الأصل في مفاوضات فيينا هو منع الانتشار النووي في الشرق الأوسط، وليس صياغة وثيقة لضمان أمن إسرائيل. ويمثل حظر الانتشار النووي في الشرق الأوسط هدفا ساميا لكل دول المنطقة باستثناء إسرائيل، التي تعتبر أن أمنها يتحقق بثلاثة شروط هي: 1ـ التفوق العسكري الساحق الذي تضمنه الولايات المتحدة، 2 ـ احتكار القوة النووية في الشرق الأوسط، 3ـ إقامة نظام إقليمي يخضع للهيمنة الإسرائيلية، عسكريا واقتصاديا ودبلوماسيا. وليس هناك اتفاق بين التيارات السياسية المختلفة في إسرائيل بشأن تلك الشروط، أو كيفية تحقيقها، وهو ما يتجلى بوضوح في الخلاف بشأن النظرة إلى التهديد النووي الإيراني؛ فهناك من يعتبره «تهديدا وجوديا» مثل نتنياهو ونفتالي بينيت، أتباع مدرسة مناحيم بيغن، وهناك من يعتبره «تهديدا استراتيجيا» ينبغي مواجهته بخيارات متعددة ومنهم، إيهود باراك رئيس الوزراء الأسبق وشلومو بن عامي وزير الخارجية الأسبق وموشي يعلون وزير الدفاع الأسبق وجادي ايزينكوت رئيس الأركان الأسبق.
مخطط 2012 لضرب إيران
الحديث عن خطط لتوجيه ضربة عسكرية ساحقة لإيران تشمل منشآت نووية ونفطية ومفاتيح البنية الأساسية، يتردد منذ أكثر من عشر سنوات. ففي عام 2012 نشر يعقوب كاتز المحرر العسكري لصحيفة «يديعوت أحرونوت» في ذلك الوقت، بالاشتراك مع يؤاز هنديل وزير الاتصالات في الحكومة الإسرائيلية الحالية، الذي كان في ذلك الوقت كاتبا في الصحيفة نفسها، كتابا بعنوان: «إسرائيل ضد إيران: الحرب الخفية». الكتاب تضمن تحليلا لخيارات إسرائيل في ضرب القدرات النووية الإيرانية، ومفاتيح البنية الأساسية النفطية وغير النفطية. وطبقا لتقديرات خبراء الحرب الإسرائيليين في ذلك الوقت، فإن مجموع الأهداف التي كان يتعين تدميرها يصل إلى حوالي 1000 هدف يجري تدميرها في عملية تستغرق 48 ساعة متصلة من الغارات الجوية والصاروخية. أهم تلك الأهداف التي تضمنتها الخطة تمثلت في مجمع نطنز النووي، الذي تبلغ مساحته حوالي 600 ألف قدم مربع، وهو يتكون من قسمين متساويين تقريبا، على عمق يتراوح بين 8 أقدام إلى 23 قدما تحت سطح الأرض، ومحصن بغطاء يتكون من طبقات من الخرسانة والفولاذ، ويفصل بين القسمين حائط سميك حصين، عرضه يتجاوز قدمين. كما أن نطنز محمية من الخارج بشبكة دفاعية من محطات الرادار والصواريخ.ثاني الأهداف الإيرانية هو معمل «أراك» لإنتاج الماء الثقيل. ومن المعتقد أن إيران تقوم بتطويره لإنتاج مادة البلوتونيوم المخصب للاستخدام العسكري، كما يستخدم أيضا في إجراء تطبيقات مدنية للتكنولوجيا النووية في مجالات مثل الطب. الهدف الثالث هو مركز التكنولوجيا النووية في أصفهان لإنتاج اليورانيوم، وهو مركز علمي مقام فوق سطح الأرض. أما المركز الرابع فهو معامل فوردو لتخصيب اليورانيوم بالقرب من مدينة (قم) ومن بحر قزوين. وقد تم الكشف عنها للوكالة الدولية للطاقة الذرية، وهي تضم خطوط أجهزة الطرد المركزي لتخصيب اليورانيوم التي تم تطويرها بسرعة خلال الأشهر الأخيرة، وتعمل بطاقة إنتاج فائقة منذ فرض دونالد ترامب سياسة «الضغوط القصوى» على إيران. وتعتبر معامل فوردو، الأكثر تحصينا بين كل المنشآت النووية الإيرانية.
مسارات محتملة الضربات الجوية
تشمل مسارات الطيران لتنفيذ الضربات الجوية ثلاثة مسارات هي، المسار الشمالي: عبر سوريا أو شرق البحر المتوسط، ثم بمحاذاة الحدود التركية – السورية- العراقية إلى إيران. المسار الأوسط: عبر سوريا والعراق مباشرة إلى داخل إيران. وأخيرا المسار الجنوبي انطلاقا من القواعد الجوية في النقب، عبر الأردن والسعودية والكويت إلى إيران. استخدام هذه المسارات ربما كان سهلا عام 2012، عما هو عليه الآن، على الرغم من التطور الذي أحرزته إسرائيل في قوتها الجوية والصاروخية، خصوصا بحصولها على طائرات أف – 35، وتطويرها نسخة جديدة من الطائرة أف – 16، وإنتاج جيل جديد من صواريخ جيريكو يصل مداه إلى طهران والعواصم العربية كافة. وقد أكد مستشار الأمن القومي العراقي قاسم الأعرجي خلال لقاء مع رئيس بعثة حلف الناتو في العراق في 26 ديسمبر رفض بلاده لاستخدام أراضيها وأجوائها في أي اعتداء على دولة أخرى، وطالب بعدم إقحام العراق في الصراعات الإقليمية. جاء ذلك في الوقت الذي تجدد فيه الحديث بقوة عن الاستعدادات العملياتية لشن هجوم إسرائيلي على إيران.
استخدام السلاح النووي في تغيير النظام
منذ هزيمة اليابان في الحرب العالمية الثانية، لا يوجد دليل واحد يؤيد وجود علاقة موجبة بين السلاح النووي وتغيير النظام في دولة ما، على عكس ما يعتقد بنيامين نتنياهو رئيس الحكومة الإسرائيلي السابق، ونفتالي بينيت رئيس الوزراء الحالي. وقد اعتقد نتنياهو، وتمكن من إقناع الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، بأن سياسة «الضغوط القصوى» على إيران تمثل الطريق إلى تغيير النظام السياسي في طهران. والحقيقة أن هذه السياسة إن كانت قد أدت إلى شيء، فإنها أدت إلى زيادة المعاناة الاقتصادية للشعب الإيراني، وزيادة نفوذ القوى المتشددة قوميا ودينيا، وزيادة حدة الاستقطاب السياسي وسباق التسلح في الشرق الأوسط.
مثال الولايات المتحدة وروسيا
امتلاك الاتحاد السوفييتي للأسلحة النووية لم يمنع سقوط النظام السياسي السوفييتي الذي ابتكره البلاشفة عام 1917 بعد أن تآكل من داخله وانهار تماما، وتحول «الفولاذ السياسي السوفييتي» إلى مجرد آلة يأكلها الصدأ من كل جانب، عاجزة عن الحركة عندما تحولت «الديمقراطية المركزية» للحزب الشيوعي إلى «بيروقراطية مركزية» ضخمة رثة وعاجزة عن الحركة. وكانت صورة المكتب السياسي للحزب في ثمانينيات القرن الماضي خير تعبير عن ذلك. فلا السلاح النووي ساعد النظام السوفييتي على البقاء، ولا الولايات المتحدة استخدمت قوتها النووية لإحداث «تغيير النظام» هناك، بل على العكس من ذلك كان تخفيض السلاح النووي وتخفيض سباق التسلح الاستراتيجي بشكل عام، وليس زيادة حدته، أحد أدوات «سياسة الاحتواء» التي اعتمدتها واشنطن أساسا لعلاقاتها مع الاتحاد السوفييتي بعد الحرب العالمية الثانية.
استخدام السلاح النووي في تسوية مشكلات إقليمية: مثال الهند وباكستان
لا يوجد ما يؤكد وجود علاقة موجبة بين امتلاك السلاح النووي والقدرة على تسوية مشكلات أو نزاعات إقليمية. وتعتبر حالة الصراع الهندي – الباكستاني على كشمير خير مثال على ذلك، وكانت باكستان قد تعرضت في مطلع سبعينيات القرن الماضي لعدد من التطورات السلبية، استمرت خلال عامي 1970 و1972 وانتهت بهزيمة القوات الباكستانية في حرب أمام الهند، وإعلان انفصال باكستان الشرقية، التي أصبحت دولة بنغلاديش بعد ذلك. ومع أن حرب ديسمبر 1972 لم تكن بخصوص إقليم كشمير المتنازع عليه بين الهند وباكستان، فإن الهزيمة العسكرية لباكستان وقيام دولة بنغلاديش أعطى دفعة قوية للبرنامج النووي الهندي، الذي كان قد بدأ عام 1967. وأجرت الهند أول تفجير نووي بنجاح في مايو 1974. وفي صراعها مع الهند حول إقليم كشمير رأت القيادة السياسية الباكستانية في ذلك الوقت (ذو الفقار علي بوتو) أن إعلان البدء في برنامج نووي سيكون بمثابة السلاح الذي يدعم قوتها. وبدأت باكستان بالفعل برنامجها النووي في عام 1972 وأجرت أول تفجير نووي ناجح في مايو 1998. وبذلك أقامت باكستان تعادلا نوويا في شبه القارة الهندية، على الرغم من التفوق النوعي والكمي للقوة النووية الهندية. غير أن امتلاك كل من الدولتين للسلاح النووي، لم يمنع وقوع المزيد من الاشتباكات المسلحة أرضا وجوا، لكنه لعب دورا استراتيجيا في منع التصعيد إلى الدرجة التي قد تهدد بنشوب حرب نووية بين الدولتين. ولم يساعد امتلاك أي منهما للسلاح النووي في تسوية مشكلة كشمير لا عسكريا ولا سياسيا حتى الآن. ولذلك فإن اعتقاد إيران أو إسرائيل بأن امتلاك السلاح النووي من شأنه أن يلعب دورا مباشرا يعجل بتسوية المشكلات الإقليمية العالقة، لا أساس له في تاريخ العلاقات الدولية والإقليمية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى اليوم. ومع ذلك فإن قيام نظام لتوازن الرعب النووي في أي منطقة في العالم، يمكن أن يوفر إطارا لإعادة بناء النظام الإقليمي على أسس جديدة قد تسمح إما بالتهدئة، أو بإيجاد حلول للقضايا السياسية العالقة أو الصراعات المزمنة، لكن تدخل إسرائيل الحالي في مفاوضات فيينا إلى درجة أن أصبحت لها الكلمة العليا في وضع جدول أعمال المفاوضات، يعكس إصرارها على احتكار القوة النووية في المنطقة والهيمنة عليها ولا علاقة لها بحظر الانتشار النووي أو إقامة سلام إقليمي في الشرق الأوسط.
(القدس العربي)