سجلت الدراسات المعتمدة على طريقة السلوك
التصويتي أن قضية
فلسطين قد تراجعت على المستوى الدولي. وبصرف النظر عن النتيجة، فإن السلوك التصويتي يختلف عن المواقف السياسية للدول في بعض الأحيان. فمثلا، إقبال دول على التصويت على جوانب القضية الفلسطينية قد تراجع من 170 دولة إلى 169، ولكن بعض الدول تغيرت مواقفها من حقوق الشعب الفلسطيني، كما أن بعض الدول الأخرى غيرت موقفها من الموضوعات الخاصة بإدانة السلوك الإسرائيلي.
ولم تلتفت هذه الدراسات إلى أن تصويت الدولة في
الأمم المتحدة تحكمه اعتبارات معينة، منها المجاملة ومنها ضغط الإطار الإقليمي أو متطلبات العلاقات الثنائية. وعلى سبيل المثال، فإن موسكو أثناء الحرب الباردة كانت تهتم بحشد الحلفاء وراء مشروع القرار الذي تقدمه، وكذلك واشنطن. كما أن فرنسا وبريطانيا كانتا تقيسان ولاء الدول الأفريقية واستحقاقها المعونة من خلال تأييد مشروعات القرارات التي كانتا تقدمانها.
لم تلتفت هذه الدراسات إلى أن تصويت الدولة في الأمم المتحدة تحكمه اعتبارات معينة، منها المجاملة ومنها ضغط الإطار الإقليمي أو متطلبات العلاقات الثنائية
وقد لاحظنا مثلا أن مواقف مصر في بعض القضايا كانت تختلف ولو بشكل طفيف عن تصويتها مع الاتحاد السوفييتي. كما أن بعض السلوك التصويتي يتسم بالخداع، مثل امتناع بريطانيا عن التصويت على قرار التقسيم الذي قدمته، فالتصويت إما أن يكون موافقة أو اعتراضا أو امتناعا عن التصويت أو تغيّبا. وهذا التغيب احتل مساحة واسعة من سلوك بعض الدول في الأمم المتحدة، ولذلك فإن بريطانيا وفرنسا وألمانيا تؤيد إدانة الاستيطان الإسرائيلي، ولكنها لا تؤيد إدانة الجرائم الإسرائيلية، كما أنها تؤيد القرارات التي تطالب بحل الدولتين وبالتسوية السلمية في فلسطين، على خلاف الولايات المتحدة التي تصوت ضد كل ما هو فلسطيني وتؤيد كل ما هو إسرائيلي.
ومعنى ذلك أنه لا يمكن الاعتماد على السلوك التصويتي وحده لكى نقرر تراجع القضية الفلسطينبة في المجال الدولي، ولكن هذه القاعدة لا تخلّ بحقيقة أخرى، وهي أن وضوح الموقف الفلسطيني الذي يتم التعبير عنه رسميا في أجهزة الأمم المتحدة نتيجة التوافق بين فتح وحماس، وكذلك إجماع الدول العربية على دعم الموقف الفلسطيني يؤثر تأثيرا كبيرا على السلوك التصويتي للدول في القضية الفلسطينية. فعندما كانت الدول العربية في الستينيات من القرن الماضي تقطع علاقاتها
الدبلوماسية بالدول التي تعترف بإسرائيل، كانت قادرة على حشد التأييد للعرب عموما ضد إسرائيل، مع ملاحظة أن الجامعة العربية في زمن سطوة مصر كانت تقود الموقف العربي في الأمم المتحدة.
وضوح الموقف الفلسطيني الذي يتم التعبير عنه رسميا في أجهزة الأمم المتحدة نتيجة التوافق بين فتح وحماس، وكذلك إجماع الدول العربية على دعم الموقف الفلسطيني يؤثر تأثيرا كبيرا على السلوك التصويتي للدول في القضية الفلسطينية
أما في مجلس الأمن فإن قواعده واضحة، وهي أن المجلس يوصي الجمعية العامة بقبول دولة فلسطين عضوا في الأمم المتحدة. ومعنى ذلك أننا نحتاج إلى عدم اعتراض دولة دائمة في المجلس على مشروع القرار، وفي ذلك تصدر توصية من المجلس ثم تُصدر الجمعية العامة قرارا بقبول دولة فلسطين عضوا بالأمم المتحدة.
ولا شك أن استخدام الولايات المتحدة لنفوذها في هذا المجال، وكذلك إصرار الدبلوماسية الإسرائيلية قد حقق انتصارات واضحة للموقف الإسرائيلي. وكان أبرز مثال هو صدور قرار من الجمعية العامة باعتبار الصهيونية شكلا من أشكال التمييز العنصري عام 1975، ولكن الظروف التي مرت بها المنطقة العربية مكنت الولايات المتحدة وإسرائيل من إلغاء القرار عام 1991، بل واعتبار الصهيونية من الفضائل السياسية.
هذا التحول تم بسبب غزو العراق للكويت والحملة الدولية ضد العراق، وكذلك موقف ياسر عرفات المؤيد للغزو. ومنذ ذلك الحين ظهرت المواقف الأمريكية في الكونجرس والإدارة ضد الفلسطينيين والقدس، ولم تجرؤ الدول العربية أن تستصدر قرارا يدين وحشية إسرائيل ضد الفلسطينيين. وازدادت الصورة قتامة عندما أصدرت الجامعة العربية قرارا بوصف المقاومة ضد إسرائيل بإنها إرهاب، مما أضعف المقاومة على المستوى الدبلوماسي والمستوى الدولي، وشجع إسرائيل على ارتكاب جرائمها في غزة.
ورغم أن حصار إسرائيل لغزة يعتبر من جرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية خاصة من جانب دولة الاحتلال، إلا أنه يصعب تقديم مشروع قرار عربي بهذا المعنى.
الخلاصة نلخصها في ثلاثة نقاط:
النقطة الأولى هي أن السلوك التصويتي طريقة مفيدة في رصد وتحليل مواقف الدول من القضايا المطروحة في الأمم المتحدة، ولكنها ليست طريقة مطلقة أو يُعتمد عليها اعتمادا كاملا.
النقطة الثانية هي أن التصويت في بعض الأحيان يتسم بالمساومة، وفي الوقت الراهن أطلقت يد الدول التي كانت تخشى العرب أو تطمع في ودها.
القضية الفلسطينية لا يمكن قياس مكانتها عن طريق السلوك التصويتي وحده، وإنما أدت حملة سيف القدس إلى نتائج باهرة في ما يتعلق بمكانة القضية الفلسطينية على المستوى الدولي
النقطة الثالثة هي أن القضية الفلسطينية لا يمكن قياس مكانتها عن طريق السلوك التصويتي وحده، وإنما أدت حملة سيف القدس إلى نتائج باهرة في ما يتعلق بمكانة القضية الفلسطينية على المستوى الدولي. فقد أظهرت هذه الحملة تماسك الشعب الفلسطيني وتمسكه بحقوقه حتى داخل إسرائيل، كما أضافت دفعة قوية في الموقف الرسمي الفلسطيني، ولكن للأسف لم يتم استثمار هذه النتائج الإيجابية، فأحبط الجانب الفلسطيني هذه النتائج، وزادت إسرائيل من توحشها واقتلاعها للفلسطينيين من منازلهم والاعتداء على المسجد الأقصى، في وقت تتقاتل فيه حماس مع فتح في مخيمات جنوب لبنان.
وعلى الجانب الآخر يقوم رئيس وزراء إسرائيل بزيارة أبو ظبي، ولو كان تقارب الإمارات مع إسرائيل لإقناعها أو الضغط عليها للتسوية السياسية في فلسطين لكان ذلك مصدر فخر للعالم العربي، غير أن اندفاع الدول العربية إلى التطبيع مع إسرائيل بحوافز أمريكية أضعف العرب والقضية على المستوى الدولي، ولكن السلطة الوطنية الفلسطينية تمكنت من الحصول على عضوية عشرات المنظمات الدولية وخاصة المحكمة الجنائية الدولية، وبقي أن تتشجع السلطة في مواجهة جرائم إسرائيل.