مصر كأي دولة في الوطن العربي دولة تتسم بالسيولة الطبقية، حيث تتداخل العديد من السمات بين طبقة وأخرى، وتصبح بعض الطبقات في حالة ضبابية عند رؤيتها والحكم عليها، والحرفيون بدورهم عند تعريفهم في الوقت الحالي، نجد أنهم الفئة الأكثر ضبابية من طبقات المجتمع والتي يمكن أن تُدرج في الطبقة الدنيا، أو الشرائح المنخفضة من الطبقة الوسطى، وهناك منهم من أطلق عليهم ماركس "البروليتاريا الرثة" للمجتمع، وباقتصادهم غير المنظم والذي لا يُحسب على قطاع عام أو خاص إلا في مساءلته ضريبياً، تصبح تلك الطبقة هي الأقل حماية، عارية في مجتمع سريع التغيرات.
من هو الحرفي؟
قبل أن أنتهي من تعليمي الثانوي وأتجه للجامعة، كنت أعمل بجانب دراستي في حرفة الموبيليا أو صناعة الأثاث، والتي ورثتها عن أبي، ومن خلال العمل في منطقة تعد تكتلاً للحرفين هي باب الشعرية في القاهرة، حيث تضم العديد من الحرف كعمال الطباعة وصناع الأحذية والنجارين وصناع النجف وصناعة النحاس ودباغة الجلود، شهدت بعيني تلك المنطقة وصناعاتها الحرفية وهي تسقط سقوطاً حراً نحو الهاوية، جعلني أؤمن أن لا تعريف لتلك الفئة يمكن أن يضمها بمشاكلها وأنماط إنتاجها بشكل كامل إلا أن تعايشهم.
ينتشر الحرفيون في أصقاع البلاد وفي الحارات والأزقة، وهم ليسوا أحسن حالاً من العمال والموظفين كما يظن البعض، ويكمن جوهر معاناتهم المستمرة في أسعار السوق المقبولة، حيث ترتفع أسعار المواد الأولية التي يعملون بها، وترتفع أسعار البنزين ما يؤثر على أسعار النقل في مهنتهم أو مواصلاتهم إلى العمل يومياً، وهذا الأمر يرفع تكاليف العمل الحرفي، ويجعل إمكانية العمل والتشغيل في حدودها الدنيا، ويجعل المواطن الراغب في عمل شيء ما كالنجارة والحدادة وغيرها من الأعمال يفكر مليّاً قبل الإقدام على طلب العمل، وهذا يسبب للحرفيين بطالة مقنعة، فهم يعملون ولا يعملون، وإن عملوا فيكون ضمن الحد الأدنى المتوفر بين أيديهم من مواد أولية، أو من الزبائن الراغبين بالعمل.
يُطلق على الحرفي في اللهجة العامية "صنايعي/ أُرزقي على باب الله" فهو شخص يعيش اليوم بيومه، وليس بإمكانه أن يدرس جدوى أي شيء أو يخطط للغد، وما يحصله من رزق اليوم، ليس ضامن بأن يحصل عليه في الغد.
الصنايعي: من الثورة إلى السيسي
لا تتدهور أحوال الحرفيون "الصنايعية" في مصر منذ الأمس، إن تلك الأزمة وليدة الانفتاح الاقتصادي الذي طبقه السادات، حين رفُعت الحماية عن السوق المصري، وأصبح السلعة المصرية قابلة للمنافسة من السلع المستوردة من الخارج، لقد خدم ذلك الانفتاح كبار التجار بينما حطم صغار الحرفيين، إلا أن سياسات الحكومات المصرية المتذبذبة في تطبيق السياسات النيوليبرالية والتي خافت منذ أحداث يناير 1977 أخرت كثيراً السقوط المدوي لطائفة الحرفيين في مصر، حتى جاءت ثورة العام 2011، ولم يعد كل شئ كما كان بالنسبة للحرفيين.
لقد عانى الحرفيون في عهد السيسي بالإضافة إلى قمع التظاهرات والعمل النقابي، من توابع قرارات حكومية مدمرة على فئتهم، مثل قرار تعويم الجنيه الذي ساهم في ارتفاع سعر الدولار في العام 2016، وحيث أن المواد الخام التي يعمل بها الحرفيون تأتي بالأساس مستوردة من الخارج بالدولار، فقد ارتفعت أسعارها بشكل جنوني أكثر من ضعف سعرها السابق، وهو ما جعل الزبون الذي يتعامل مع الحرفي وهو الآخر متضرر من سياسات الحكومة الاقتصادية، يعيش على الكفاف والضروري، فنضب معين القوة الشرائية، وضربت البطالة عدد من المجالات الحرفية خاصة لصغار الحرفيين من أصحاب الورش.
ومع زيادة الأسعار في كافة جوانب الحياة، كأجور السكن مثلاً التي زادت بمقادير مضاعفة، مما رتب على جميع الفقراء أعباءً إضافية زادت من معاناتهم، طُرحت الأسئلة بشان من يحمي تلك الفئة غير المنظورة من الحكومة، وما أهمية نقابات الحرفيين؟
نقابات أم خيال مآتة؟
كان اتحاد الحرفيين والجمعيات الحرفية في غفلة عن التعبير عن مصالح الحرفيين للمهن المختلفة، وسؤالان فقط كافيان لتقويض شرعيته: هل فعلاً هذا الاتحاد والجمعيات الحرفية التابعة له تمكنت من تنظيم الحرفيين وضمهم إليه ومساعدتهم في رعاية مصالحهم؟ وهل تمكن من مساعدة الحرفيين في تأمين مستلزمات إنتاجهم التي ترتفع أسعارها بشكل دائم كما هو حال بقية المستلزمات كي لا يتعرضوا للبطالة وأن يستمروا في أعمالهم، التي أخذت العديد منها في الزوال من خارطة الإنتاج الحرفي؟
تعد مشكلة النقابة هي أنه على الرغم من اتساع النقابات المهنية للحرفيين في مصر، إلا أنها تتشكل من أصحاب المشاغل الكبرى وأعضائها من العاملين تحت إدارتهم، أما القطاع الأكبر والأعم من الحرفيين في مصر لا يهتم بالإنخراط في النقابة، نظراً لعوامل هامة كارتفاع أسعار التقدم لعضوية النقابة، بالإضافة إلى عدم صدق النقابة في التعبير عن مشكلات الحرفيين.
كان اتحاد الحرفيين دوماً ضعيفاً، وقد أصابه الهزال التام في عهد السيسي في الدفاع عن حقوق ومصالح الحرفيين المنضوين وغير المنضوين تحت مظلته، حيث ربطت مصالح الأعضاء بالسياسات الاقتصادية للحكومة، وما تقرره من خطط وتوجهات أضرت إلى حد بعيد بكل الحرفيين، وإذا غابت الاستقلالية عن أعمال النقابة، تحولت إلى مجرد كيان شكلي لا يقدم ولا يؤخر.
بينما كانت تحتضر الكثير من الحرف في مصر في مواجهة السوق، كانت الحكومة تتشدق ببرامج دعم أصحاب المشاريع الصغيرة، إلا أن الواقع المعاش للحرفيين يقول عكس كل ما يقال إعلامياً، حيث أصبحت الحرفة في خطر وجودي حقيقي من سياسات الحكومة الاقتصادية، بالإضافة إلى منافس شرس آخر هو التوكتوك.
غواية التوكتوك
استطاع التوكتوك أن يكون ظاهرة الشارع المصري بامتياز في العقد الأخير، وقد حل كبديل فعال للمجال الحرفي ذو المستقبل الخطر، يتميز التوكتوك بسمات لا تتوافر في مجال العمل الحرفي، ما جعل العديد من الحرفيين، والأطفال والمراهقين الذين لفظتهم المنظومة التعليمية في مصر، يتجهون إلى التوكتوك بدلاً من مزاولة الحرفة.
التوكتوك لا يتأثر بقرارات الحكومة الاقتصادية سوى في جانب واحد وهو أسعار البنزين، وغير ذلك، فتتوافر للتوكتوك وبسبب كونه غير شرعي مميزات أخرى، حيث أنه لا يخضع للترخيص أو لتجديد الرخصة أو شراء مستلزمات الإسعافات الأولية المفروضة من إدارة المرور، ولا حتى إختبار سواقة، فبإمكان أي شخص أن يتعلمه في لحظات ويصبح سائقاً له، ويستخلص منه يومياً أجراً صافياً، فلن يضطر أن يجزء ربحه اليومي لخدمة الحكومة كما تفعل الحكومة مع ورش الحرفيين، فسائق التوكتوك لا يضطر إلى دفع ثمن الكهرباء أو الماء أو الغاز الطبيعي الذين ترتفع أسعارهم باطراد من فترة قصيرة لأخرى، وتسيطر على تجارة التوكتوك في مصر مجموعة من رجال الأعمال الذين تتوافق مصالحهم غير الشرعية مع الحكومة، مما يجعل سائق التوكتوك محمياً على الدوام بوجود تلك المصالح، فهو على الأغلب يستأجره من تاجر غني ينتفع منه مقابل أن يكون واجهة التعامل مع الحكومة في إدخال التوكتوك في مصر، وتركه يعمل.
إن التوكتوك وإن شكل بديلاً فعالاً لصعوبة المجال الحرفي في مصر، إلا أن الإتجاه إليه بدلاً من الحرف، وترك الحرف لتموت، سيُغرق السوق المصري في حالة اتكالية على الإستيراد، بدلاً من التصنيع، وسيقضي على العديد من الحرف التي كانت من نسيج المجتمع المصري على الدوام.
الحركة الوطنية المصرية.. البورجوازية والاحتلال البريطاني