وقعت تركيا مؤخرا اتفاقيات اقتصادية وعسكرية مع أوكرانيا، والتي شملت اتفاقيات للتجارة الحرة وبناء مصنع لإنتاج الطائرات بدون طيار، وهو ما يطرح أسئلة عدة عن مستقبل منطقة البحر الأسود وتأثير الوجود التركي فيها والتهديد الذي يمثله هذا الوجود بالنسبة لروسيا؛ خاصة في ظل الأزمة الدولية الحالية بين روسيا وأوكرانيا والغرب.
ونشر موقع "مودرن دبلوماسي" تقريرا، ترجمه موقع "عربي21"؛ تحدث فيه عن الفرص التي فتحها الوجود التركي المتزايد في جنوب القوقاز؛ حيث اعتبر توسيع التعاون متعدد الأوجه مع أوكرانيا أحد أكثر النتائج وضوحًا لتوغل تركيا في الاتحاد السوفيتي السابق، مسلطًا الضوء على تأثير الشراكة بين تركيا وأوكرانيا والدور المتنامي الذي تلعبه في المنطقة على علاقتها بروسيا.
ورصد الموقع - في تقريره - الأسس التي ارتكزت عليها تركيا في علاقتها مع أوكرانيا، من خلال الانخراط المتزايد عسكريا وسياسيا في شؤون دول الاتحاد السوفيتي السابق؛ حيث يبدو أن أردوغان يريد أن يصبح أحد اللاعبين الرئيسيين في اللعبة الأوكرانية بحيث تكون أي إعادة تشكيل في منطقة البحر الأسود بدون تركيا غير محتملة؛ إن لم تكن مستحيلة.
ويوضح الموقع أن تركيا مستعدة للعمل كراعٍ عسكري وسياسي لعدد من الدول السوفييتية السابقة ومساعدتها في تعزيز علاقتها مع الناتو، على الرغم من كونها ليست عضوا فيه، ما يطرح سؤالا: هل تجعل هذه التطورات الصراع في البحر الأسود أكثر احتمالا؟ وما هي المخاطر التي قد يخلقها ذلك لروسيا ومصالحها؟
اقرأ أيضا: هل تنجح جهود أردوغان لحل الأزمة بين أوكرانيا وروسيا؟
القوقاز وأوكرانيا: وصلتان في نفس السلسلة
وأشار التقرير إلى الدور التركي في حرب قره باغ الثانية، التي نقلت العلاقات الإستراتيجية بين تركيا وأذربيجان إلى مستوى آخر من القوة والمتانة؛ حيث وسعت الفرص المتاحة لكلا البلدين لممارسة ضغوط جماعية على أرمينيا (عسكريًّا وسياسيًّا ودبلوماسيًّا) وجورجيا (من حيث التعاون الاقتصادي)، ومن ثَمَّ تحدي هيمنة روسيا في جنوب القوقاز، وفي الوقت نفسه؛ فقد خلقت إستراتيجية تركيا المبنية على تعزيز مواقفها في منطقة أوراسيا توترات إضافية في علاقاتها مع حلفائها في الناتو ومع إيران.
ويوضح تقرير مودرن ديبلوماسي أن أحداث عام 2020 لم تؤد إلى تغييرات في منطقة واحدة فقط من فضاء ما بعد الاتحاد السوفيتي؛ حيث فتح الوجود التركي المتزايد في جنوب القوقاز فرصًا لها لبناء نفوذ سياسي واقتصادي في البحر الأسود، ويعد توسيع التعاون مع أوكرانيا، أحد أكثر النتائج وضوحًا لتوغل تركيا في الاتحاد السوفيتي السابق، وهو ما يعبر عنه ترويج الرئيس أردوغان المستمر لفكرة أن تكون تركيا وسيطًا بين روسيا وأوكرانيا، رغم أنه ثابت على تبني الأفكار والممارسات التي لا تقبلها موسكو؛ فلم يُخفِ أردوغان حقيقة أنه لا يعترف بالولاية القضائية الروسية على شبه جزيرة القرم، وهي القضية التي تعتبرها موسكو "مغلقة".
ويوضح التقرير كيف ارتفعت معدلات التعاون العسكري والتقني بين تركيا وأوكرانيا بالشهور الماضية؛ حيث وقعت في 29 أيلول/سبتمبر 2021، وزارة الدفاع الأوكرانية وشركة بيرقدار التركية مذكرة تعاون بشأن بناء مركز مشترك للتدريب والاختبار لصيانة وإصلاح وتحديث الطائرات بدون طيار وتدريب الموظفين، وفي أواخر تشرين الأول/أكتوبر 2021، استخدمت أوكرانيا طائرة بدون طيار من طراز بيرقدار لأول مرة في الصراع المسلح في جنوب شرق البلاد، في انتهاك لاتفاق السلام بين الطرفين، وهو التعاون الذي جعل وزير الدفاع في جمهورية لاتفيا، أرتيس بابريكس، يقترح في خريف عام 2021، أن تحذو دول الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي حذو أنقرة وتتعلم من تجربتها في تطوير العلاقات مع كييف دون أخذ موقف موسكو في الاعتبار.
ويلفت التقرير إلى التناقض الذي يشوب رد فعل أمريكا وحلفاء تركيا الآخرين في الناتو، تجاه أعمالها في القوقاز وأوكرانيا؛ فلم تستطع فرنسا (ولا تستطيع) أن تتسامح مع دعم أنقرة القاطع لباكو، بينما تبنت الولايات المتحدة موقفًا من ضبط النفس الحذر، وهو ما يفسر سبب استعداد الجانبين الفرنسي والأمريكي لتحمل كون روسيا اللاعب الرئيسي الوحيد في ناغورنو كاراباخ، باعتبارها حتمية أو أهون الشرين.
اقرأ أيضا: أردوغان ينتقد بايدن والغرب بسبب الأزمة بين أوكرانيا وروسيا
ويرى التقرير أن مجموع دول الغرب تنظر إلى تقدم تركيا في أوكرانيا، على أنه أقل دقة بكثير من تقوية التحالف الإستراتيجي بين تركيا وأذربيجان، ما جعل بعض دول "أوروبا الجديدة" تعتقد أن أنقرة تتصرف كما يمكن لأي عضو في الناتو (ويجب عليه) التصرف في علاقاته مع أوكرانيا؛ دون أي نوع من التصحيح السياسي أو التحفظات، وهو أمر يلجأ إليه ممثلو ألمانيا وفرنسا وإيطاليا والمجر ودول الاتحاد الأوروبي الأخرى من وقت لآخر، وهو ما يشجع تركيا على اتخاذ خطوات جديدة لبناء علاقات تحالف مع كييف، وفي المقابل؛ فإن أوكرانيا التي سئمت من الجلوس في انتظار أن يتخذ الناتو قراره بشأن عضوية البلاد في المنظمة، مستعدة للترحيب بتركيا بأذرع مفتوحة.
أوكرانيا وتركيا: الأمر أكثر من مجرد شبه جزيرة القرم
وينوه التقرير إلى أن مجتمع تتار القرم عامل مهم من عوامل اهتمام تركيا بالأزمة الأوكرانية؛ حيث يعيش ما يقرب من 4-5 ملايين من أحفاد تتار القرم في البلاد، وكما لاحظ الخبير الروسي في اللغات والحضارة التركية، بافيل شليكوف؛ فإن "هناك قوى في تركيا مستعدة لاستغلال المزاج الرومانسي لجزء من النخبة التركية، الذين يحلمون بالتوسع بشكل أكثر نشاطًا في القوقاز وشبه جزيرة القرم ومنطقة الفولغا وآسيا الوسطى، والذين لا ينظرون إلى روسيا كشريك، ولكن كمنافس جيوسياسي"، كما أنه ليس مصادفة أن يبرر أردوغان مبادرته للعمل كوسيط بين موسكو وكييف بالإشارة إلى مدى أهمية أن ترى منطقة البحر الأسود ككل حلا إيجابيا لقضية تتار القرم.
ويستدرك موقع مودرن ديبلوماسي - في تقريره - فيؤكد على أن تركيا لا تركز على القرم فقط؛ بل هي تستخدم أوكرانيا كسبيل للتعبير عن استيائها من الموقف الروسي بشأن قضايا السياسة الخارجية الأخرى، مستشهدًا بزيارة أردوغان إلى كييف والتي التقى فيها بوفد من مجلس شعب تتار القرم (منظمة محظورة في الاتحاد الروسي)، بالتزامن مع الذكرى الـ28 لتأسيس العلاقات الدبلوماسية بين تركيا وأوكرانيا ما بعد الاتحاد السوفيتي، في نفس الوقت الذي تشهد فيه سوريا (وهي مجال منافسة بين تركيا وروسيا) تصعيدًا عسكريّا حادًّا، جعل الرئيس التركي ينتقد القيادة الروسية لتعمدها غض الطرف عن أفعال "النظام السوري".
ويؤكد التقرير أنه على الرغم من المصالح المتزايدة بين الجانبين الأوكراني والتركي إلا أنه من المرجح أن تتعامل مع روسيا ببراغماتية؛ فلا يزال أردوغان يتحدث عن دوره كوسيط بين روسيا وأوكرانيا، وذلك في محاولة لإبراز مكانة تركيا في الحوار مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي من خلال مناشدة "علاقاتها الخاصة" مع موسكو، وهو ما يبدو مشابهًا للطريقة التي تدير بها أنقرة الحوار مع الاتحاد الأوروبي حول مشكلة اللاجئين والمهاجرين من الشرق الأوسط، لهذا فإن تركيا تعتبر المواجهة المفتوحة مع روسيا فقدانًا لمكانتها "كعضو خاص" في الناتو يحتاج إلى الإقناع والتدليل.
ويختتم موقع مودرن ديبلوماسي التقرير بالإشارة إلى أن أردوغان أظهر التحدي لعدد من الدول في السنوات الأخيرة؛ كروسيا وأمريكا والصين والهند، ولكنه كان قادرًا دائما على تبرير مواجهته لتلك الدول، كما حدث في عام 2016 عندما اختلفت تركيا وروسيا حول سوريا، وفي عام 2021 عندما وصف جو بايدن مأساة الأرمن في الإمبراطورية العثمانية بأنها إبادة جماعية، وهو ما يعني أن أردوغان يريد أن يصبح أحد اللاعبين الرئيسيين في اللعبة الأوكرانية؛ وبدونه سيكون من الصعب - ويمكن من المستحيل - أن تتم إعادة تشكيل منطقة البحر الأسود.
"هآرتس": من مصلحتنا منع حرب بين روسيا وأوكرانيا.. لماذا؟
كيف تضع روسيا والصين مصير القوة الغربية على المحك؟
معهد واشنطن: موسكو تطبق خطة "عاصفة الصحراء" بأوكرانيا