تستهدف رسالة
القرآن بوضوح هداية الإنسان وتزكيته، وشفاء ما في صدره ومنحه الطمأنينة والأمن والبركة والفلاح:
- "قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ".
- "يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين".
وفي ضوء هذه الغاية لا بد أن تكون موضوعات القرآن تتعلق دائماً بالإنسان، حتى تلك الموضوعات التي تعالج عوالم خارج حدود الإنسان فإن الطريقة التي يتحدث القرآن بها عن تلك العوالم مثل الملائكة وخلق السماوات والأفلاك والجبال والنحل والنمل والذرة تؤدي دوراً في سياق هداية الإنسان وتزكيته ورشاده في هذه الحياة الدنيا.
ولأن القرآن من عند الله الخالق العليم المحيط، فلا بد أن يكون تناول الإنسان فيه مبنياً على العلم المحيط وسبر أغوار هذا الإنسان ومعالجة أسراره الخفية التي لا تخفى على الناس من حوله فحسب، بل إنها كثيرا ما تخفى على صاحبها أيضاً: "ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير".
لذلك فإن الانفتاح على القرآن بقلب خاشع وتدبر معانيه بتجرد من الأهواء والشهوات يورث المؤمن عمقاً ونفاذاً وبصيرة، فهذا الكتاب هو المرآة التي يرى فيها الإنسان ذاته متجردة، وفي ذلك يقول: "لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ ۖ أَفَلا تَعْقِلُونَ".
مقابل الذكرى والتذكر هناك النسيان. يقول الله تعالى في القرآن: "ولَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ".
نسيان النفس هو تعبير قرآني محرض للتفكر! كيف ينسى الإنسان نفسه؟!
إن أكثر الناس لا يعيشون حالة وعي الذات، ولا يغرنك ما يبدو عليه أكثرهم من ذكاء ومهارة وجني الأموال والمكاسب، فالقرآن يتجاوز هذه المظاهر الفانية وينفذ إلى جوهر الإنسان.
قد يكون الإنسان ناجحاً وظيفياً وعملياً، يسابق الزمان لجني الثروات والتمتع بملذات الحياة، لكنه قد انقطع وصله بجوهره الروحي، فهو لا يعرف من هو، وما هي غاية وجوده في الحياة، وماذا بعد موته، وما هو الفرق الجوهري بينه وبين الضفدع والنملة والحجر الملقى على قارعة الطريق؛ إذا كانت كلها سينتهي بها الحال إلى الفناء والعدم.
لذلك يُكثر القرآن من استعمال تعبير الغفلة في وصف كثير من الناس:
- "يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ".
- "ذلك بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ".
- "أُولَٰئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ".
- "وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ".
والغفلة هي أن تنشغل وتلهو بمفاتن الطريق فتنسى الغاية التي تسير إليها.
يرسم القرآن صورة بليغة لانشغال الإنسان بملهيات الحياة وغفلته عن معناها:
- "ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر".
- "اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ ۖ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَراً ثُمَّ يكون حُطَاماً".
الإنسان الذي يغفل عن حقيقته الجوهرية ينشغل بالتكاثر والتفاخر واللعب واللهو، وهي أشياء ليست من جوهر الإنسان، والعاقل لا يربط مصيره بأشياء زائلة ومفارقة له: "قال لا أحب الآفلين".
يحرض القرآن في الإنسان وعي الذات، فالإيمان وفق معالجة القرآن يرتبط بالضرورة بتفتيح منافذ الفهم والإدراك ورفع حساسية الملاحظة الروحية، والاعتبار من الأحداث.
في القرآن حشد لافت من الآيات التي تدين الذين يعطلون أسماعهم وأبصارهم وقلوبهم فلا ينتفعون منها، ولأن القرآن هو كتاب عملي وليس نظريا، فإنه يصف الذين لا ينتفعون من أسماعهم بالصم، والذين لا ينتفعون من أبصارهم بالعمي، فالقضية لا تتعلق بوجود الآلة البيولوجية، بل بمدى انتفاع الإنسان منها:
- "ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون".
- "لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون".
- "ومنهم من يستمعون إليك أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون".
قد يثار سؤال: ما هو العمى والصمم الذي يكثر القرآن الحديث عنه، بينما نرى في الواقع أن الكافر قد يكون حاد الذكاء واسع الحيلة وقد ينجح ويبني دولة وأمة ذات قوة؟! هل الأمر مجرد تعبير مجازي؟
الأمر أعمق من مجرد تعبير مجازي، وهنا يستدعى مفهوم "البصيرة" في القرآن: "فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور".
قضية العمى والصمم والحجاب والأكنة على القلوب التي يؤكد عليها القرآن؛ تتعلق بعجز الكافر عن الاستشفاف وتجاوز ظواهر الأشياء إلى حقيقتها الباطنة: "يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون".
قد ينجح هذا الإنسان سياسياً وعسكرياً، ويفرض سطوته ويشعر بنشوة الغلبة والقهر، لكنه حجب عن جوهر روحه، وتعطلت منافذ فهمه عن ملاحظة انسحاب بساط الزمان من تحت أقدامه ودولة الأيام من حوله وعبرة التاريخ من قبله، فلم يعد يستمع حتى إلى نداء الفطرة في أعماقه.
وفي المستوى الفردي نرى قصصاً كثيرة تبين لنا معنى العمى الذي يشير إليه القرآن، فكم من ضال بدل نعمة الله كفرا وقادته طريقه إلى الهاوية وانتهى به المطاف إلى السجن أو القتل وكانت عاقبة أمره خسرا وندما، ويسهل على المراقب أن يرى هذا التخبط والضلال فيعجب كيف لم يسعفه ذكاؤه لتجنب هذا المآل. والتجنب في لغة القرآن هو التقوى، والسبب أن عينيه مفتوحتان لرؤية المادة، لكن عينه الداخلية معطلة فهو مشوش حائر متخبط:
"أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا ۚ كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ".
إن المعاني القرآنية لا تتعلق بعالم غيبي بعيد المنال، بل هي معان حيوية تتجلى في حياتنا الآن، وأكثر الناس لا يلتقطون هذه المعاني بسبب حجب الهوى والشهوة والكبر، فيجادلون فيها ويظنون أن الحديث فيها هو مواعظ دينية بعيدة. والحق أن قضايا القرآن ذات اتصال وثيق بمعاش الإنسان وحياته الحاضرة، فالصراط المستقيم في الدنيا قبل الآخرة، وكذلك النور والبشرى والهدى والتحرر من الخوف والحزن، والطمأنينة والحياة الطيبة، هذه هي ثمار
الإيمان في الدنيا التي يؤكد القرآن عليها دون انقطاع.
النقطة الأعمق في الإنسان
ذهبت مدارس علم النفس طرائق شتى في سعيها لتحليل شخصية الإنسان، وهي طرائق تقارب الحقيقة بقدر أو بآخر، وينبغي الانفتاح عليها وتطويرها.
لكن ميزة القرآن إلهي المصدر أنه الأقدر على ملامسة النقطة الأعمق في الإنسان، فمنزل هذا الكتاب هو الذي يرى باطن الإنسان كما يرى ظاهره، ويعلم السر وأخفى. ويحرك فينا القرآن هذا الإيمان حتى يقطع على الإنسان محاولات التحايل والكذب على نفسه، فلا يكون أمامه سوى مواجهة حقيقته العارية، وهذه المواجهة الصادقة مع النفس هي المقدمة الضرورية لتزكيتها وترقيتها:
- "وإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ".
- "واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه".
- "والله مخرج ما كنتم تكتمون".
- "يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية".
- "يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى".
القرآن ليس كتاب معارف بل كتاب تزكية، فهو لا يهدف إلى إتخامنا بشرح الحقائق النظرية، بل يوظف هذه الحقائق في الوجهة التي تنفعنا في التزكية، وفي هذا الاتجاه يؤكد القرآن الأساس الأول الذي يبنى عليه إصلاح الإنسان، وهو الإيمان.
لماذا كان الإيمان ضرورياً لإصلاح الإنسان؟
الإيمان بالله عالم الغيب والشهادة المحيط السميع البصير الحسيب هو الذي يوقظ في الإنسان أدق معاني المراقبة، إذ إن من يعلم أن هناك قوة تعلم خفايا نفسه وتحاسبه عليها فإنه يبدأ طريق المجاهدة ويحرص على تنقية سريرته ومواجهة آفاتها.
وهذا ما يتجاوز قدرة القانون والمجتمع واعتبارات المجاملة والتجمل، فهذه الوسائل تدفع الإنسان إلى مراقبة سلوكه الخارجي، لكنها لا تشعره بضرورة تهذيب دوافع باطنه في الخلاص من الحسد والكراهية وحب الشهرة، والحرص على الرئاسة وتمني الشر للآخرين.
أما من يعلم يقيناً بأن سريرته مكشوفة وأنه محاسب عليها فإنه يبدأ طريق التسامي الأخلاقي الحقيقي.
ورب قائل يقول إن هناك كثيراً من المتدينين تنطوي نفوسهم على خبث وحسد وغل، أو إن هناك ممن لا يؤمنون بالدين تنبع نفوسهم بالحب وإرادة الخير للآخرين.
هذا اعتراض وجيه، والإيمان هو حجة على الناس بينما الناس ليسوا حجة عليه، أي أنه ليس كل من عرف حقائق الإيمان نظرياً فقد حقق في نفسه الإيمان، لأن الإيمان يقاس بالمجاهدة والعمل وليس بالإدراك النظري.
أما أن هناك ممن لا علاقة لهم بالدين وتفيض قلوبهم بالخير فهذا صحيح أيضاً، لأن فطرة الخير مغروسة في الإنسان.
إذاً ما الذي يفعله الإيمان؟
الإيمان يضبط سريرة الإنسان ويزكيها وينمي الخير فيها، وتنمية الخير تفترض وجود بعضه مسبقاً، فالإيمان قد لا يكون منشئاً لمكارم الأخلاق، ولكنه يعزز هذه الأخلاق ويقويها ويبشر صاحبها بثوابها، فيعلم أن عمله لن يضيع هباء وأن جزاء الإحسان هو الإحسان.
وإذا أردنا قياس ثمرة الإيمان في تزكية الإنسان، فإن علينا أن نقلب الاستشهاد، فلا نستشهد بأن هناك من يدعي التدين وهو ملوث السريرة، بل نستشهد كم ممن زكّى الإيمان نفوسهم وهذب طبائعهم وأعلى مراقبتهم أنفسهم؛ من الصديقين والصالحين والشهداء.
يتبع..
twitter.com/aburtema