في حين تنفي قيادة
الناتو مزاعم
روسيا بدء انسحاب جزئي لقواتها من الحدود مع أوكرانيا، وتقول بأن ما حدث لا يزيد عن كونه إعادة انتشار؛ تصر روسيا على أنها بدأت بالانسحاب، لتظل الحيرة سيدة الموقف ولتستمر حالة الغموض التي بدأت ولم تنته بعد، حيث يرى محللون وسياسيون غربيون أن احتمال الاجتياح ما زال قائما، على الرغم من التصريحات المتتالية لروسيا بأنها لا تعتزم شن
الحرب، وأن ما تقوم به مجرد مناورات لا أكثر ولا أقل.
الولايات المتحدة هي الأكثر حرصا على عدم نشوب حرب بين روسيا وأوكرانيا، أو هكذا يبدو لنا؛ فقد باتت الولايات المتحدة غير راغبة في التدخل عسكريا في أي مكان من العالم، وخصوصا بعد الهزائم التي منيت بها، ابتداء بفيتنام مرورا بالعراق وانتهاء بأفغانستان، فما يناسب الولايات المتحدة استراتيجيا أن تدعم حلفاءها بالسلاح أو التدخل عن بعد إذا كانت الحاجة ملحة ولا مهرب منها. لكن الولايات المتحدة تدرك بأن السماح لروسيا باجتياح أوكرانيا سيمهد الطريق للأولى للتفكير مجددا باستخدام القوة ضد أطراف أخرى في المستقبل، وسيمنحها المزيد من الجرأة على جيرانها؛ فلولا تخاذل الناتو عن إسناد أوكرانيا عندما استولت روسيا على شبه جزيرة القرم، لما تجرأت حاليا على تهديد أوكرانيا بأكملها.
أما روسيا فليس هدفها أوكرانيا وبقاءها خارج حلف الناتو فقط، فهي ترى بأن تحركات حلف الناتو في البلطيق وشرق أوروبا تستهدفها، وأغلب الظن أن المفاوضات المتعثرة بين روسيا والناتو سببها مناقشات أكبر من أوكرانيا؛ فروسيا تريد جيرانا خاضعين لإرادتها أو محايدين على الأقل؛ فهي تحس بالحصار الذي يطبق عليها من الجانب الأوروبي الذي زرع أوروبا الغربية والشرقية بآلاف الصواريخ والمعدات العسكرية، إضافة إلى التهديد القادم من البحر ومن السماء، حيث الأسطول البحري الأمريكي متعدد الأغراض والإمكانات الضخمة، والطائرات الأمريكية المتطورة كالشبح (F35) القادرة على تفادي الرادارات وذات القدرات القتالية الهائلة، وطائرات B52 القادرة على التدمير من علو شاهق، يجعل من إمكانية رصد الرادارات عملية غير ممكنة، وإصابتها بالمضادات الأرضية غير ممكنة أيضا.
الولايات المتحدة تدرك بأن السماح لروسيا باجتياح أوكرانيا سيمهد الطريق للأولى للتفكير مجددا باستخدام القوة ضد أطراف أخرى في المستقبل، وسيمنحها المزيد من الجرأة على جيرانها؛ فلولا تخاذل الناتو عن إسناد أوكرانيا عندما استولت روسيا على شبه جزيرة القرم، لما تجرأت حاليا على تهديد أوكرانيا بأكملها
بوتين لا يريد لأوكرانيا أن تكون دولة حرة مستقلة تفعل ما تريد، بل يريدها دولة منقوصة السيادة لصالح إرادته وغروره، وما يطلبه ليس له في القانون الدولي ما يبرره، بل ثمة ما ينسفه، فقد نصت القوانين الدولية على حق كل دولة الاحتفاظ باستقلالها وامتلاك إرادتها وسيادتها على أرضها، وما يسعى إليه بوتين لا يوجد له مسوغ قانوني، وهو ليس أكثر من أطماع ومخاوف.
بوتين وهو يراقب تحركات الناتو وحرصه على تجميع قواه وتعزيزها طوال الوقت، وسعيه لمزيد من الانتشار على أكبر مساحة ممكنة، بدأ يحس أنه بين فكي كماشة، وأن الناتو يبتلع الدول من حوله؛ مما جعله يحس بأن انضمام أوكرانيا لحلف الناتو سيكون لغما كبيرا في وجه قوته وسطوته التي يسعى لتعزيزها، ولا أحد يشك في أنه كان - وربما لم يزل - يسعى لغزو أوكرانيا لضمان ابتعادها عن الناتو. وكان من أكبر حماقات روسيا ما حدث مؤخرا بسبب حشوده على حدود أوكرانيا؛ لأنه منح الناتو فرصة جديدة لتعزيز قوته وانتشارها في أوروبا كما لم يحدث من قبل، فمن حيث أراد أن يعزز قوته بغزو أوكرانيا، منح الناتو - على طبق من ذهب – الفرصة لتعزيز قواته في المنطقة.
لقد كانت الحشود الروسية مقياسا مهما لكلا الطرفين فيما يتعلق بالأفعال وردود الأفعال؛ فروسيا حين حشدت قواتها كانت مهتمة بمعرفة ردود أفعال الناتو، وربطت - بالضرورة - بين شن الحرب أو التراجع عنها بردود فعل الغرب، ومعرفة مدى الخسارة التي ستتكبدها في حال غزوها أوكرانيا، وربما تصورت أن الغرب سيتعامل مع الموقف الجديد كما تعامل مع غزو شبه جزيرة القرم أو قريبا منه، لكنه ربما صُدم بموقف الغرب من إجراءاته، وبالتالي أصبح من الصعب اتخاد قرار متسرع بالغزو من عدمه، فقد نرى أنه تورط ورطة كبيرة، ولا يعرف كيف يخرج منها.
وفي اللحظة التي يراقب فيها العالم إمكانية نشوب الحرب، نقلت محطة بي بي سي الإخبارية على لسان السفير الأوكراني في لندن ما يفيد بأن بلاده تبدي مرونة في مراجعتها مسألة الانضمام لحلف الناتو؛ تجنبا للحرب مع روسيا، إلا أنه سيكون تنازلا كبيرا لموسكو بسبب حشد قواتها على الحدود.
في حسابات الربح والخسارة، حتى الآن ليس ثمة خاسر مطلق ولا رابح مطلق، فكلا الطرفين الروسي والغربي خسر وربح، فروسيا ظهرت بمظهر المتحدي للقوة الغربية مجتمعة، حيث لم تجرؤ الأخيرة على تهديد روسيا عسكريا بشكل واضح، وأبقت الباب مواربا، واكتفت بالتهديد بالعقوبات الاقتصادية التي صاحبتها تحركات عسكرية بالغة الأهمية تشي بإمكانية التدخل العسكري إذا تجاوزت القوات الروسية الحدود باتجاه أوكرانيا، وشعر الناتو بأن أراضي أوكرانيا وسيادتها باتت مهددة. فالخسارة الحقيقية الوحيدة لروسيا تنحصر في الفرصة التي منحتها للناتو لتوسيع انتشاره وتعزيزه في القارة.
يظل احتمال اندلاع الحرب قائما، وهو وحده القادر فعليا على منح نقاط الربح والخسارة لأطراف النزاع، في ظل وضعية الهجوم التي يتخذها الجنود الروس، وهي في سباق مع الزمن لاستكمال الاستعدادات النهائية، تمهيدا للهجوم المحتمل
ولم تخسر الولايات المتحدة إزاء موقفها الهادئ نسبيا في ظل رئيسها الحالي الأقل ثورة وغضبا من سابقه، ذلك أنها تملك من القوة ما يغني عن التبجح والتهديد العسكري، لكنها ربما خسرت معنويا في نظرة العالم لها واتهامها بالخوف من خوض حرب مع روسيا.. لكن ربما الولايات المتحدة تخفي نواياها تجاه ما قد يحدث، فالقوي الواثق من قوته والذي يحس بالمسؤولية أمام شعبه وأمام العالم لا يصرخ بقدر ما يفعل إذا دعت الضرورة، ويعزز هذا الاحتمال تصريحات الساسة في أوكرانيا الذين يشعرونك بأنهم ليسوا مكترثين بإمكانية نشوب حرب، فلا يستجدون روسيا، ولا يقومون بمبادرات مهمة من شأنها أن تطفئ فتيل الحرب، باستثناء تصريحات السفير أوكرانيا في لندن، وهي - فيما أحسب - نوع من المناورة، وإلا فلماذا يتصدى السفير لهذه التصريحات التي هي من اختصاص رئيس الدولة أو وزير خارجيته..؟!
ويظل احتمال اندلاع الحرب قائما، وهو وحده القادر فعليا على منح نقاط الربح والخسارة لأطراف النزاع، في ظل وضعية الهجوم التي يتخذها الجنود الروس، وهي في سباق مع الزمن لاستكمال الاستعدادات النهائية، تمهيدا للهجوم المحتمل.