منذ أيام وصورة التلاميذ الجالسين القرفصاء على بلاط إحدى صالات مدرستهم تعْرض نفسها وتفرض شأنها على العديد من القنوات الفضائية ومنصات التواصل الاجتماعي، مبيّنة ضياع منظومة التعليم في مصر، خاصة حينما أتْبعتها وزارة التعليم بصور أخرى تظهر التزييف والخداع، في محاولة مكشوفة لترميم الأثر السيئ الذي أعقب نشر الصورة الأولى، وذلك حينما نشر المسؤولون صورة لتلاميذ يجلسون فرادى على تختات أنيقة في جو منظم نظيف.
ولقد جذبت هذه الصور تعليقات المواطنين المرّة واللاذعة، وكشفت فشل الكيان الانقلابي وفضحته، مما دفع بالانقلابيين إلى منع التصوير نهائيا داخل المدارس كما منعوه من قبل داخل مستشفيات وزارة الصحة.
حدث هذا وما يزال صدى ردّ قائد الانقلاب العسكري على الأقاويل التي اتهمته بأنه يبني القصور الرئاسية له ولأسرته، حينما أكّد ذلك بكلّ تحدٍّ وبجاحة لا نظير لهما، وأضاف أنه يبنيها من أجل مصر. وها هي مصر وأبناء مصر يستغيثون بأنهم بحاجة ماسة لفصول وتختات يجلسون عليها لتلقي العلم في محيط بسيط لا زخرفة فيه ولا بهرجة، وشعبنا الصابر ينظر لأولاده أنهم أجيال المستقبل وقادة الأمة.
ويتزامن ضياع التعليم المتعمّد مع ما يقوم به السيسي الآن من بناء أضخم مجمع محاكم وسجون في الصحراء الغربية، مساحته ٥١٥ فدانا ويتسع لـ٣٤ ألف نزيل دون ازدحام، وقد أعلن بنفسه أنه سيفتتحه قريبا.
والمتابع للأمر يتوصل بسهولة إلى أن السيسي مولع بهذا المجمع، حيث لم تظهر منه هذه الفرحة للسجون الستة والثلاثين التي بناها منذ انقلابه على الشرعية. ومن حبّه واهتمامه بهذا المجمع فإنهم أحضروا له نموذجا مصغرا للمشروع كله ووضعوه في الصالة المجاورة للمكتب في قصر الاتحادية، بحيث يطلع عليه من حين لآخر، ترضية لنفسيته الدموية السادية. كما ظهر في إحدى الصور وهو يناقش رئيس وزرائه مدبولي ومدير الشؤون الهندسية بالجيش اللواء إيهاب الفار.
وقطعا سيكون مجمع محاكم وسجون على المواصفات الأمريكية، وهل يعرف العالم المواصفات الأمريكية خلاف معرفته بأبي غريب وجوانتانامو وباغرام؟ ومؤكد سيكون الافتتاح خرافيا يدعى إليه رؤساء منظمات حقوق الإنسان، وربما وزراء ورؤساء وزارات، ويجوب المخدوعون في هذا الصرح الرهيب ثم يجلسون حول الموائد يلتهمون لحم النعام الذي يطبخه السيسي لمعارضيه المحبوسين، ويتذوقون المحشيات الفخمة، ويلعقون "الآيس كريم" في جوّ الصحراء المتقد، ثم يخرجون علينا بصفحات بيضاء عطرة للكيان الانقلابي الدموي الذي يقوم بدوره بنشرها على وسائل إعلامهم المزوّر.
ويقع مجمع محاكم وسجون وادي النطرون المبني على المواصفات الأمريكية في صحراء مصر الغربية، ذات المناخ الجغرافي المتطرف؛ شديد الحرارة والجفاف صيفا وقارس البرودة والرطوبة شتاء، وقد روعي فيه أن يكون "الأمن" في كل قدم من مبناه، ويحيط به سُور خرساني دائري تعلوه أبراج للحراسة، كل برج يتسع لستة أو ثمانية من عساكر السيسي، أما لماذا تم بناؤه داخل الصحراء فذلك تحذير بالهلاك في الصحراء لمن تسوّل له نفسه الفرار منه، أو ربما لأن السيسي وأعوانه وصلوا لدرجة تصديقهم شائعة أطلقوها من قبل؛ بأن "حماس" بعرباتها ذات الدفع الرباعي قد عبرت سيناء من شرقها واجتازت قناة السويس لتصبح في الداخل المصري، ومن هناك اقتحمت أبواب وأسوار السجون المصرية وأطلقت سراح المحبوسين فيها، فأراد السيسي وعسكره أن يزيدوا الأمر صعوبة على "حماس"، فأنشأوا المجمع بعيدا عن وادي النيل إمعانا في الحيطة والحذر.
وحتى إذا بنى السيسي هذا المجمع كما بنى قصوره الرئاسية فإن الذي يتحكم في أمور السجون هم زبانيته الأشرار وعساكره الفاسدون المرتشون، وفِرق التعذيب التي لم تسمع عن الحقوق والإنسانية والرحمة ولا تفرق بين رجل وإمرأة وطفل.
وحيث أن المجمع قائم على المواصفات الأمريكية، إلا أن به بعض اللمسات السيسية، وبما أن إقامته نتيجة رغبة جامحة من لدن من عُرف عنه هدم المساجد ودكّ الآثار والتراث، فلا يلاحظ وجود مئذنة لجامع بداخله، وهو الذي من المقرر له استيعاب الآلاف المؤلفة في زنازينه وأقبيته وأجنحته، بجانب الآلاف من العاملين فيه وعساكر الحراسة. كما لا يظهر فيه أثر لمقابر، ويظهر أن مبدأ السيسي في التعامل مع الشعب المصري هو تطبيق شعار الداخل في هذا المجمع مفقود لا محالة، وأن هناك وسائل كثيرة وطرقا جديدة لإزهاق أرواح "العصاة" المعارضين، من بينها طريقة ينفرد بها الطغاة المستبدون وهي التذويب في الأحماض الفتاكة التي لا تبقي ولا تذر..