الأرجح أنّ مشاعر شتى، مختلطة ومتضاربة، متكاملة تارة ومتنافرة طوراً، تنتاب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وهو يقلّب القرار الأنسب في اختتام الجولة الراهنة من التوتر مع الولايات المتحدة والحلف الأطلسي حول أوكرانيا: الاكتفاء بالانتشار العسكري الروسي الراهن (وليس ذلك بقليل أو ضئيل، مع عشرات الآلاف من الجنود، وصنوف الأسلحة الأكثر تقدماً التي جرى ويجري اختبار طاقاتها التدميرية في سوريا)؛ أو الاكتفاء بعمليات قصف جوي، أقرب إلى مظلة تتيح لأنصار روسيا في أوكرانيا تعكير صفو البلد وعرقلة خطط الضمّ لدى الأطلسي (وفي هذا لا يفعل بوتين أكثر من محاكاة الخيار الأطلسي في صربيا 1999)؛ أو اجتياح أوكرانيا في مساحات واسعة أو غير جزئية (على غرار ما فعلت موسكو في جورجيا سنة 2008)؛ أو، في خيار رابع قد يكون الأقلّ ترجيحاً، إعادة تَمْوضُع القوات الروسية، بما لا يفيد إعادة الانتشار ولا الانسحاب (إذا تمكن وزيرا الخارجية الأمريكي والروسي من بلوغ تفاهم ما في مباحثات جنيف اليوم، يرضي واشنطن وموسكو وبروكسيل).
الأرجح كذلك، على مستوى المعمار السيكولوجي للرئيس الروسي (خرّيج المخابرات السوفييتية الأشهر، وساكن الكرملين على امتداد آجال شبه أبدية) أنه لا يكفّ، ومشاريع الخيارات هذه جاثمة على مكتبه تنتظر الحسم، عن استذكار باعث كبير أوّل حكم سلوكه الرئاسي منذ البدء تقريباً، أي إعادة وضع روسيا على الخريطة الكونية كقوّة عظمى عائدة ولاعبة وغازية ومحاصِصة، أياً كانت المخاطر والمجازفات. باعث ثانٍ هو ذاكرة مريرة، ليست معافاة من الجرح النرجسي القومي والعسكري والاستخباراتي، تعود إلى تعهّد أمريكي قطعه، في العام 1999، الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب ووزير خارجيته جيمس بيكر، وصدّقه ميخائيل غورباتشوف، بأنّ انسحاب 380,000 جندي سوفييتي من ألمانيا الشرقية بعد توحيد ألمانيا لن يفضي إلى تقدّم أمريكي أو أطلسي، حتى بمسافة بوصة واحدة، نحو حدود حلف وارسو وجمهوريات السوفييت السابقة، كما أنه لن تكون هناك «قفزة ضفدع» أمريكية أو أطلسية نحو أوروبا الشرقية ودول البلطيق.
التعهد ذهب أدراج الرياح بالطبع، وتكفّل الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلنتون بإطلاق سيرورة توسيع الحلف الأطلسي، أو تضخيمه بالأحرى، لأسباب قد تبدو للوهلة الأولى جيو ـ ستراتيجية وأمنية تعيد تشديد الضمانات في عقود ما بعد إسقاط جدار برلين؛ لولا أنّ حوافز كلنتون الأولى كانت أمريكية داخلية، وانتخابية على وجه التحديد، للمناورة ضدّ محاولة منافسه الجمهوري روبرت دول التشهير بضعف كلنتون على الجبهة الأطلسية. ليس هذا فحسب، لأنّ كلنتون كان السبّاق إلى رفد السياسة الخارجية الأمريكية بأذرع عسكرية ضاربة، بدأت من إلغاء «وكالة مراقبة التسلّح» وإضعاف موقع الولايات المتحدة في محكمة الجنايات الدولية ومعاهدات الألغام، والتلذّذ بمهانة روسيا بوريس يلتسين، وتحويل مضاعفة عدد أعضاء الحلف الأطلسي إلى باعث شعبوي في ناظر بوتين، شاء أم أبى، لاستنهاض الفخار القومي الروسي وحسّ الإمبراطورية آفلة الأمجاد. معطى واحد بليغ تماماً يكفي لاختصار حال روسيا بوتين مع الولايات المتحدة والحلف الأطلسي: بعد أكثر من 30 سنة على انحلال حلف وارسو (والبعض يتابع، محقاً: وبعد 77 سنة على انتهاء الحرب العالمية الثانية)؛ ما يزال نحو 40,000 جندي أمريكي يرابطون في ألمانيا، بذريعة حماية البلد في وجه… الاتحاد السوفييتي!
تلك خيانات «قفزة الضفدع» إذن، وهي كفيلة بحشو سيكولوجية بوتين بخلائط معقدة من المرارة، والثأر للكرامة الجيو- سياسية، واستدراج الشارع الروسي إلى التفاف شعبوي عماده الفخار القومي وعبق الإمبراطورية؛ فضلاً، بالطبع، عن مغانم شتى ذات صلة بالتجارة والأعمال وأنابيب الغاز العابرة للحدود، وصناعة السلاح وعقود التسلّح، ثمّ العقوبات التي تُثقل كاهل الاقتصاد الروسي… كلّ هذه، وسواها مما خفي في الباطن الأعمق من حافز الإمبراطور في نفس بوتين شخصياً، لاح أغلب الظنّ أنها تضع عواقب غزو أوكرانيا في حال من التوازي أو التنافس، أو حتى المغالبة، مع إغواءات لعبة الروليت الروسية الشهيرة. وقد لا يكون بوتين في حاجة إلى استدعاء مشهد اللعبة القاتلة كما التقطه الشاعر والقاصّ والروائي الروسي الكبير ميخائيل ليرمنتوف سنة 1840، في قصة قصيرة بعنوان «المؤمن بالقضاء والقدر»؛ إذْ يُرجّح أنّ ذهنية بوتين سوف تحيله إلى عشرات الأدبيات الأخرى التي تقتبس اللعبة لا لتأكيد سطوة المصادفة (طلقة صائبة من مسدس محشوّ عشوائياً) بل سلطة التصميم والتخطيط وحًسْن التنفيذـ بعد اعتماد مبدأ الرهان والمغامرة والمقامرة بالطبع.
وليس من دون مغزى خاصّ أنّ أحدث ترحيلات المخيال السياسي الأمريكي نحو مكاسب/ عواقب لعبة الروليت، تناولت دور الاستخبارات الروسية، بإيعاز شخصي مباشر من سيد الكرملين، للتدخّل في الانتخابات الرئاسية الأمريكية سنة 2016، وترجيح كفّة دونالد ترامب. لكنّ بوتين قد لا يعبأ كثيراً بما تتخيّله أمريكا في آدابها السياسية، لأنه خير مَنْ يحفظ السياقات التي جعلته يراهن على شخص ترامب منذ خريف العام 2013، حين حضر الأخير حفل انتخاب ملكة جمال الكون في موسكو وتلقى دعوة مفاجئة من الكرملين، حملها أراس أغالاروف أحد خلصاء الرئيس الروسي، تقول باختصار: «المستر بوتين يرغب في لقاء المستر ترامب».
وسواء صحّ احتمال الروليت، أم استقرّ بوتين على مناورة أكثر عقلانية وبُعداً عن المصادفة، فقد أثمر ذلك الرهان كما أثبتت سنوات ترامب في البيت الأبيض؛ وأتى على الولايات المتحدة حينٌ من الدهر شهد ترجيح الرئيس الأمريكي صدق رواية الرئيس الروسي مقابل تكذيب تقديرات أجهزة الاستخبارات الأمريكية.
لكنّ أوكرانيا ليست سوريا، مملكة الصمت والاستبداد والفساد والتوريث وجرائم الحرب، التي تدخل فيها بوتين لانتشال نظام آل الأسد من الحضيض؛ وليست جورجيا التي شهدت حماقة تبليسي في استفزاز الدبّ الروسي الهاجع في إقليم أوسيتيا الجنوبية، تحت ستار «شرعي» هو حفظ السلام؛ كما أنها ليست شبه جزيرة القرم، التي ضمّها بوتين من دون كبير اكتراث بما يربطها بأوكرانيا تاريخياً وجغرافياً. تلك مغامرات خلت، من حيث اعتبارات كثيرة جيو – سياسية وعسكرية وأمنية، من روحية المجازفة؛ ولم يكن مؤكداً أنّ بوتين احتاج فيها إلى المقامرة، أو دغدغته مغانم لعبة الروليت أمام عواقبها. وإذا صحّ، كثيراً في الواقع، أنّ إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن لن تردّ على أيّ غزو روسي محتمل في أوكرانيا، ولن تجرّ الحلف الأطلسي إلى حرب بالإنابة على أيّ نحو؛ فإنّ ما لا يقلّ صحة، ومنطقاً بالطبع، أنّ «الكارثة» التي لوّح بها بايدن مؤخراً، سوف تكون عقوبات تاريخية لا سابق لها ولا مثيل، لا توجع المواطن الروسي العادي في خبزه ومحفظته فقط بل تمسّ الفئة الأضيق والأعلى من المافيات التي تسهر على تغذية سلطة بوتين نفسه.
فهل ثمة، حقاً، هوامش مناورة يملكها الكرملين في الطور الراهن من الشدّ والجذب؛ وهل، في مستوى آخر يحمل قسطاً غير قليل من المنطق البارد، تستحق أوكرانيا هذا العناء الأقصى؟ الأرجح أنّ أسئلة كهذه سوف يناقشها وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف مع نظيره الأمريكي أنتوني بلينكن في جنيف اليوم، وقد لا تغيب عن الإجابات حقيقة أنّ الولايات المتحدة لن تتمنّع كثيراً في تهدئة خواطر الكرملين عن طريق استبعاد ضمّ أوكرانيا إلى الحلف، ففي مناسبات كهذه يحضر تراث غزو خليج الخنازير ربيع 1961، ومعه تحضر موجبات الدرجة صفر في استنفار السلاح النووي؛ ففي هذه، ونظائرها، ما بدّل الطرفان تبديلا!
(عن صحيفة القدس العربي)