لا تكفي الأيام القليلة الماضية التي استمر خلالها
تحسن سعر صرف الليرة التركية أمام العملات الأجنبية؛ للحكم على مدى نجاح الآلية الجديدة للودائع بالليرة والمحمية من تغير سعر الصرف، حيث يتطلب الأمر بعض الوقت حتى نستطيع أن نقول إن هناك استقرارا لسعر صرف
الليرة، خاصة وأن السعر الحالي والذي يدور حول 12 ليرة للدولار؛ ما زال منخفضا بنسبة كبيرة عما كان عليه الحال ببداية العام الحالي، حين كان يدور حول السبع ليرات للدولار الواحد، وهو ما أثر على ارتفاع أسعار غالبية السلع خاصة المستوردة.
فالتضخم ما زالت آثاره موجودة رغم التحسن الجزئي لسعر الصرف، مما دعا وزير التجارة التركي للدعوة لأن تنعكس آثار تحسن سعر الصرف على أسعار السلع، ولذلك استمر في الحملات على المتاجر.
وشهدت أسعار البنزين في
تركيا انخفاضا جزئيا مع تراجع سعر الصرف، ساعد عليه انخفاض الأسعار الدولية للنفط خلال شهر كانون الأول/ ديسمبر، نتيجة استخدام عدد من الدول جانبا من الاحتياطي الاستراتيجى لديها، وظهور المتحور أوميكرون الذي تسبب في إعادة فرض قيود في العديد من البلدان.
التضخم ما زالت آثاره موجودة رغم التحسن الجزئي لسعر الصرف، مما دعا وزير التجارة التركي للدعوة لأن تنعكس آثار تحسن سعر الصرف على أسعار السلع، ولذلك استمر في الحملات على المتاجر
وإذا كان الارتفاع الجزئي قد لحق بسعر صرف الليرة كحقيقة ملموسة، يظل السؤال لدى جموع المواطنين عن توقيت تراجع معدل
التضخم الذي بلغ 21.3 في المائة بشهر تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي كأعلى نسبة شهرية منذ ثلاث سنوات، وهو الأمر الذي وعد به الرئيس أردوغان خلال عدة أشهر لم يحدد عددها. ويظل السؤال: هل يستطيع الرئيس التركي تحقيق ذلك مع كون جانب كبير من التضخم قادما من الخارج، مع ارتفاع الأسعار العالمية خلال العام الحالي، مما يجعل كثيرا من مسببات التضخم خارج قدراته؟
12 عاما لتضخم من رقم واحد
وللإجابة على ذلك يتطلب الأمر التعرف على تجربة حزب العدالة والتنمية مع التضخم خلال العشرين عاما الماضية، والذي تولى السلطة أواخر عام 2002، فقبل توليه السلطة كان التضخم قد بلغت نسبته 54 في المائة عام 2001، وبلغت النسبة 73 في المائة في شهر كانون الثان/ يناير 2002.
لكن مع تولي الحزب السلطة ظلت معدلات التضخم تتراجع حتى أصبحت تحت العشرين في المائة منذ تشرين الثاني/ نوفمبر 2003، ثم أصبحت رقما من خانة واحدة في حزيران/ يونيو 2004، أي أقل من العشرة في المائة.
هل يستطيع الرئيس التركي تحقيق ذلك مع كون جانب كبير من التضخم قادما من الخارج، مع ارتفاع الأسعار العالمية خلال العام الحالي، مما يجعل كثيرا من مسببات التضخم خارج قدراته؟
وظل معدل التضخم يغلب عليه الرقم الواحد منذ ذلك الحين وحتى بداية شباط/ فبراير 2017، أي أنه استمر لمدة 12 عاما من رقم واحد عدا بعض الاستثناءات الشهرية التي ظل السقف لها نسبة 12 في المائة، لكن منذ بدايات عام 2017 تغيرت الصورة وأصبح التضخم دائما من رقمين، لكنه تحت سقف نسبة 13 في المائة، وفي النصف الثاني من عام 2018 ومع الانخفاض الذي لحق بسعر الصرف وقتها، وخلال شهور قليلة، تخطى سقف الـ15 في المائة ثم العشرين في المائة، حتى بلغ أقصاه عند 25.2 في المائة في تشرين الأول/ أكتوبر 2018، وهو ما يمثل أعلى معدل للتضخم خلال 17 عاما، منذ منتصف 2004. وظل معدل التضخم من رقمين حتى أيلول/ سبتمبر 2019 حين عاد إلى الرقم الواحد أي بعد حوالي عام من الذروة، وهو ما يوضح أن الحكومة احتاجت لنحو عام حتى انخفض التضخم إلى مستويات معقولة.
وبعد ذلك ظل معدل التضخم تحت سقف الـ13 في المائة حتى تشرين الأول/ أكتوبر 2020، لتبدأ موجة التضخم المستمرة حتى الآن، أي لأكثر من عام، مدفوعة بعودة النشاط الاقتصادى لغالبية الدول، وأزمة نقص الحاويات وارتفاع تكلفة الشحن في الحاويات دوليا، وارتفاع أسعار الوقود والحبوب والغذاء والمعادن والأسمدة عالميا، مما أدى لاستمرار معدل التضخم من رقمين طوال العام الحالي، متخطيا نسبة 16 في المائة في آذار/ مارس/ ثم 17 في المائة في نيسان/ أبريل، ثم 18 في المائة في تموز/ يوليو/ و19 في المائة في آب/ أغسطس/ ثم 21 في المائة في تشرين الثاني/ نوفمبر. وساعد على ذلك تدهور سعر صرف الليرة التركية منذ شهر أيلول/ سبتمبر، وحتى العشرين من كانون الأول/ ديسمبر، موعد الإعلان عن آلية الودائع المحمية من تغيرات سعر الصرف.
الأسعار العالمية ساهمت بالتضخم التركي
وبالنظر لمكونات الوارادات السلعية خلال الشهور العشرة الأولى من العام الحالي، نجد واردات الوقود تمثل حوالي 18 في المائة من مجمل الواردات، والتي بلغت قيمتها حوالي 37 مليار دولار، نظرا لتدني نسبة الاكتفاء الذاتي من الغاز الطبيعي والنفط والفحم، وهي منتجات لا دخل لتركيا في تحديد سعرها، حيث بلغ سعر خام برنت في تشرين الأول/ أكتوبر 83.7 دولار للبرميل مقابل 42 دولار في العام الماضي، وللغاز الطبيعي في أوروبا 31 دولارا للمليون وحدة حرارية بريطانية مقابل 3.2 دولار خلال العام الماضي، وبلغ سعر الفحم الجنوب أفريقي حوالي 200 دولار للطن مقابل 66 دولارا في العام الماضي.
سيساعد انخفاض سعر الصرف على خفض تكلفة الاستيراد، لكن الأسعار العالمية ما زالت مرتفعة، بالإضافة إلى ارتفاع أسعار النقل البحري في ظل استمرار أزمة نقص الحاويات الفارغة. ومن هنا تحتاج الحكومة للسير في طريق تخفيف الأعباء عن المواطنين، مثلما فعلت بإلغاء بعض الرسوم الثابتة
وكذلك استيراد الآلات وقطع الغيار التي بلغت قيمة وارداتها 25 مليار دولار، ونفس الأمر لواردات الحديد والصلب التي بلغت قيمتها 22 مليار دولار، مع بلوغ سعر خام الحديد 123 دولارا للطن مقابل 109 دولارات في العام الماضي، والمنتجات الصيدلانية التي بلغت قيمتها ستة مليارات دولار لمواجهة تداعيات انتشار الفيروس، والحبوب التي بلغت قيمتها ثلاثة مليارات دولار مع ارتفاع سعر القمح والذرة، والقطن الذي بلغت قيمته حوالي ثلاثة مليارات دولار مع ارتفاع قيمة الكيلوجرام منه إلى 2.59 دولار مقابل 1.59 دولار في العام الماضي.
بالطبع سيساعد انخفاض سعر الصرف على خفض تكلفة الاستيراد، لكن الأسعار العالمية ما زالت مرتفعة، بالإضافة إلى ارتفاع أسعار النقل البحري في ظل استمرار أزمة نقص الحاويات الفارغة. ومن هنا تحتاج الحكومة للسير في طريق
تخفيف الأعباء عن المواطنين، مثلما فعلت بإلغاء بعض الرسوم الثابتة في فواتير الكهرباء، وقيام بعض شركات السيارات بخفض أسعارها.
وباستعراض مكونات معدل التضخم البالغ 21.3 في المائة في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر، نجد أنه بلغ أقصاه بمجموعة الفنادق والمقاهىي والمطاعم بنمو حوالي 29 في المائة، وفي الغذاء 27 في المائة وفي المفروشات والأدوات المنزلية 25 في المائة، وفي الإسكان حوالي 24 في المائة، وفي النقل حوالي 23 في المائة، وفي الخدمات الصحية وكذلك في الخدمات التعليمية 17 في المائة، وفي الترفيه والثقافة 14 في المائة، وفي الملابس والأحذية وكذلك في المشروبات الكحولية والتبغ 8 في المائة، وفي الاتصالات حوالي 6 في المائة.
تكلفة التمويل ما زالت مرتفعة
مع ارتفاع سعر الصرف مؤخرا لحوالي 12 ليرة أصبح يعادل 354 دولارا، أي أنه يكاد يحافظ على القوة الشرائية السابقة ولم يقدم تحسينا حقيقيا في الدخل، وكلما ارتفع سعر الصرف عن ذلك ستكون الإفادة أكبر لمن يحصلون على الحد الأدنى، وسيكون هناك تعويض حقيقي عن التضخم الحالي. وكذلك الأخذ في الاعتبار أن تطبيق الحد الأدنى الجديد سيزيد النقود في الأسواق، وهو أمر يُبقي على التضخم
ومن هنا يمكن أن تساهم بعض المبادرات من قبل قواعد الحزب في الأقاليم أو الجمعيات الأهلية المساهمة في توفير بعض أصناف الغذاء بثمن أقل للفئات الفقيرة، مثلما فعلت المعارضة بتوفير الخبز من خلال بلديتي أنقرة وإستنبول بسعر أقل، واستخدام صور الطوابير على هذا الخبز الأقل سعرا في
التشهير بالحكومة، كذلك يمكن تقديم بعض التسهيلات في مجال النقل والإسكان وغير ذلك من الخدمات، خاصة وأن التعويل على زيادة الإنتاج المحلي من السلع لدفع الأسعار للهبوط حاليا، من خلال قاعدة زيادة المعروض عن الطلب، أمر يحتاج بعض الوقت، فما زال سعر الفائدة في المصارف مرتفعا. ففي السابع عشر من الشهر الحالي، أي مع خفض المصرف المركزي سعر الفائدة إلى 14 في المائة، بلغت فائدة الإقراض التجاري بالليرة 20.9 في المائة، والقروض الشخصية 25 في المائة، والقروض الاستهلاكية 23.5 في المائة. أي أن تكلفة التمويل ما زالت مرتفعة، وما زال سعر صرف الليرة منخفضا مما يزيد من تكلفة المكونات الأجنبية في إنتاج السلع، كما ستعاني الشركات المقترضة بعملات أجنبية حتى تدبر ما عليها من التزامات بسعر الصرف الحالي، الذي يزيد بنحو خمس ليرات عما كان في بداية العام.
وإذا ظل سعر الصرف على حالته الحالية فإنه سيجعل لرفع الحد الأدنى للأجور تأثيرا عمليا، حيث كان رد المعارضة عند إعلان رفعه من 2825 ليرة إلى 4250 ليرة، أن الحد الأدنى السابق كان يعادل 362 دولار، بينما الحد الجديد يعادل 274 دولار وقت الانخفاض الحاد لسعر الصرف.
ومع ارتفاع سعر الصرف مؤخرا لحوالي 12 ليرة أصبح يعادل 354 دولارا، أي أنه يكاد يحافظ على القوة الشرائية السابقة ولم يقدم تحسينا حقيقيا في الدخل، وكلما ارتفع سعر الصرف عن ذلك ستكون الإفادة أكبر لمن يحصلون على الحد الأدنى، وسيكون هناك تعويض حقيقي عن التضخم الحالي. وكذلك الأخذ في الاعتبار أن تطبيق الحد الأدنى الجديد سيزيد النقود في الأسواق، وهو أمر يُبقي على التضخم، لذا يحتاج الأمر إلى وسائل لجذب بعض تلك الأموال بعيدا عن مجال الاستهلاك، سعيا نحو خفض الطلب.
twitter.com/mamdouh_alwaly