اقتصاد السوق يشكل بحد ذاته مجتمعاً صناعياً. بل إنَّ في وسعنا القول، في الحالتين، إنَّ النظام المنفتح سياسياً واقتصادياً شرطٌ ضروريٌّ من شروط الديمقراطية أو التنمية الاقتصادية، لكنَّه غير كافٍ. صحيح أن لا وجود لديموقراطية من دون حرية اختيار الحاكمين من قبل المحكومين، ومن دون تعددية سياسية، ومن دون حرية تعبير، لكننا لا نستطيع الكلام عن ديموقراطية ما إذا كان الناخبون لا يملكون إلا الاختيار بين جناحين من أجنحة الأوليغارشية أو الجيش و / أو جهاز الدولة، لأن العولمة الرأسمالية التي تقودها الولايات المتحدة الأميركية تتساهل تجاه انضمام دول مختلفة لاقتصاد السوق، منها دول تسلطية، ومنها دول ذات أنظمة تسلطية آخذة بالتفكك، ومنها دول ذات أنظمة يمكن تسميتها ديموقراطية، أي أن المحكومين فيها يختارون بملء إرادتهم وحريتهم من يمثلهم من الحاكمين.

هجوم العولمة الرأسمالية المتوحشة

يقول الباحث الصديقي في هذا الصدد: "إنَّ إضفاء الإشكاليّة والخلاف على الديمقراطية هو أيضاً ردّ على اكتساح العولمة والقوى والعناصر الفاعلة العابرة للحدود القوميّة على نطاق غير مسبوق. لقد أصبحت الحدود الإقليمية والثقافية والاقتصادية والسياسية غير محكمة الإغلاق بفعل هجمة العولمة، فمن جهة، تعني العولمة انتشار الخطابات الديمقراطية، لكنها من جهة أُخرى تولّد ممارسات غير ديمقراطية، وخصوصاً عن طريق سيطرة أقلية غير مسؤولة من أصحاب الشركات والمشاريع على حياة ومعاش غالبيّة كبرى من البشر. لقد سرّعت العولمة التي لا تعتبر بأي حال من الأحوال عملية منتظمة أو إيجابية أو تكاملية أو لا تُعكس، جدليّات إلغاء القطرية واللاقطرية، والمحليّة واللامحليّة.

يصف تعريف غيدنز (Giddens) للعولمة "تكثيف العلاقات الاجتماعية العالميّة التي تربط الحقائق البعيدة بحيث تشكّل الأحداث التي تقع على بعد أميال عديدة الوقائع المحلية والعكس بالعكس". ثمة عنصر مهمّ غائب عن تعريفات العولمة، وخصوصاً في ما يتعلق بجدليّات التبادل، وهو عنصر الاختلاف. ربما لا يوجد شيء يوضح هذه النقطة مثل نقل موقع الديموقراطية من بيئتها الخاصّة والمحددة، أي الغرب، وترجماتها المحلية في بيئها الجديدة. (ص41).

فالفكرة الديمقراطية التي يتبناها "الوعي السلطوي" العربي، والتي سبقتها صراعات اجتماعية وسياسية وحتى عسكرية، ومخاضات عسيرة حول مفهوم الديمقراطية وآليات تطبيقها، ومدى ملاءمتها للبيئة العربية، ظلت عرضة للأخطار والانتكاسة والتراجع بسبب عدم احترام السلطات للحرِّيات الأساسية، وعدم اتجاهها نحو الحد من سلطة الدولة على الأفراد، وبقائها أسيرة المصالح الخاصة، والحزبية الحاكمة، ذات المنشأ غير الديموقراطي.

والحقيقة، أن الديمقراطية تبدأ بإرساء نظم علاقات ديموقراطية وممارستها مؤسساتيا، كما تتطلب التغيير في العقليات والتكوين النفسي، لا في الشكل فحسب ولكن أيضا في المضمون. ومن الأفضل للسلطة السياسية التي ترفع لواء الحداثة والديمقراطية وحقوق الإنسان أن تبدأ بممارسة هذه القيم داخل أطرها المؤسساتية، لأن فاقد الشيء لا يمكن أن يعطيه. وهذا ما هو ليس حاصلاً، وربما لن يحصل في العالم العربي.

ويعتقد الباحث الصديقي، أنَّ بحث الديمقراطية في إطار العولمة، يوجب النظر ملياً في نوعين من الاختلاف على الأقل: "معنى الديموقراطية الإقليمية في عصر انتشار القوى التي تعمل فوق الأمة ـ الدولة، وقابلية نجاح المعايير والإجراءات والمؤسّسات الديموقراطية في العلاقات بين الدول. وتخضع الصلة الجهازيّة التقليدية بين وضع الخرائط الإقليمية والمجتمع السياسي للتهديد بالإكراه. 

 

من الأفضل للسلطة السياسية التي ترفع لواء الحداثة والديمقراطية وحقوق الإنسان أن تبدأ بممارسة هذه القيم داخل أطرها المؤسساتية، لأن فاقد الشيء لا يمكن أن يعطيه. وهذا ما هو ليس حاصلاً، وربما لن يحصل في العالم العربي.

 



وثمة أسئلة تُطرح عن معنى السيادة في عالم يزداد فيه عمل الشركات العابرة للحدود القوميّة والشركات المتعددة الجنسيات خارج نطاق الولايات القانونيّة الوطنية. وتمارس المجالس الإدارية والتنفيذية غير المنتخبة شعبياً التي تدير الشركات المتعدّدة الجنسيات سلطة كبيرة تصل في الغالب إلى حدّ التأثير في صنع القرار وفي الخيارات السياسية للقادة السياسيين المنتخبين. ويمكن الشعور بنفوذها على حدّ سواء في دول قوية ودول ضعيفة وكذلك في دول ديموقراطية ودول غير ديمقراطية...

لقد أنتج التحدي الذي تواجهه الديمقراطية القطريّة من القوى العابرة للحدود القوميّة وتركّز العولمة حركات من دعاة الإصلاح الراديكاليّ العالميّ ودعاة التضامن العالميّ. ويتخذ الأخيرون شكل هويات هجينة / عابرة للحدود القومية ونضالات تسعى إلى التعبئة تحت الدولة، بأسلوب محلّي، وفوق الدولة، بأسلوب معولم. إنّ هذا النموذج الحديث النشأة للمقاومة التي تخوضها هويّات وجماعات كانت مهمشة سابقاً وانعتاقها يؤدي حاليّاً إلى تهميش الدولة القطريّة بصورة نسبية وعن غير قصد" (ص ص 41 ـ 42)..

لقد دخلت الديمقراطية، بوصفها كلمة دالة، دخلت الشرق الأوسط العربي عندما فقد حريّته أمام القوى الاستعمارية وما تلا ذلك من خلال نشوء نظام الأمة ـ الدولة. لكن بانتقال الكلمة الدالة من مسرحها الغربي إلى الشرق الأوسط العربي تحرّرت من جسدها وتضعضعت بالتالي أهميتها. وينطبق ذلك على الأقل على الروايات السلفيّة والتوفيقية التي تدقق في الدلالات الأصلية أو تزعزعها وفقاً لتصوراتها للمجتمع والهوية. وبرفض الديموقراطية، على سبيل المثال، قد تصف الرواية الداعية إلى السلفيّة الديمقراطية باعتبارها غريبة تماماً، ويحيلها إلى عالم "الآخرية". بالمقابل، قد تسعى الرواية التوفيقيّة إلى تسوية وتفاوض مع الحديث والتقليدي على السواء.

لحظة تاريخية

ما يهدف إليه الباحث الصديقي في هذا العمل البحثي الكبير والموثق والذي يدل على سعة اطلاعه واستيعابه لمنتجات الفكر الغربي حول الديموقراطية سواء في عصر الحداثة أو في عصر ما بعد الحداثة. وأهم ما يميز هذا الكتاب أنه تمتزج فيه جوانب التناول التاريخي والسياسي والأيديولوجي والفلسفي، في صياغة منهجية وبحثية رفيعة ليصل إلى ما يسميه المؤلف نفسه "لحظة تاريخية في المجتمعات العربية... حيث تبدو على درجة كبيرة من الثقة في الانخراط مع مسألة "الديمقراطية" والمشاركة في مثلها الأعلى وتجربتها".

إنَّ الديمقراطية الحقة هي تلك التي تقوم على اعتراف السلطة العربية بضرورة إعادة النظر في بنية الدولة السائدة حالياً، لجهة بناء دولة المؤسسات، دولة كل المواطنين، لا دولة حزب واحد، أو دولة أفراد مهما كبرت أدوارهم التاريخية. ويتطلب بناء الدولة الحديثة أن تطلق السلطة حواراً وطنياً واسعاً طال انتظاره حول قوانين الدولة الوطنية الحديثة، بدءاً من قانون الأحزاب والجمعيات إلى قانون المطبوعات إلى قانون الأسرة وغيره، فضلا عن بناء المؤسسات المجتمعية المقتنعة بالحريات الفردية والعامة، وضمان ممارستها في المجتمع، وعدم كبحها. والحريات الفردية والعامة لا يمكن أن يكون لها وجود عياني ملموس مالم يكن المحكومون قادرين على اختيار حكامهم بملء إرادتهم، وما لم يكن الشعب قادراً على المشاركة السياسية في إيجاد المؤسسات السياسية والقانونية والمجتمعية، وفي تغييرها.

إن إحدى ركائز وجود دولة الحق والقانون وجود تعددية سياسية حقيقية مؤسسة على قيم الحوار، والتنافس الشريف، والاعتراف المتبادل. ففي البلدان التي توجد فيها ديموقراطية تعددية، تجري انتخابات حرة ونزيهة بشكل دوري ومنتظم بواسطة الاقتراع العام. ولهذا نرى في هذه البلدان تداولا ً سلميا ً على السلطة، جراء تحقق توافق بين الفاعلين السياسيين حول سير المؤسسات وطريقة عملها، بما في ذلك السياسة الداخلية والخارجية، وضمان ديمومة استمرار دولة القانون، أولاً، ووجود حياة حزبية مستقرة، منتظمة، ومؤسسة على ثقافة المشاركة. فهناك تلازم بين الحياة الحزبية السليمة والعملية الديمقراطية، باعتبار ذلك تعبيراً عن التداول السلمي على السلطة، ثانياً. 

وفضلاً عن ذلك، فإن فكرة الديمقراطية لا تترسخ في النظام السياسي المعاصر، لا سيما في البلدان المتخلفة، إلا من خلال تفعيل العمل الحزبي وتقويته وتطويره، في أوساط الشعب، الذي من المفترض أن تنتج السياسة في صلبه. ذلك أن الأداء الحزبي، المنتظم، والمستقر، والمؤسس على روح المنافسة، يصقل الديمقراطية ويعمق الوعي بها، ثالثاً.

ويشكل هذا الكتاب المرجع، إضافة نظرية قيمة للفكر اللا أسسي حول إعادة تشكيل الديمقراطية في العالم العربي بوصفها سمة تراثية لا أسسيّة. فهوكتاب يتفحّص المدخلات الأسسيّة واللاأسسيّة وما بعد الأسسيّة في مناقشة الديمقراطيّة. وهو أمر تقتضيه التعقيدات اللغويّة والثقافيّة لتطبيق الديمقراطيّة ونموذج إضفاء الديمقراطيّة في أماكن غير غربيّة. وإزاء خلفيّة الخلافات والمناقشات الثقافيّة والحضاريّة المتعالية، الغربيّة والعربيّة الإسلاميّة، يستنبط فهماً للديمقراطيّة يكون فيه للثقافة والديمقراطيّة فرصة لأن تعزّز إحداهما الأُخرى لا أن تستبعد إحداهما الأُخرى.

 

إقرأ أيضا: رؤية جديدة للديمقراطية غير الوافدة البرّانية من الغرب (1من2)