لا يدرك الحكام العرب أن أخطر ما تعانيه
إسرائيل هو شعورها العميق بعدم الشرعية، وبأنها كيان مصطنع حتى وإن تسترت بصفة الدولة، ففيها أرض مغتصبة وأرض محتلة، وشعب مهاجر من مختلف دول العالم، وحكومة تدعي الديمقراطية وتقود هذا الشعب/ العصابة لسلب
فلسطين من أهلها، وتعتمد اعتماداً مطلقاً على واشنطن وعلى الغرب من ناحية، وعلى القوة الباطشة من ناحية أخرى. وتطوع كل شيء لخدمة أهداف المشروع الصهيوني وتتستر وراء مصطلحات باطلة؛ وأهمها السلام الذي يعني "paisraeliana".
ومع الشعور العميق في إسرائيل بعدم الشرعية، فقد عمدت إلى استخدام القوة وتطويع الحكام العرب من خلال التمكين الأمريكي لها واحتلال أراضيهم؛ حتى ترغمهم على
الاعتراف مقابل ما تسميه تنازلات مؤلمة علماً بأن التنازل (concession) يفترض تملك الارض أولاً ثم حق التصرف بالتنازل وهو ليس الحال بين إسرائيل والعرب فقد اعتدت دت إسرائيل على مصر وسوريا والاردن عام 1967 وكان منطوق قرار مجلس الامن 242 بأنه لا بد من أن يرد المعتدي الارض التي احتلها، ولكن إسرائيل أصرت رت على المفاوضات المباشرة بين الذئب والضحية فرادى حتي تفرض ثقل الهزيمة العسكرية على مائدة المفاوضات، فكان الانسحاب منقوصأ ووفق معايير إسرائيل، ومقابل الانسحاب الجزئي والنوعي تحصل إسرائيل على الاعتراف بها كهاجس ضاغط عليها منذ قيامها.
فمعاهدات السلام بين إسرائيل ومصر والأردن والسودان والبحرين والمغرب تبدأ بالاعتراف، ومن قبلها اتفاقية كامب ديفيد التي تعترف بإسرائيل الكبري. وإذا كانت مصر والأردن قد اضطرا إلى الاعتراف بإسرائيل بموجب اتفاقية السلام مقابل انسحاب إسرائيل من أراضيهما المحتلة، ورغم إشارة معاهدتي السلام إلى أن قراري مجلس الامن 242 و338 هما أساس المعاهدتين، إلا أن مجرد الاتفاق والتفاوض هو خارج إطار القرارين. ومعنى ذلك أن الاعتراف تم تحت الضغط (duress) والتهديد باستمرار الاحتلال، بل إن الاعتراف العربي بإسرائيل الذي تم بمقابل رد المسروق جزئيأ هو تشجيع على العدوان والسرقة لأن المعتدي والمحتل ارتكب جريمتي العدوان والاحتلال باستخدام القوة المحظورة في الميثاق. ولذلك فالاعتراف العربي يسد حاجة نفسية عند إسرائيل، ولكن هذا الاعتراف لا يجبر النواقص القانونية عند إسرائيل ولا يضفي شرعيه هي أصلا تفتقدها. وأكبر ما تخشاه إسرائيل هو سحب الاعتراف، خاصة من جانب مصر والفلسطينين.
وقد أشرت في كتاب صدر عام 2006 عن القانون الدولي المعاصر؛ إلى أن شرعية إسرائيل ليست في قرار التقسيم وإنما في قرار قبولها عضواً في الأمم المتحدة، والذي اشترط احترامها لقرار التقسيم، فيكون إبطال عضوية إسرائيل إنهاء لأي شرعية لها ما دامت لا تعترف بقرار التقسيم وتعتبر أن قطار المشروع قد تجاوز القرار.
وقد عالجت في كتابي الصادر عام 1989 في القاهرة، حول المركز القانوني الدولي لمنظمة التحرير الفلسطينية، قضية الاعتراف بين إسرائيل ومنظمة التحرير، حيث كانت إسرائيل تتهم المنظمه بالإرهاب، وتمكنت من الحصول منها على شطب هدف تدمير إسرائيل في ميثاقها بعد حرب أكتوبر وارتفاع نجم المنظمة، خاصة بعد اعتراف الجمعية العامة بها مراقباً وممثلاً شرعياً وحيداً للشعب الفلسطيني وعلو مكانة المنظمة في الشعب الفلسطيني والمنطقة.
ففكرت إسرائيل في استغلال المنظمة للاعتراف بها مقابل أن تقبل واشنطن الحوار معها (بفتح مكتب كتب لها في نيويورك، خاصة بعد أن أبدى كارتر وواشنطن اهتمامهما بتسوية القضية)، فاشترطت واشنطن أن تعترف المنظمة أولا بإسرائيل، وأن تعدل ميثاقها الوطني لعام 1964 وتعترف بالقرار 242، فظهرت فكرة الاعتراف المتبادل بين إسرائيل والمنظمة. وحصلت إسرائيل على ضمان بذلك من "كيسنجر" في إطار السعى إلى عقد مؤتمر جنيف للسلام 1975. فتعهد كيسنجر لإسرائيل بألا تبدأ واشنطن الحوار مع المنظمة قبل اعترافها بإسرائيل. وقد أشارمحمد ابراهيم كامل في "السلام الضائع" في كامب ديفيد إلى هذا التعهد، وكذلك مذكرات كيسنجر الجزء الأول (سنوات البيت الأبيض) الصادر عام 1980 ومذكرات كارتر ونيكسون عام 1982 ومذكرات بريجنسكي عام 1982، فعلقت واشنطن التسوية للقضية باعتراف المنظمة بإسرائيل.
وخلال حصار إسرائيل لبيروت ومعها منظمة التحرر صيف 1982، وأصرت واشنطن اعتراف المنظمة بإسرائيل حتى تفك الحصار، وقرر عرفات أن يسقط حجة واشنطن في عدم التحرك في التسوية، فأبلغ وفد الكونجرس خلال الحصار أنه مستعد للاعتراف. ومع ذلك لم ترفع الحصار لأن هدفه تجاوز الاعتراف، وخرجت المنظمة عن طريق فيليب حبيب الذي خيرها بين إبادتها في بيروت وبين إخراجها من لبنان، وتم ترتيب إخراج المقاومة أملاً في إخراج القضية من الجمود.
وناورت واشنطن وإسرائيل لإخراج المنظمة والبحث عن بديل يقبل الاعتراف. وانعقد مؤتمر واشنطن، وتمثل الفلسطينيون في مؤتمر جنيف الذي انعقد مرة واحدة ولم يستمر بسبب هذه المشكلة. وكانت المنظمة ضمن المحظورات الثلاثة التي أصرت عليها إسرائيل في كامب ديفيد، وكذلك الدولة الفلسطينية والقدس. فظهر أن قضية الاعتراف بإسرائيل كانت تلح كلما ظهرت الرغبة الفلسطينىة في التسوية، كما أن تلويح واشنطن بالتعاطف مع الحقوق الفلسطينية حتى من الناحية الشكلية كانت تثير مسألة الاعتراف في المقابل.
وظهر الخلاف بين إسرائيل وواشنطن حول هذا الاعتراف، وكانت الدول الأوروبية في بيان البندقية قد قررت أن تعترف بالمنظمة، فهددت واشنطن حلفاءها بأن تعترض على المبادرة في مجلس الأمن، وفشلت أوروبا في مراوغة واشنطن في الاعتراف بالمنظمة والخروج على تعهدها لإسرائيل. (انظر للتفاصيل كتابنا المركز الدولي، ص 86-92).
وجاوزت واشنطن الاعتراف بالمنظمة حتى لا تعترف بحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، وظنت إسرائيل أن إخراج المنظمة من بيروت سوف يعفيها من الاعتراف بها، واستبعاد موضوع الدولة الفلسطينية من أي تسوية. ولذلك شددت الدول العربية على أنها لن تقفز على موقع المنظمة في أي تسوية، باعتبارها الممثل الشرعي الوحيد للشعب.
وكان طلب إسرائيل الاعتراف من المنظمة حجة تخفي زعم إسرائيل بأنها تسعى إلى السلام، ولذلك لا بد أن تعترف بوجود إسرائيل أولا، وكأن المنظمة كانت تريد أن تعرف مقابل الاعتراف، وهي الورقة الأخيرة في يدها، كما أنها ستهدد وحدة المقاومة. وقررت المنظمة أن تعترف بإسرائيل فتجبر واشنطن على الاعتراف بها وتحول الرأي العام الأمريكي لصالحها، وهكذا ظهرت فكرة الاعتراف المتبادل.
وكانت إسرائيل قد لحظت اكتساح مرشحي المنظمة في الضفة الغربية عام 1976 وفشلها في خلق بديل، فلم يعد بمقدورها أن تتجاهلها أو تزعم بأنها لا تمثل الفلسطينيين أو تتهمها بالإرهاب، وكان واضحا تاريخياً أن حركات التحرر الوطني لم يُشترط اعترافها بالطرف الآخر قبل التفاوض.
وقد أثير موضوع الاعتراف بعد أن أخفقت المنظمة بموقفها في غزو العراق للكويت ثم مؤتمر مدريد ثم مؤتمر واشنطن، فاضطرت المنظمة إلى محادثات أوسلو التي أسفرت عن إعلان المبادئ. وقد تم التوقيع على أوسلو في واشنطن في 13 أيلول/ سبتمبر 1993، فأسمي الاعتراف المتبادل بين إسرائيل والمنظمة، وهو في الواقع اعتراف مطلق من جانب المنظمة بإسرائيل دون أي اعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني، وإنما يقابله اعتراف إسرائيل بأن المنظمة وكيل قانوني عن الشعب الفلسطيني في المفاوضات.