اللجوء السياسي والإنساني قديم عند العرب، وهو عند الغربيين المعاصرين أقسام وضروب، بعضه مقيّد وبعضه حرّ؛ إنساني وسياسي وديني...
عُرف "اللجوء" في القرون الأولى من التاريخ المسيحي، وخاصة القرن الرابع الميلادي، عندما كثر الطلب على الكنائس للحماية من الإمبراطورية الرومانية، فعمل رجال الدين المسيحي على استصدارِ قانون للجوء عُرف بـ "قانون اللجوء المسيحي"، فصارت الكنيسة "ملاذًا آمنًا" لكل المضطهدين والمنبوذين، ولها حرمة. وفي القرون الوسطى، كان "قانون اللجوء المسيحي" يشمل الحماية من المتابعات المترتبة على جرائم الحق العام.
كانت العرب تجير قديما، وكان واحدهم يقوم مقام دولة كاملة، بل ويجير الحشرات والطير والسبع، حتى قيلت فيهم الأمثال.
جاء في مجمع الأمثال:
أَحْمَى مِنْ مُجِيرِ الْجَرَادِ
قالوا: هو مُدْلج بن سُوَيد الطائي. ومن حديثه أنه خلا ذاتَ يومٍ في خَيْمته، فإذا هو بقوم من طيء، ومعهم أوعيتهم، فقال: ما خطبكم؟ قالوا: جراد وقع بفنائك فجئنا لنأخذه، فركب فرسَه وأخذ رمحه وقال: والله لا يعرضَنَّ له أحد منكم إلا قتلته، إنكم رأيتموه في جِوَاري ثم تريدون أخذه، فلم يزل يَحْرُسه حتى حميت عليه الشمسُ وطار، فقال: شأنكم الآن فقد تحوّل عن جِوَاري.
ومجير الطير سارت به الأشعار:
ورد في كتاب "غرر الخصائص الواضحة، وعرر النقائض الفاضحة" للوطواط:
وكان ثور بن شحمة العنبري يسمى مجير الطير فكانت الطير لا تصاد بأرضه ولا تضار..
وحكى أنّ زيادًا الأعجم وفد على المهلب فأكرمه وأنزله على أبنه حبيبا، فجلسا يومًا يشربان في بستان، فغنت حمامة على فنن فطرب لها زياد، فقال له حبيب: إنها فاقدة ألفٍ كنت أراه معها، فقال زياد هو أشدّ لشوقها، ثم أنشد:
تغني أنت في ذممي وعهدي ... وذمّة والدي أن لا تضاري
فضحك حبيب ثم قال يا غلام هلمّ القوس، فجاء بها فنزع لها بسهم فأصابها فوقعت ميتة، فنهض زياد مغضبًا وقال أخفرت أبا بسطام ذمتي وقتلت جاري وشكاه إلى المهلب، فغضب على حبيب وقال: أما علمت أن جار أبي لبابة جاري وذمته ذمتي، والله لألزمنك ديّة الحر، وأخذ له من ماله ألف دينار، وهو ضيف، وابنه هو المضيف.
إجارة الثعبان:
ورد في الجليس الصالح الكافي والأنيس الناصح الشافي للنهروان:
خرج عبيد (بن الأبرص صاحب المعلقة الشهيرة) وصَاحب له يمشيان فِي الْموضع الَّذِي نزل الْقَوْم فِيهِ، وسارا حَتَّى أَتَيَا حبا (زرعًا) هُنَاكَ فرأيا شجاعًا عَظِيمًا أَقرع يَلْهَث قد أدلع لِسَانه من الْعَطش، فَأخذ صَاحب عبيدٍ حجرًا وهمّ أَن يشدخه بِهِ، فَقَالَ لَهُ عبيد: مَا أَنْت صانع؟ قَالَ: أقتل هَذَا الشجاع فَإِنَّهُ عَدو، قَالَ عبيد: لَا تفعل فَإِن الْأَسير قد يجار وَإِن كَانَ عدوًا، ثُمَّ استقى من الْحبّ مَاء فسقى الشجاع، فَجعل يشرب حَتَّى رُوِيَ، ثُمَّ تسبسب فِي الرمل فَغَاب.
إجارة الوحوش والحيوانات المفترسة:
ورد في مجمع الأمثال:
أن قوماً خَرَجُوا إلى الصيد في يوم حار، فإنهم لكَذَلك إذ عَرَضَتْ لهم أُمَّ عامرٍ، وهي الضبع، فطَرَدُوها وأتبعهم حتى ألجأها إلى خِباه أعرابي، فاقتحمته، فخرج إليهم الأعرابي، وقَال: ما شأنكم؟ قَالوا: صَيْدُنا وطَريدتنا، فَقَال: كلّا، والذي نفسي بيده لا تصلون إليها ما ثَبَتَ قائمُ سيفي بيدي، قَال: فرجَعُوا وتركوه، وقام إلى لِقْحَةٍ فحلَبَهَا وماء فقرب منها، فأقبلت تَلِغُ مرةً في هذا ومرة في هذا حتى عاشت واستراحت، فبينا الأعرابي نائم في جَوْف بيته إذ وّثَبَتْ عليه فبَقَرَتْ بطنه، وشربت دَمَه وتركته، فجاء ابن عم له يطلبه فإذا هو بَقِيرٌ في بيته، فالتفت إلى موضع الضبع فلم يرها، فَقَال: صاحبتي والله، فأخذ قوسه وكنانته واتّبعها، فلم يزل حتى أدركها فقتلها، وأنشأ يقول:
وَمَنْ يَصْنَعِ المَعْرُوفَ معْ غَيرِ أَهْلِهِ ... يُلاَقِ الَّذي لاَقَى مُجِيرُ أمِ عَامِرِ.
فسار به المثل.
النبي "يطلب اللجوء" في وطنه:
قال ابن هشام:
فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا انْصَرَفَ عَنْ أَهْلِ الطَّائِفِ، وَلَمْ يُجِيبُوهُ إلَى مَا دَعَاهُمْ إلَيْهِ، مِنْ تَصْدِيقِهِ وَنُصْرَتِهِ، صَارَ إلَى حِرَاءٍ، ثُمَّ بَعَثَ إلَى الْأَخْنَسِ بْنِ شَرِيقٍ لِيُجِيرَهُ، فَقَالَ: أَنَا حَلِيفٌ، وَالْحَلِيفُ لَا يُجِيرُ. فَبَعَثَ إلَى سُهيل بْنِ عَمْرٍو، فَقَالَ: إنَّ بَنِي عَامِرٍ لَا تُجِيرُ عَلَى بَنِي كَعْبٍ. فَبَعَثَ إلَى المطْعِم بْنِ عَدِيٍّ فَأَجَابَهُ إلَى ذَلِكَ، ثُمَّ تَسَلَّحَ الْمُطْعِمُ وأهلُ بَيْتِهِ، وَخَرَجُوا حَتَّى أَتَوْا الْمَسْجِدَ، ثُمَّ بَعَثَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ اُدْخُلْ، فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَطَافَ بِالْبَيْتِ وَصَلَّى عِنْدَهُ، ثُمَّ انْصَرَفَ إلَى مَنْزِلِهِ.
النساء تجير الرجال "وتمنحهم الحماية":
ضُرب بأمّ جميل المثل في الوفاء، وكان جوارها أن هشام بن الوليد بن المُغِيرَة المَخْزومي قَتَلَ أبا زُهَيرٍ الزَّهْرَاني من أزْدِ شَنُوأة، وكان صِهْرَ أبي سفيان بن حرب، فلما بلغ ذلك قومه بالسَّرَاة وثبُوا على ضِرَار بن الخَطَّاب ليقتلوه، فسعى حتى دخل بيتَ أمِّ جميل وعاذَ بها، فضربه رجل منهم فوقَع ذُبابُ السيف على الباب، وقامت في وجوههم فَذَبَّتُهُمْ، ونادت قومها فمنعوه لها، فلما قام عمر بن الخطاب رضي الله عنه ظَنَّتْ أنه أخوه، فأتته بالمدينة وقد عرف عُمرُ القصة فَقَالَ: إني لستُ بأخيه إلاَ في الإسلام، وهو غَازٍ، وقد عرفنا مِنَّتَكِ عليه فأعطاها على أنها ابنةُ سبيل.
زينب تجير زوجها المشرك:
قال ابن إسحاق في السيرة: وأقام أبو العاص بمكة، وأقامت زينب عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، حين فرق بينهما الإسلام، حتى إذا كان قبيل الفتح، خرج أبو العاص تاجرًا إلى الشام، وكان رجلًا مأمونًا بمال له وأموال لرجال من قريش، أبضعوها معه، فلما فرغ من تجارته وأقبل قافلًا، لقيته سرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأصابوا ما معه، وأعجزهم هاربًا، فلما قدمت السرية بما أصابوا من ماله، أقبل أبو العاص تحت الليل حتى دخل على زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستجار بها، فأجارته، وجاء في طلب ماله، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصبح فكبّر وكبّر الناس معه، صرخت زينب من صفة النساء: أيها الناس، إني قد أجرت أبا العاص بن الربيع. قال: فلما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلاة أقبل على الناس، فقال: أيها الناس، هل سمعتم ما سمعت؟ قالوا: نعم، قال: أما والذي نفس محمد بيده ما علمت بشيء من ذلك حتى سمعت ما سمعتم، إنه يجير على المسلمين أدناهم. ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل على ابنته، فقال: أي بنية، أكرمي مثواه، ولا يخلصن إليك، فإنك لا تحلّين له.
"دولة" أم هانئ:
قال ابن إسحاق: وحدثني سعيد بن أبي هند، عن أبي مرّة، مولى عقيل ابن أبي طالب، أن أم هانئ بنت أبي طالب قالت: لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأعلى مكة، فرّ إليّ رجلان من أحمائي، من بني مخزوم، وكانت عند هبيرة بن أبي وهب المخزومي، قالت: فدخل علي بن أبي طالب أخي، فقال: والله لأقتلنهما، فأغلقت عليهما باب بيتي، ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بأعلى مكة، فوجدته يغتسل من جفنة إن فيها لأثر العجين، وفاطمة ابنته تستره بثوبه، فلما اغتسل أخذ ثوبه فتوشح به، ثم صلى ثماني ركعات من الضحى ثم انصرف إلي، فقال: مرحبًا وأهلًا يا أم هانئ، ما جاء بك؟ فأخبرته خبر الرجلين وخبر علي، فقال: قد أجرنا من أجرت، وأمنّا من أمنّتِ، فلا يقتلهما. قال ابن هشام: هما الحارث بن هشام، وزهير بن أبى أمة بن المغيرة.
وفي رواية أنها أقوى من علي:
ولا تغضبي علياً فإن الله يغضب لغضبه، أطلقي عنه، فأطلقت عنه، فقال عليه الصلاة والسلام يا عليّ غلبتك امرأة، فقال والله يا رسول الله ما قدرت أرفع قدمي من الأرض.
في مصنفات العرب وآدابهم فيض من قصص الإجارة والجوار، وقد استمرت حتى أوائل القرن العشرين، وبدأت تنحسر وتقل مع دول "رأس غليص" التي توصف بالوطنية المعاصرة، حتى أنَّ الحاج في الحرم والمستجير بالله أُخذ وسُلّم إلى حكومته المنقلبة كما وقع مع مطلوبي حفتر في الحج.
طالبان ما زالت على العهد:
ويروي هارولد ديكسون وهو ضابط عسكري وسياسي ومؤرخ بريطاني ألّف عدة كتب عن الكويت وشبه الجزيرة العربية قصصًا في كتابه عرب الجزيرة عن تقاليد الإجارة حتى إنهم كانوا يجيرون على اللصوص، وما انتصر الأفغان إلا بحفاظهم على تقاليد النخوة والشهامة والجوار، حتى إنهم صانوا أسامة بن لادن طالبين الدليل على تورطه في هجمات سبتمبر. يقول الذرائعيون إن طالبان أخطأت، كما أن الفقه يقدّم مصلحة الأمة على مصلحة الفرد، لكن وقد وقع ما وقع، وبان أن أمريكا معتدية وعاجزة عن تقديم الدليل أو متكبرة عليه.
عرف المصريون والإغريق حق اللجوء قديمًا، ولم تعرف الأمم اللجوء بقوانينه حلى ظهرت في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948، ثمّ الاتفاقية الخاصة بوضع اللاجئين عام 1951، وقد تجد مواطنًا أوربيًا يساعد لاجئًا، أو جنديًا يجير كلبًا ربّاه وهو يغزو البلاد، وهو كان قبل ألفي سنة عند العرب، وكان يقترب من المحمية الطبيعية، وللحمامة ديّة الحرّ.
والمعاصرون الغربيون لا يحمون الطير والحشرات إلا إذا أشرفت على الانقراض. أما العرب المعاصرون فهم لا يتولون مناصبهم إلا بشرط إخفار الذمة وخيانة قومهم ودينهم.