تحدث أكاديمي بريطاني عن دوافع وعد بلفور
قبل أكثر من قرن، واصفا إياه بالخطأ القاتل الذي اتخذته المملكة المتحدة في
فلسطين.
وقال أستاذ تاريخ
الشرق الأوسط الحديث في جامعة أكسفورد، يوغين روغار، في مقال بموقع "ميدل إيست
آي" البريطاني، وترجمته "عربي21"، إنه بعد مرور أكثر من قرن على
الوعد الذي أصدره اللورد بلفور، ما زال الخلاف قائما حول ما الذي كان ينوي عمله
بفلسطين وزير خارجية ورئيس الوزراء البريطاني، أو حتى من جاء من بعده في الحكومات
المتعاقبة.
اقرأ أيضا: أكاديمي بريطاني: وعد بلفور هو الخطأ القاتل في فلسطين
واستدرك: "لكن ما كان ينبغي أن يكون ذلك
لغزاً غامضاً (..)، فبريطانيا أرادت فلسطين لإمبراطوريتها هي، ولأسباب
جيواستراتيجية بسيطة نابعة من الحرب العالمية الأولى. ثم في النهاية سعت الحكومة
البريطانية لاستغلال الحركة الصهيونية – ليس من أجل إقامة دولة يهودية، وإنما
لإبرام شراكة مع المستوطنين الصهاينة من أجل إدارة فلسطين في مواجهة المعارضة
المتوقعة من قبل الأغلبية الفلسطينية العربية".
وتاليا النص الكامل للمقال
(هذا المقال هو نسخة مركزة من الكلمة التي
ألقاها البروفيسور يوجين روغان في مؤسسة مشروع بلفور الخيرية، حيث تنظم هذه
المؤسسة الخيرية لقاءات مفتوحة ودورية عبر الأونلاين تركز بشكل أساسي على مسؤولية
بريطانيا التاريخية والمستمرة عن ضمان حقوق متساوية للشعبين الإسرائيلي
والفلسطيني)
الجزء الأول
بعد مرور أكثر من قرن على الوعد الذي أصدره
اللورد بلفور، مازال الخلاف قائماً حول ما الذي كان ينوي عمله بفلسطين وزير خارجية
رئيس الوزراء البريطاني دافيد لويد جورج أو حتى من جاء من بعده في الحكومات
المتعاقبة.
لكن ما كان ينبغي أن يكون ذلك لغزاً غامضاً.
فبريطانيا أرادت فلسطين لإمبراطوريتها هي، ولأسباب جيواستراتيجية بسيطة نابعة من
الحرب العالمية الأولى. ثم في النهاية سعت الحكومة البريطانية لاستغلال الحركة
الصهيونية – ليس من أجل إقامة دولة يهودية وإنما لإبرام شراكة مع المستوطنين
الصهاينة من أجل إدارة فلسطين في مواجهة المعارضة المتوقعة من قبل الأغلبية
الفلسطينية العربية.
ولو أن المرء قارن فلسطين بالانتداب الفرنسي
في لبنان، لكان الصهاينة هم المارونيين في فلسطين البريطانية: مجتمع أقلية مدمجة
تناط بها مهمة الدفاع عن الانتداب البريطاني في مؤتمر باريس للسلام ثم التعاون مع
البريطانيين في حكم المنطقة.
تلك الرغبة في سحب فلسطين إلى داخل
الإمبراطورية البريطانية كان أمراً جديداً جداً في عام 1917. فقبل الحرب العالمية
الأولى لم يكن لدى بريطانيا مصالح معلنة في الأراضي العثمانية داخل فلسطين. استمر
الحال على هذا الموقف غير المهتم إلى ما بعد نشوب الحرب. وكانت لجنة دي بانسون،
التي اجتمعت في إبريل (نيسان) ومايو (أيار) من عام 1915 للبحث في المصالح
الإمبريالية البريطانية في الأراضي العثمانية في آسيا، قد أنكرت أي ادعاء بشأن
فلسطين، باستثناء محطة سكة حديد في حيفا للخط الذي يربط بلاد الرافدين بالبحر
المتوسط.
خلص تقرير لجنة دي بانسون إلى ما يلي:
"ينبغي الاعتراف بفلسطين كبلد ينبغي أن تكون هويته خاضعة لمفاوضات خاصة يهتم
بها بنفس الدرجة المحاربون والمحايدون."
دبلوماسية التقسيم
كانت هذه المبادئ هي التي وجهت دبلوماسية التقسيم
البريطانية عندما أبرم السير مارك سايكس اتفاقية مع تشارلز فرانسيس جورج بيكو ما
بين إبريل (نيسان) وأكتوبر (تشرين الأول) من عام 1916. كان من المقرر أن تدول
فلسطين تحت إدارة مشتركة روسية فرنسية بريطانية، على أن تؤمن بريطانيا الجيب في
حيفا ليحول إلى ميناء على البحر المتوسط.
ما بين أكتوبر (تشرين الأول) 1916 ونوفمبر
(تشرين الثاني) 1917، تغير موقف بريطانيا بشكل كبير، فتحولت من طرف غير مهتم إلى
طرف عازم على تأمين فلسطين لتكون تابعة لها وتحت سيطرتها الإمبريالية الخالصة.
وكان أحد الدوافع لذلك التغيير هو حملة سيناء.
في السنوات الأولى من الحرب، دافع
البريطانيون عن قناة السويس من الضفاف الغربية. ونظراً لعدم توفر الآبار أو مورد
للمياه العذبة، ما كان بالإمكان إرسال القوات إلى شبه جزيرة سيناء. وذلك منح
العثمانيين حرية الحركة داخل سيناء ومكنهم من شن هجومين اثنين – في فبراير (شباط)
1915 وفي أغسطس (آب) 1916 – على منطقة قناة السويس. كان بإمكان المدفعية الحديثة
ضرب السفن داخل القناة من مسافة تبعد خمسة أميال أو أكثر. كان بإمكان قوة معادية
تتمركز في جنوب فلسطين حيث تتوفر لديها المياه من الآبار المعمرة أن تهدد حسبما
تريد حركة الملاحة عبر قناة السويس.
في سبيل إخراج العثمانيين من شبه جزيرة
سيناء، خاض البريطانيون حرباً بطيئة طوال ما تبقى من عام 1916 وخلال الشهور الأولى
من عام 1917، وأثناء ذلك قاموا بمد خط سكة حديدية لتأمين وصول المؤمن وخط أنابيب
لتوصيل المياه إلى القوات وحيواناتها. وكانت القوات العثمانية المتحصنة جيداً في
غزة في مواجهتهم، تدافع بشراسة عن الأراضي التي تقف عليها وتصد الهجمات البريطانية
الكبيرة التي شنت في شهري مارس (آذار) وإبريل (نيسان) من عام 1917.
انتهت المعركتان الأولى والثانية في غزة
بهزيمة البريطانيين، الأمر الذي عزز من إدراك البريطانيين بالخطر المحدق الناجم عن
وجود قوة معادية داخل فلسطين. كانت تجربة الحرب تلك هي التي غيرت الموقف البريطاني
من موقف من لا يبالي إلى موقف من عزم أمره على فرض الهيمنة على فلسطين.
ظل الأمر على ذلك حتى وقوع معركة بئر السبع
في الحادي والثلاثين من أكتوبر (تشرين الأول) 1917 عندما تمكن البريطانيون من
اختراق الخطوط العثمانية جنوب فلسطين وبدأوا تقدمهم السريع باتجاه القدس، التي
استسلمت لهم في شهر ديسمبر (كانون الأول). وبعد ثلاثة أيام من النصر الذي حققه
البريطانيون في بئر السبع تعهد بلفور بأن تبذل الحكومة البريطانية قصارى جهدها
لإقامة وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين.
دعم الطموحات الصهيونية
من الواضح أن تجربة الحرب تلك هي التي حفزت
اهتمام بريطانيا الجديد بضمان أن تكون فلسطين خالصة لإمبراطوريتها. يمكننا تقفي
آثار تشكل ذلك الاهتمام الجديد لنجد أنه حدث في الفترة ما بين اتفاقية سايكس بيكو
في أكتوبر (تشرين الأول) من عام 1916 ومعركة بئر السبع في أكتوبر (تشرين الأول) من
عام 1917. ولكن ثمة عنصر آخر ساهم في تحفيز هذا التغير السريع الذي طرأ على
السياسة الإمبريالية لبريطانيا: إنه قرار دعم الطموحات الصهيونية في فلسطين.
لم يكن لدى الحكومة البريطانية اهتمام
بالصهيونية ما قبل الحرب العالمية الأولى. بل لقد رفض وكيل وزارة الخارجية الدائم
السير آرثر نيكلسون في عام 1913 استقبال ناحوم سوكولو، عضو المجلس التنفيذي
للمنظمة الصهيونية العالمية، وانتدب سكرتيره ليستقبل سوكولو، وبعد أن أعلم
السكرتير نيكلسون بتفاصيل ما جرى في اللقاء أجابه قائلاً: "على أية حال من
الأفضل لنا ألا نتدخل دعماً للحركة الصهيونية، فغرس اليهود مسألة تخص الإدارة
الداخلية والتي يوجد بشأنها انقسام كبير في الرأي داخل تركيا."
ولم يزدد اهتمام البريطانيين بالصهيونية
عندما حاول سوكولو تأمين موعد ثان في يوليو (تموز) من عام 1914، ولكن اللقاء لم
يتم. وجاء في مذكرة لوزارة الخارجية ما يلي: "في الواقع ليس من الضروري أن
يضيع وقت أي شخص بهذه الطريقة."
لم يكن ذلك مثيراً للدهشة، فقد كانت
الصهيونية تنبذ باعتبارها حركة طوباوية لا تجد في بريطانيا في عام 1914 سوى عدد
قليل جداً من الأتباع. فمن بين كل الجالية اليهودية البريطانية المكونة من 300 ألف
نسمة لم يكن عدد أعضاء المنظمات الصهيونية يتجاوز 8 آلاف عضو. ولذلك لم يكن ثمة ما
يستدعي "تضييع الوقت" على حركة سياسية هامشية لم تجذب سوى أقلية ضئيلة
من الحالمين داخل الجالية اليهودية.
وكان المجتمع البريطاني حينذاك شديد العداء
للسامية بمقاييس اليوم، فلم يكن المرء يتوقع من المسؤولين البريطانيين الوقوف إلى
جانب الحركات اليهودية.
لم تر بريطانيا قيمة استراتيجية في الصهيونية
حتى عام 1917. فقط حينذاك بدأ اهتمامها بالحركة يتغير. فالثورة الروسية في عام
1917 ألقت بظلال من الشك على التزام روسيا تجاه الحرب الكبرى. واعتقد الكثيرون في
بريطانيا بأن اليهود في الحكومة المؤقتة التي كان يترأسها أليكسندر كرينسكي قد
يعملون على تحفيز روسيا بالالتزام العسكري تجاه الحرب فيما لو رأوا أن انتصار
الحلفاء سوف يمهد الطريق لتحقيق الأهداف الصهيونية في فلسطين.
واعتقد آخرون بأن اليهود الأمريكيين، ولنفس
الأسباب، قد يسعون للتأثير على رئيس الولايات المتحدة حينذاك، وودرو ويلسون،
ويحملوه على الدخول في الحرب مما يرجح كفة الحرب لصالح التحالف. تباطأت الولايات
المتحدة في الانضمام إلى الحرب – فهي لم تعلن الحرب على ألمانيا إلا في إبريل
(نيسان) من عام 1917 – وذلك أن عموم الناس فيها لم يكونوا متحمسين لفكرة المشاركة
في الحرب. ساد اعتقاد حينذاك بأن انتهاج سياسة داعمة للصهيونية قد يشجع الشخصيات
اليهودية المؤثرة على نصح البيت الأبيض بتسريع المشاركة الأمريكية في الحرب. وكما
علق على ذلك المؤرخ طوم سيغيف، كان ثمة مسعى من قبل الصهيونية لاستغلال ما يُتداول
من عبارات مبتذلة معادية للسامية حول اليهودية العالمية التي تتحكم بالسياسات
الدولية وبالمال وتحويلها لصالحها.
بالنظر إلى أن الحرب العالمية الأولى بدت
جهداً حربياً شاملاً لا نهاية له فقد كان رئيس الوزراء لويد جورج وحكومته على
استعداد للدخول في أي تحالف من شأنه أن يساعد في إحراز النصر للتحالف، فراحوا
يغازلون الحركة الصهيونية ويطلبون ودها.
التغير المفاجئ
كان هناك سبب آخر دفع بريطانيا للسعي نحو
شراكة مع الصهيونية في عام 1917. فقبل عام واحد، كان سايكس قد اتفق مع بيكو على
تقاسم التركة العثمانية في المنطقة العربية. وما كان لفرنسا إطلاقاً أن تتعاطف مع
المزاعم البريطانية الجديدة حول فلسطين بعد أن كشفت فرنسا وروسيا كلاهما بجلاء عن
مصالحهما الخاصة في الأراضي المقدسة وتوافقتا على تسوية تترك فلسطين رهن السيطرة
الدولية.
احتاج البريطانيون إلى طرف ثالث ليتحمل
المسؤولية عن مثل هذا التغيير المفاجئ في دبلوماسية التقسيم. فمن خلال دعم الحركة
الصهيونية، أصبح بإمكان بريطانيا الدفاع عن أحقيتها بفلسطين ليس من باب المصالح
الإمبريالية الأنانية الخاصة بها وإنما من باب أن تلك قضية تتعلق بالعدالة
الاجتماعية التاريخية – أي حل "المشكلة اليهودية" في أوروبا من خلال
عودة الشعب اليهودي إلى وطنه التوراتي.
وبتلك الروح كتب اللورد بلفور رسالته
المشؤومة إلى اللورد روثتشايلد متعهداً بأن تبذل بريطانيا كل جهد ممكن من أجل
تحقيق تلك الغاية. بدا الأمر كما لو أن بريطانيا تعد الصهاينة بفلسطين بينما كانت
حكومة لويد جورج في واقع الأمر تستخدم الحركة الصهيونية لتأمين الحصول على فلسطين
لنفسها.
وهكذا أصدر بلفور وعده المشؤوم، معبراً عن
التزام الحكومة البريطانية ببذل "أفضل جهودها" من أجل "تسهيل إقامة
وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين." ولاحظوا هنا عبارات "وطن
قومي"، وليس دولة، وعبارة "الشعب اليهودي" وليس الصهاينة.
بينما ركز كثير من النقاد على حقيقة أن وعد بلفور
لم يشر إلى الفلسطينيين بالاسم، وإنما فقط إلى "المجتمعات غير اليهودية
المتواجدة في فلسطين"، أعتقد بأن وعد بلفور لا يعبر عن التزام بأي هوية
قومية، لا يهودية ولا عربية. بل كان الوعد متعلقاً فقط "بالحقوق المدنية
والدينية" وليس الحقوق القومية.
بمعنى آخر، لم يكن وعد بلفور التزاماً بإنشاء
دولة يهودية، وإنما أرى فيه التزاماً بإقامة مجتمع أقلية مدمجة في فلسطين صممت من
أجل تسهيل الحكم البريطاني في مستعمرة جديدة تم الاستحواذ عليها مؤخراً. ونظراً
لاعتمادهم بشكل تام على البريطانيين لضمان وضعهم في فلسطين، فقد كان الصهاينة
شركاء موثوقين في إدارة الانتداب ضد المقاومة المتوقعة من قبل الأغلبية العربية
الفلسطينية.
المعارضة الفلسطينية
لم تساور بريطانيا شكوك بأن الفلسطينيين
سيعارضون لا محالة خططها تلك. فقد كان لديها ما يكفي من العناصر على الأرض منذ
ديسمبر (كانون الأول) فصاعداً، أي بعد احتلال الجنرال إدموند ألينبي للقدس، بما
يمكنها من الحصول أولاً بأول على معلومات استخبارية موثوقة حول رؤى ومواقف السكان
المحليين. ولو عبأ البريطانيون بما يكفي لأن يطلعوا على تقرير لجنة كينغ كرين
الأمريكية الذي صدر في صيف عام 1919، لتوفر لديهم ما يكفي من البيانات للخلوص إلى
أن وعد بلفور كان فكرة سيئة.
لاحظ تقرير لجنة كينغ كرين أن "السكان
غير اليهود في فلسطين – والذين هم تسعة أعشار المجموع الكلي للسكان – يعارضون بشكل
قطعي البرنامج الصهيوني بأسره. وتشير الجداول إلى أنه لا يوجد قضية يجمع عليها
سكان فلسطين كما يجمعون على هذه القضية."
كما لاحظ التقرير أنه "ما من ضابط
بريطاني استشير من قبل اللجنة إلا وعبر عن اعتقاده بأن البرنامج الصهيوني لا يمكن
تنفيذه إلا بقوة السلاح." كان البريطانيون يعلمون كم كان الفلسطينيون يعارضون
بشد ة خططهم.
والمفارقة العجيبة هي أن البريطانيين في
مواجهة مثل تلك المعارضة المحلية كانوا يزدادون، فيما يبدو، قناعة بالفوائد التي
سيجنونها من إقامة حليف موال لهم على شكل مجتمع صهيوني استيطاني. كان المستوطنون
اليهود أوروبيين، وكانوا بالتالي أقرب إلى البريطانيين ثقافياً من العرب
الفلسطينيين (على الرغم من أن المسؤولين البريطانيين استمروا في نظرتهم
الاستشراقية لليهود، حيث كانوا يرونهم أدنى رتبة من البريطانيين في السلم
الاجتماعي الدارويني).
لسوف تغدو الأقلية اليهودية المدمجة، والتي
تعتبرها أغلبية السكان أقلية معادية، معتمدة بشكل تام على البريطانيين لحماية
وضعها، وهذا الاعتماد هو الذي جعلها موضع ثقة البريطانيين. كان بإمكان البريطانيين
الثقة بشراكة المستوطنين الصهاينة لهم في إدارة فلسطين؛ لأن الانتداب جعل الاستيطان
الصهيوني ممكناً وضمن الحماية لمجتمع المستوطنين من أي أخطار تتربص بهم من طرف
السكان الأصليين.
الغارديان: لماذا حصول المهاجرين على الإقامة ببريطانيا مهمّ؟
MEE: المحافظون والعمال يتنافسون على صداقة إسرائيل رغم جرائمها
دراسة: هكذا حارب الاحتلال النضال الفلسطيني بـ"الأبارتايد" (2)