وعد رئيسُ
تونس رئيسَ
فرنسا بأنه سيعلن عن حكومته في القريب العاجل، وأبقى الشعب التونسي بشقيه المساند والمعارض على فضوله الساخر ليعرف مكونات حكومة لن تحكم.
لم يعد التونسيون يسألون أنفسهم لماذا تُشْرَك فرنسا في أمر تونس، لقد صار الأمر عندهم عاديا، فالقرار الحقيقي يؤخذ في الكي دورسيه أو في الإليزيه. وتفشت حالة من الاستسلام اليائس لمزاج الرئيس وإيقاع تحركه الغامض، وهذا موقف ثالث بين موقف الفرحين بما يقوله ولو كان نصا بلا معنى ولا مفاصل، وبين سخرية معارضيه السوداء الذين يلتقطون جمله المبتورة ليحولوها إلى نكت للتسلية. أما الحكومة القادمة فستكون عند الجميع حدثا كـ لاحدث، فلا ترتقي كي تكون خبرا يستحق النشر.
هناك يقين مشترك بين الجميع لا يصرحون به علنا، وهو أنها حكومة ميتة على النفاس؛ لا لأنها لن تمر على برلمان مغيب ليشرع وجودها، بل لأن قرارها ليس بيدها بل بيد الرئيس الذي يراها طبقا لمرسومه 117 ملحقة بالقصر وتنفذ ما يخطط له الرئيس دون حق إبداء الرأي، وقد ظهرت السيدة المكلفة تهز رأسها موافقة وتحمد الله على ما يقول الرئيس من ترهات.
حكومة بين شارعين متقابلين
دخلت تونس شهر تشرين الأول/ أكتوبر بشارعين متقابلين يتنابزان بعدد الحضور؛ شارع الإسناد الذي نزل يوم 3 تشرين الأول/ أكتوبر للرد على شارع المعارضة الذي نزل يوم 26 أيلول/ سبتمبر، والذي يحشد مرة أخرى لن تكون الأخيرة طبعا؛ يوم 10 تشرين الأول/ أكتوبر.
قال الرئيس إن شارعه قارب المليوني مشارك، وهو رقم أثار سخرية الناس من حوله. فالصور شهدت بخلاف ذلك رغم الاستعانة ببعض الشباب الأفريقي الذين يأتون تونس ممهدين لهجرة سرية، ولا ناقة له ولا جمل في الخصومة التونسية. وسيتواصل حديث الأرقام وتضخيم الحشود في الأيام القادمة، بما يعمق الأخدود الذي على الحكومة ردمه وتجاوزه. وأنى لها؟ فحتى لو كان الشارع مقسوما نصفين بالتساوي، فنصف الشارع واقف ضد الحكومة ولا نراها تفلح بنصف الشعب فقط.
يحتاج ردم الأخدود الذي حفره الرئيس وسط شعب غير متجانس أيديولوجيا إلى معجزة اقتصادية قد تبرر عدم مرور الحكومة أمام برلمان مجمد، فكثير من الجمهور مستعدون لغض الطرف عن الشرعية القانونية للحكومة إذا أفلحت في ترميم الخراب الاقتصادي. لكن خزينة الدولة فارغة، ولا يبدو أن هناك موارد قادمة يمكن تجميعها. لقد مد الرئيس يده داخل الجيب الأخير وهو رصيد الدولة المدخر لدى البنك الدولي ليتدبر رواتب آخر السنة (البعض يقول رواتب شهر تشرين الأول/ أكتوبر فقط)، وقد راج حديث كثير عن حقائب الرز الإماراتي القادمة لكن لم يصل من ذلك نقير واحد.
يروج إسلاميون حديثا بلا دليل؛ أن النظام السعودي عرض تمويلات ضخمة مقابل تصفية حزب النهضة على طريقة ابن علي، لكن لو صحت هذه الأخبار فستجعل ترميم الاقتصاد يمر بحرب أهلية، وهو ما يزيد الأمر تعقيدا، فهناك معطى موضوعي لا يبدو أن الرئيس وحزامه ينتبهون إليه ويقدرونه حق قدره.
الدفاع عن الشرعية الدستورية لم يعد قضية حزب النهضة وحده، بل إن طيفا واسعا من التونسيين نزلوا قبل حزب النهضة للشارع وأعلنوا توجها شعبيا حقيقيا نحو الحفاظ على دستور 2014 وشرعيته غير القابلة للنقض. ولم يزده نزول حزب النهضة يوم 26 أيلول/ سبتمبر إلا قوة وصلابة وتصميما. والدخول في حرب ضد النهضة مهما كانت مبرراتها لم تعد ممكنة، فإذا انطلقت بقوة أقل من القوة التي كانت متاحة لابن علي سنة 1990، وهو واقع الحال فإنها ستكون إيذانا بنهاية دولة لا بنهاية حكومة.
الضغوط الدولية لا تخدم حكومة السيدة المهذبة
بروفايل الجامعية المهذبة المختصة في علم الجيولوجيا لا يكشف أي علم أو خبرة يتجاوز درسها التقني في مدرج كلية الهندسة، وحتى عندما كُلفت بإصلاح التعليم العالي لم يُر لعملها أثر، فالجامعة تشتغل حتى الآن بالبرنامج الذي سطره ابن علي منذ التسعينيات. منحدراتها الأرستقراطية التي أنْسَتها أن تتعلم لغة الشعب الذي ستقوده فتكلمه بالفرنسية (لغة والدتها)؛ تجعل وضعها صعبا في أزمة داخلية بلا موارد وتقطع علاقتها بالجوار الجغرافي المتحرك من حولها.
توجد الآن حرب دبلوماسية بين الجزائر وفرنسا بدأت بإهانة الرئيس الفرنسي للجزائر وتاريخها. وقد قطع الليبيون رزق فرنسا في ليبيا، وهي التي طمعت أن تحوز على عملية إعادة الإعمار فخرجت منها بلا حمص. وإذا كان الجاران الحدوديان يعاديان فرنسا فإن أي تقارب تونسي فرنسي سيكون استفزازا مكشوفا لهذين الجارين، بما يزيد في تعقيد وضع الحكومة. وللجارين وسائل كثيرة للضغط؛ ليس أقلها استعمال أنبوب الغاز الجزائري العابر لتونس نحو أوروبا، وهو الأنبوب الذي يوفر أكثر من نصف حاجة تونس للغاز الطبيعي.
في الأثناء يبدي الأمريكيون اهتماما كبيرا بالوضع التونسي وتصدر عنهم مواقف تنم عن عدم الرضا عما يجري منذ الانقلاب، ولم يفتأوا يتحدثون عن ضرورة العودة إلى الوضع الدستوري. ودون الإغراق في الحديث عن خصومة أمريكية فرنسية في المتوسط (وفيها كثير من الخيال العاجز)، فإن الخلاف بين القوتين حول المخرج من الأزمة الدستورية التي خلقها الرئيس بلا أفق حقيقي وملموس في التصريحات والمواقف.
والموقف الأمريكي أثقل وزنا لدى مؤسسات الإقراض الدولية التي ستتوسلها الحكومة للخروج من أزمتها الاقتصادية. يطلب الأمريكيون من الرئيس حكومة تفاوض، لكنهم يشترطون أن تكون حكومة شرعية أي تمر بموافقة البرلمان أولا. وهذا يقتضي عودة البرلمان إلى العمل، وعودة البرلمان تعني عمليا نسف كل ما فعل الرئيس منذ 25 تموز/ يوليو وخاصة مرسومه عدد 117.
هل تملك السيدة المختصة في علم طبقات الأرض السفلى أن تخوض في علم طبقات السياسة فوق الأرض؟ الملمح الظاهر لنا لا ينبئ بأية كفاءة سياسية، خاصة أن الرئيس الذي لا يفاوض أبدا يتولى أمرها ويقطع عليها الحديث فتكتفي بهز رأسها موافقة.
ننتظر الحكومة رغم ذلك
ننتظر الإعلان عن تشكيل حكومي رغم كل ما سبق وصفه من صعوبات داخلية وخارجية. الإمعان في الانقلاب هو خطة الرئيس ولن يتراجع. التسريبات تحدثت عن تطبيق قاعدة المناصفة، وهو حديث يروق لحزام الرئيس المشغول بقضايا الجندر أكثر من انشغاله بقضايا تدبير الغذاء للفقراء، وسيصرف النقاش في الأيام الأولى لتمجيد المناصفة. لكن بعد أن يستنزف حديث الجندر ستقف الحكومة أمام الحقيقة العارية؛ حقيقة أنها لم تمر بالبرلمان وتعمل خارج الدستور، فهي حكومة غير شرعية. وحقيقة أمرّ من ذلك؛ أنها لا تملك أن توفر أعلاف الماشية في شتاء قاس تأكدت نذره في تأخر أمطار الخريف، على فرض أنها أفلحت في تدبير رواتب مليون موظف يسكنون في شرايين الدولة ولا يملكون موردا غير الراتب.
هل كان التونسيون محتاجين لكل هذا العبث؟ سأجيب بنعم، لقد كشفت الأزمة وجه المحتل الفرنسي ودوره في تخريب الوضع التونسي وستنتهي بإعادة توجيه معركة الثورة التونسية من ثورة اجتماعية محلية إلى معركة تحرر وطني؛ يكون فيها الرئيس وانقلابه وحزامه الاستئصالي قوسا صغيرا.
يخترق الشارع التونسي الآن وعي جارح بأن حرب الآباء ضد المحتل لم تُستكمل، بل يحتاج معركة أخرى حاسمة والوقت يخدم الحل الجذري ولو طال أمده. في هذه المعركة تكسب شرعية تاريخية جديدة؛ عبرت عنها الشعارات المعادية للانقلاب (ارحلي يا فرنسا). إنها حرب طويلة أو حرب أجيال، ولكنها الحرب الحقيقية التي تنفق فيها الأرواح حلالا.