آراء ثقافية

"Get Out": درس في فن السينما

يعالج الفيلم قضية العنصرية ضد السود الأمريكيين

مع الضجة المثارة حول فيلم "أميرة"، للمخرج والسيناريست محمد دياب، ومع النقد الشديد الموجه للفيلم وطريقة تعاطي مخرجه مع قضية سياسية تتصل بالحرية وحقوق المستضعفين، ربما يكون من المفيد مشاهدة فيلم "Get out" أو "اخرج" إذا صحت ترجمة العنوان. وإذا كان هذا المقال لا يتوخى نقد فيلم "أميرة"، فإنني أكتفي بالإشارة إلى اختيار دياب أن يسلك مثل بعض الكُتاب وصناع السينما العرب؛ أعني بذلك اختيار الأسهل، والميل نحو الأفكار المضمونة، المكررة، ذات الشحنة العاطفية الزاعقة، دون بذل جهد كاف لتأمل الفكرة، ومعالجة زواياها المحتملة كلها.

الأمر بعيد عن الإبداع إذن، ولذا أترك هذه المقدمة وأدخل إلى موضوع المقال: كيف يمكنك أن تعالج قضية كبرى دون التورط في الشعبوية أو الاكليشيهات أو المبالغات العاطفية والزعيق والشعارات المبتذلة؟ لنأخذ فيلم "اخرج" مثالا، فهذا الجانب، في تقديري، أذكى ما فيه.

فيلم "غيت آوت" الذي تم اختياره قبل أيام من قبل كتاب السيناريو الأمريكيين كأفضل سيناريو لفيلم سينمائي في القرن الحادي والعشرين، على الأقل حتى الآن.

يعالج الفيلم قضية العنصرية ضد السود الأمريكيين، وهي بالطبع قضية مهمة، دائمة الاشتعال مع تجدد الاعتداءات العنصرية ضد السود، كما أنها ذات طابع درامي قوي، تسمح بمعالجة موضوعات وأفكار تثير المشاعر وتؤجج العواطف. لذلك كله، لا يبدو غريبا أن يغلب طابع العنف والدموية على الأفلام التي عالجتها، ويصعب علينا أن نعتبر ذلك مبالغة من صنّاع هذه الأفلام لأن العنصرية بطبيعتها تفرض ذلك بحكم وقائعها وتاريخها وخبرة البشر بها، لكن جوردن بيل (مخرج وكاتب الفيلم) أراد أن يقارب الفكرة من زاوية جديدة؛ زاوية ذهنية غير مفعمة بالإثارة والعنف والدماء المتدفقة بغزارة.

هذا اختيار صعب بالطبع، يتطلب كثيرا من الخيال والتأمل وإعادة النظر... كما نتوقع أن يفقد الفيلم كثيرا من جماهيريته المرتبطة بفكرة "الطيخ طاخ" كما يقول المصريون، أي المطاردات والقتال ونحوهما مما ألفه المشاهدون في الأفلام التي تتناول العنصرية... ومع ذلك بلغت إيرادات الفيلم حوالي 255 مليون دولار رغم أن ميزانيته كانت 4.5 ملايين دولار فقط (ربما بسبب عدم تحمل تكاليف مشاهد الأكشن والمؤثرات التقنية الحديثة). فما سر هذا النجاح؟

يبدو لي أن السبب الأول هو الاشتغال على فكرة إبداعية ذات أبعاد اجتماعية – ثقافية، فكرة مركبة تحترم عقل المشاهد. يدور الفيلم حول كريس، الشاب الأمريكي الأسود الذي يذهب في زيارة ليلتقي بأسرة حبيبته روز، ابنة طبيب الأعصاب والمعالجة النفسية المتمكنة من تقنيات التنويم المغناطيسي. تبدأ الزيارة كالمعتاد في تلك الزيارات الرسمية، ثم بالتدريج تنكشف خيوط دقيقة لا تلبث أن تتقاطع وتتواشج لتصنع مشهدا بالغ الذكاء، وإن كان ذكاؤه الذهني ينقص قليلا من دفقته العاطفية.

يتكئ بيل على عدة مرتكزات، كلها غير مباشرة، تتكشّف بالتدريج. تبدو نظرات الخدم (السود) مريبة ومصطنعة، كما يتخذ الحوار مع أبي روز وأمها وشقيقها طابعا غامضا يتضح أيضا مع تطور الأحداث. فالأب يؤيد قتل الغزلان في الغابات، مثلما تلح الأم في سؤاله عن موت أمه، كما يرغبان في التحكم به، بمنعه عن التدخين، ثم يدخل الشقيق معه في حوار على العشاء، يلمح فيه تلميحات عنصرية عن الرياضات العنيفة والقدرة الجسدية لكريس، التي تجعله كالقطار، بينما هو (الشقيق) يفضل المصارعة لأنها تعتمد على العقل والاستراتيجية، بما يوحي بأن الشاب الأسود أمامه مجرد ثور قوي بلا عقل.

تفرض الأسرة المضيفة إيقاعا مزعجا على الضيف كريس، فيزعمون أن ثمة احتفالية سنوية يحضرها الأقارب، وحين يصلون يبدو أداؤهم غريبا، ويظل مسار الأحداث دائرا حول "الجسد" وقوته وصحته، فالضيوف يتأملون جسد كريس كأنه بضاعة ويمتدحونه بالقوة، كما تبدأ تصرفات الخدم السود تتخذ منحى غامضا للغاية، فهم يؤذونه كأنهم مجبورون على ذلك، ويحاولون في الوقت ذاته تجنب إغضابه أو التورط في شجار معه... ثم في النهاية نكتشف السر الذي يفسر كل شيء.

فالأسرة العنصرية تعتمد على إمكاناتها الطبية التي تمكنها من استبدال أدمغة الناس. لذا تستدرج الفتاة شبابا سودا أقوياء، لتنوّمهم الأم مغناطيسيا وفق قوانين محكمة دراميا، بحيث يغمى عليهم فيستخرج الأب (الجراح الماهر) أدمغتهم، ويضع في رؤوسهم أدمغة أصدقائه البيض العجائز، الذين يستكملون حياتهم في أجساد الضحايا السود الذين يموتون لأن عقولهم تفنى بينما تصبح أجسادهم مملوكة للعقول البيضاء، التي يكتب لها بذلك عمر جديد. وهذا ما يفسر رغبة الخدم السود في مضايقته، فهم بيض عنصريون حلوا في أجساد سوداء شابة!

ثمة الكثير من التفاصيل الممتعة في الفيلم، تجعل منه فسيفساء كبيرة محكمة، تمضي خيوطها العديدة إلى حيث تتقاطع في النهاية مُكوّنةً مشهدا بالغ التركيب والتكثيف وعدم المباشرة. لا زعيق في الفيلم، حتى العنصرية فيه خافتة هادئة هدوءا مدمرا. منذ وقوع حادث صغير على الطريق والضابط يطلب رؤية هوية كريس مع أنه لم يكن يقود السيارة، لمجرد أنه أسود البشرة، مرورا بالزيارة وتعامل الضيوف مع كريس باعتباره جسدا معروضا سيشتريه أحدهم، وقد كان، لولا ذكاء كريس وشجاعته اللذان مكّناه من النجاة.

ثمة تعاط مع فكرة العولمة وتحكم الرأسمالية في أجساد البشر، بدءا من تسليع الجسد وإمكانية بيعه وشرائه، وتمجيد مقاييس بدنية كالقوة والرشاقة... مرورا بالتطور الطبي الذي يسمح باستخراج المخ ونقله من دماغ لآخر واستغلال الطب لتحقيق أرباح ومراكمتها بأي ثمن.

مما تسهل ملاحظته قدرة صناع الفيلم على الترميز الذكي وخلق إشارات ذكية موحية. ثمة مشهد يكاد يكون صامتا تماما، تذهب فيه روز بحبيبها المغدور للتمشية لتهدئته بعد استيائه من أداء الضيوف، الذين نكتشف أنهم مسنّون جاؤوا للمشاركة في مزاد على جسد كريس، وبينما يعرض الأب صورة كريس يعرض الضيوف أرقامهم في صمت، حتى يفوز به رجل ضرير صادف أنه مصوّر أيضا مثل كريس. إنه مزاد مكتمل الأركان لكن على جسد رجل حي!

بالطبع لن يتسع المجال لتحليل مكونات الفيلم ومستويات دلالاته، غير أنه يبدو لي درسا مهما في كيفية تناول قضية شهيرة، تناولها الكثيرون، مع القدرة على التجديد والتفرد، لأن صناع العمل "اشتغلوا" بجدية تامة على صياغته وتأمل فكرته لمعالجتها من منظور طازج بحق.