لن ینصلح ویعتدل حال العرب والمسلمين إلا من مصر، ولهذا كان لا بد أن تكون مصر ھي أول من یسقط بالانقلاب الأول في سلسلة طويلة، حتى یسھل أخذھا على حين غرة، فلا تنتبه إلى الكارثة حتى تقع. كان سقوط مصر ضروريا، من ناحية لتسهيل الانقلابات الصهيونية التالية، وبالتالي إعادة هندسة العالم العربي لتسليمه تابعا خاضعا لإسرائيل، ومن ناحية أخرى لتحييد أكبر تهديد أمني ووجودي يواجه إسرائيل منذ قيامها.
ولذلك كان منطقيا أن يطلق سقوط مصر بلطجة وعربدة المستوطنين اليهود، فتصبح اقتحامات المسجد الأقصى حدثا يوميا. ولنا أن نتخيل لو كان من يحكم مصر رئيس مدني منتخب، ما كان المستوطنون اليهود ومن وراءهم ليجرؤوا على استباحة الأقصى والبلطجة على المقدسيين وهدم منازلهم، كما يفعلون اليوم وهم آمنون، في ظل حكم عبد الفتاح السيسي الذي نجح بامتياز في تخريب وتقزيم وإخضاع مصر.
تبدو مصر مشتتة بین من یرى الحل في "تحول دیمقراطي متدرج"، كما جرى في بلدان أخرى عانت من انقلابات عسكریة، مثل تركیا وتشیلي، وبین من یرى أنه لا حل إلا بثورة كاسحة على غرار الثورتین الإیرانیة والبلشفیة. شخصیا، أنا مع الرأي الثاني لأسباب ثلاثة:
أولا.. لأنه لا عسكر تركیا ولا عسكر تشیلي، على الرغم من وحشیتھم، قاموا بتزویر إرادة شعوبھم في انتخابات واستفتاءات، وبالتالي ظل الأمل عندهم قائما في انتخاب الحاكم المدني، وهذا ما جرى. أما مصر، فقد أبدع فيها العسكر على مدار عقود في تزوير الانتخابات، كما لم یبدع أي بلد آخر في العالم المتخلف. وهذا يعني ليس فقط أن عسكر مصر أسوأ بكثير من عسكر تركيا وتشيلي وغيرهما، وإنما أيضا أن انتخاب رئيس مدني مرة أخرى في مصر هو في حكم المستحيل، إلا باجتثاث حكم العسكر.
ثانیا.. لأنه لا تركیا ولا تشیلي لدیھما جار اسمه إسرائیل، تتداعى قوى العالم النافذة من أجل ضمان أمنه ووجوده.. لا يوجد لتركيا وتشيلي جار یعتبرهما مصدر الخطر الأول والأكبر على وجوده، وبالتالي فإن ھذا الجار لن یسمح لكم يا أهل مصر بالانتصار إذا تركتم له فسحة من الوقت للتخطيط والتنفيذ على الأرض، وهو ما يوفره "التحول الديمقراطي المتدرج"..
وثالثا.. لأن إسرائيل سوف تستميت لضمان أمن واستمرار السيسي (وابنه من بعده)، ليس فقط لأنه "بطل إسرائيل القومي"، كما قال أحدهم، أو لأنه "هدية الرب لإسرائيل"، كما قال آخر.. ولكن لأنهم يدركون بيقين أن السيسي وانقلابه فرصة، إذا ضاعت سيكون صعبا جدا تكرارها مستقبلا، بعد أن أدرك المصريون حقيقة من يقف وراء الكوارث التي حلت بهم منذ ٣٠ حزيران/ يونيو ٢٠١٣.
حالة مصر إذن تفرض علیھا أن تنتصر (إذا أراد شعبها) بضربة قاضیة، خاصة وأن المصريين حاولوا الانتصار بالنقاط بعد خلع مبارك، من خلال ست جولات انتخابیة، فانتھت كلھا إلى صندوق القمامة، بضربة قاضیة من السيسي وعسكره ومن وراءهم.
لقد انتشر الاحتلال العسكري الصهيوني كالسرطان في كل المواقع بمصر، ولذا فإن الطريق إلى تفجير ثورة تستأصل هذا السرطان سيكون طويلا وشاقا ومرهقا. والإعداد لذلك يحتوي تفاصيل عديدة مهمة، أبدأ في هذا المقال بالحلقة الأولى منها، والتي ألخص فحواها فيما يلي:
أولا.. إن عبد الفتاح السیسي لیس كمثل عبد الناصر أو مبارك، ولا حتى القذافي أو صدام. إنه طراز فرید من الطواغیت، غیر مسبوق في خطورته على مصر والمنطقة العربية والعالم الإسلامي.. تدعمه وتسانده أجھزة استخبارية عديدة في الإقليم وخارجه، ویستند إلى ثلاثة مصادر للقوة: عجز وتقاعس مناھضي الانقلاب، والدبابة والشرطة والقضاء الفاسد، ودعم وتأیید حلفائه وأحبائه.
ثانيا.. كل حركات التحرر، من حماس إلى حزب الله، ومن قبلهما الجيش الجمهوري الأيرلندي والفيتكونج، كان لها جناح مقاوم على الأرض، وجناح إعلامي يروج لها، وجناح سياسي يفاوض العدو وحلفاءه. المصريون لا يملكون حاليا إلا جناحا إعلاميا، ولكن بدون الجناح السياسي والثورة في الداخل، لا يمكن التفكير في تحرير مصر، لأننا لسنا في زمن المعجزات.
ثالثا.. الشعب المصري في غالبيته متكاسل متخاذل، لكن هناك أقلية وطنية (تقريبا الربع) قلوبها مشتعلة بالثورة، ولكنها عاجزة عن تفجيرها في الشوارع والميادين بسبب حاجز الخوف وانعدام الأمل. هذه الأقلية من المصريين في حاجة إلى أمل، وإلى ضوء في نهاية النفق، لكي يطمئن كل منهم أنه عندما ينزل ليثور ضد العسكر، فإن تضحيته بحريته وحياته لن تذهب سدى، وإنما ستبقى نتائجها لأبنائه وأحفاده، وأن الثورة لها قيادة مدنية يمكنها استلام الحكم بعد التحرير. فقط المصريون في الخارج هم القادرون على توفير هذا الأمل، فلديهم من الحرية والأمان ومساحة الحركة ما يمكنهم من العمل على تشكيل قيادة سياسية تعيد إحياء الشرعية التي وئدت في 3 تموز/ يوليو 2013.
رابعا.. هناك دعم معنوي توفره المنظمات المدنیة والحقوقیة والمؤسسات الشعبية حول العالم. هذه الجهات يمكن الاستقواء بها على أنظمة الحكم الداعمة للعسكر في بلادها، وإنشاء لوبيات ضاغطة في مختلف العواصم. وهذا يتطلب أن يكون التفاعل معها من خلال جناح سياسي يمتلك التعبیر عن الشرعیة المصریة.
خامسا.. يتضح من عنوان هذا المقال أن السيد رامي شعث هو الشخصية المقترحة لقيادة الجناح السياسي للثورة، علما بأن كاتب هذا المقال لا ولم تكن له أي سابق معرفة أو لقاء بالسيد شعث.. وإنما الفكرة برزت عند قراءة حديثه بأن اعتقاله في مصر جرى بتعليمات من السفارة الإسرائيلية في القاهرة. فإسرائيل لا يزعجها فقط نشاط شعث في حركة BDS، وإنما أيضا نشاطه المناهض لحكم السيسي.
سادسا.. ترشيحي للسيد شعث لكي يتولى هذه المهمة الثقيلة له أسباب أخرى؛ أولها أنه ليس محسوبا على النخبة المصرية "المحروقة"، التي كفرت بها غالبية الشعب المصري بسبب خطاياها التي أدت لتسليم العسكر رقبة مصر.. وثانيها أنه وجه جديد تؤكد أفعاله وأقواله وطنيتَه وإخلاصَه، فضلا عن الكاريزما والنزاهة والمصداقية التي يتمتع بها (وهي ضروريات من أجل حشد الإجماع حوله، وجذب المصريين للاقتناع به كقائد ينصتون ويتطلعون إليه).. وثالثها أنه يتكلم العربية والإنجلیزیة بطلاقة وسلاسة، ولديه جاذبیة إعلامیة، تمكنه من التواصل مع وسائل الإعلام الغربية وبرلمانات الدول الديمقراطية ومنظماتها الحقوقية وهيئاتها المدنية.
سابعا.. تنازل رامي شعث عن الجنسية المصرية لا يعني شيئا، لأن كل ما يقع تحت الغصب والإكراه هو بالضرورة باطل. أما أنه أيضا فلسطيني، فهذا يشرفه ويشرف كل من يؤمن بقدسية فلسطين. ولا ننسى أن من حرر مصر من الاحتلال الروماني لم يكن أصلا مصريا، وكذلك لم يكن مصريا من حررها من الخلافة الفاطمية الشيعية، وكذلك من حكمها 17 سنة وأنقذها مع غزوات المغول والصليبيين. أما أنه متزوج من فرنسية، فلا أقول أكثر من أن هناك أجانب أشرف وأنزه بكثير ممن يحملون أسماء مسلمة.. والأمثلة كثيرة لا تحصى.
ثامنا.. إن تنفيذ هذا المقترح يتطلب تفاعلا واسعا من جانب النخب المصرية العاجزة في إسطنبول وأوروبا وكندا والولايات المتحدة، بافتراض أن هذه النخب متجردة، وأنه لا يشغلها إلا قضية مصر المنكوبة، التي تستصرخهم للانتفاض من أجلها، فلا أرى ما يستدعي رفضها لهذا المقترح. فإذا وقع التوافق، وقبل السيد رامي شعث تولي هذه المسؤولية الكبيرة، يمكن بعد ذلك التفكير في الخطوات التالية.
أخيرا.. إن مصر ھي حجر الأساس في ھذه الأمة.. تقوم الأمة بقيامها، والعكس. هذا ما يدركه الأعداء، ولهذا كانت البداية بها. وبالتالي فإن المصريين في الداخل والخارج لا يملكون ترف التقاعس والتخاذل أكثر من ذلك، فالكوارث في عالمنا العربي لن تتوقف إلا بتحرير مصر. والعالم لا یحترم إلا الأقویاء ذوي العزم، ولا يضيع وقته وجھده مع المتخاذلين الجبناء، ولا يهتم بالشعوب الضعيفة المستكينة.. كما أن الله لا ينصر القاعدين المتخاذلين. ومن يدري، لعل إلقاء هذا الحجر الضخم في مستنقعنا العربي الآسن، يكون كافيا لأن ينصر الله المصريين من حيث لم يتوقعوا أو يحتسبوا، وبأقل الخسائر.