تغيير السياسيات والأنظمة والسلطات
بالقوة، من قِبَل قوة أو دولة خارجية، هو أمر مرفوض تماماً لأنه ينتمي إلى شريعة
الغاب حيث يسود القوي ويُقهَر الضعيف. الدفاع عن النفس هو حق مقدَّس وفق كل
المعايير والأعراف والقوانين الدولية والإنسانية. هذا من حيث المبدأ. هذا، أيضاً،
ما ينبغي أن يحكم العلاقات بين الدول والشعوب لكي تسود مبادئ العدالة والاستقرار
والسلام.
لا تسير الأمور على هذا النحو في
منطقتنا وفي العالم، رغم نيل كل المستعمرات السابقة استقلالها السياسي، باستثناء
الشعب الفلسطيني المنكوب بأبشع استعمار استيطاني عنصري في التاريخ. المثال الملتهب
الجديد على ذلك هو غزو الجيش الروسي لدولة أوكرانيا، إثر تدهور العلاقات بشكل
دراماتيكي بين حكومتَي روسيا الاتحادية وأوكرانيا. بيد أنه، بالاستناد إلى
التجربة، وتوازنات ما بعد الحرب العالمية الثانية، والإستراتيجيات المعتمدة من قبل
الدول الكبرى، وخصوصاً الإمبريالية منها، ورغم تبدّل وتنوّع أساليب الهيمنة
والتوسع، فإنه عندما يجري الحديث عن الغزو واستخدام القوة والتدخّل في شؤون
الآخرين لتغيير السياسات والأنظمة، فإنّ أوّل من وما يتبادر سوء ذكره إلى الذهن،
إنما هو حكام وسياسات الولايات المتحدة الأميركية على مستوى العالم، ودولة
العصابات الصهيونية على مستوى الشرق الأوسط. كان لروسيا "السوفياتية" و"الاتحادية"
دور قديم وجديد، محدود ومحصور، في هذا الميدان: التدخل في المجر وتشيكوسلوفاكيا في
الحقبة السوفياتية، وبعدها، في جورجيا و"القرم"، وحالياً في أوكرانيا.
وكذلك فإنه على مستوى المنطقة، يمكن التذكير بأنّ مصر الناصرية تدخلت في اليمن عام
1962. العراق بقيادة صدام حسين غزا واحتل الكويت عام 1990. أمّا المملكة السعودية
فقد قادت قوات "درع الجزيرة" الخليجية إلى البحرين عام 2011 لقمع
احتجاجات شعبية مناهضة للسلطة. كذلك قادت، وما تزال، منذ عام 2015، تدخلاً عسكرياً
في اليمن لحسم صراع داخلي على السلطة ضد "أنصار الله" ( الحوثيين). لا
ينبغي أن ننسى التدخلات العسكرية الفرنسية في كوريا وأفريقيا وآخرها كان ضد نظام
معمر القذافي في ليبيا عام 2011. أمّا بريطانيا، فكانت ولا تزال تابعة وشريكة
دائمة لواشنطن في كل سياساتها وخططها ومشاريعها ومغامراتها العسكرية والتوسعية:
بأساليب الغزو والاحتلال والانقلابات... من فيتنام إلى أفغانستان والعراق
وسوريا... هذا غيض من فيض.
وبينما يبدو الأمر، بالنسبة لمعظم
الأطراف والحالات، طارئاً أو مؤقتاً ومرتبطاً بتوترات وتباينات وتهديدات فعلية أو
مفتعلة في هذه المرحلة أو تلك، ترتبط الحالتان الأميركية والإسرائيلية، بامتياز،
باستراتيجيات متكاملة للعدوان وللتدخل لتغيير الأنظمة والسياسيات ولفرض الهيمنة
والتبعية والنهب وانتهاك السيادة والسطو على الثروات. وهي لذلك لا تتوسل أسلوباً
واحداً فقط، أي الغزو والاحتلال، وبالتالي استخدام القوة لسنوات وعقود، كما في
حالتَي العراق وأفغانستان. إنها تستخدم أيضاً أساليب أخرى، قد تكون أكثر أذىً
وفتكاً، كتنظيم الاغتيالات والانقلابات: في عدد من البلدان الأفريقية والأميركية
الجنوبية التي كان انقلاب تشيلي عام 1973 أكثرها فظاعة ووحشية. كذلك تلجأ واشنطن
إلى إثارة الفتن والحروب الأهلية، وتنظيم الحملات الدعائية والإعلامية الموجهة
والممولة على أوسع نطاق، كما حصل في استخدام موجة الاحتجاجات التي حملت اسم "الربيع
العربي" و"الثورات الملونة"، وقد تم اختبار ذلك بنجاح منذ "الحرب
الباردة" وانهيار الاتحاد السوفياتي وما بعد ذلك، في كل دول المنظومة
الاشتراكية السابقة (بما فيها أوكرانيا وصولاً إلى آخر المحاولات في بيلاروسيا).
نعم سياسات الولايات المتحدة و"سوابقها"
لم "تلهم" الآخرين فقط، ومنهم القيادة الروسية في غزو أوكرانيا الحالي،
بل هي أيضاً لعبت الدور الأكبر في تغيّر الوضع في أوكرانيا نفسها
بالنسبة لأوكرانيا نفسها، بدأ ذلك
خصوصاً عام 2008 حين اتخذ "الناتو" قراراً بدعوة كل من أوكرانيا وجورجيا
للانضمام إلى عضويته. كان ذلك يعني المضيّ في سياسة تفكيك وتحجيم روسيا وإضعافها،
خصوصاً بعد أن بدأت تتعافى وتتماسك على المستويات كافة، ما يؤّهلها لأن تستعيد
موقعها الدولي السابق بهذه الطريقة أو تلك.
نعم سياسات الولايات المتحدة و"سوابقها"
لم "تلهم" الآخرين فقط، ومنهم القيادة الروسية في غزو أوكرانيا الحالي،
بل هي أيضاً لعبت الدور الأكبر في تغيّر الوضع في أوكرانيا نفسها بالمجيء برئيس
موالٍ لها عام 1914، ثم في الانقلاب عليه للمجيء برئيس أكثر مطواعية عبر النجاح
المفاجئ للرئيس الحالي زيلينسكي منذ حوالى ثلاث سنوات. في ظل ولاية الرئيس السابق،
والرئيس الحالي خصوصاً (وفريق وجماعات المتطرفين من حلفائه)، تتواصل: تغذية
السياسات والأعمال العدائية من قبل السلطات الأوكرانية ضد الجارة الكبرى والأقرب
روسيا الاتحادية. عملية التسليح الواسع بالتعاون مع الغرب. محاولة تغيير الاتفاقات
الدولية كـ"اتفاقية مينسك" لعام 2014. السعي لامتلاك سلاح نووي،
وللانضمام إلى حلف "الناتو"، والاستعداد لاستقبال درع صاروخية
استراتيجية أميركية على بُعد بضع مئات من الكيلومترات عن العاصمة الروسية. اضطهاد
الأقليات الروسية الكبيرة في أوكرانيا... وسوى ذلك من سياسات سوء الجوار الرعناء
والمغامرة التي شجعت واشنطن عليها جميعها وبشكل منهجي ومثابر. تسعى واشنطن نحو
تحقيق هدف أساسي أيضاً هو التحريض على القيادة الروسية وإثارة الأزمات في وجهها،
خصوصاً بعد تحوّلها قوة عالمية عظمى تعارض الكثير من السياسات والتوجهات الأميركية
حول العالم وتوطّد علاقاتها مع العملاق الصيني خصوصاً... أدى كل ذلك إلى نفاد صبر
موسكو واللجوء إلى القوة لنزع صاعق الخطر الأكبر بتطويق روسيا ومنعها، سياسياً
واقتصادياً وعسكرياً، من أن تكون لاعباً دولياً يليق بما تملكه من قدرات وإمكانيات
وثروات. وما تأخذه الآن واشنطن على موسكو كانت هي دائماً السباقة إليه وخصوصاً في
تجاهل الشرعية الدولية: عندما غزت العراق عام 2003، لم تحفل بالأمم المتحدة وبمجلس
الأمن، ولا حتى بالحلفاء في أوروبا باستثناء طوني بلير الإنكليزي الذي يواصل
خلفاؤه دوره القذر، تابعين وشركاء في الجرائم الأميركية.
في السياق إياه، لم تضم أميركا القدس
إلى أراضيها لكنها اعترفت بذلك للعدو الصهيوني وبيهودية الدولة أيضاً. لم ترسل
جيشاً إلى الجولان السوري. لكنها اعترفت بضمه إلى الكيان الصهيوني المغتصب لأرض
وحق شعب فلسطين. وتدير واشنطن معركة تدخّل في الشأن الداخلي اللبناني غير مسبوقة
لفرض تغيير في السياسات الخارجية اللبنانية لمصلحة العدو الصهيوني في مسألتي
التطبيع معه نزع سلاح المقاومة، وليس لمحاربة الفاسدين كما تدّعي وهم في معظمهم من
أتباعها سياسياً واقتصادياً ومالياً. واشنطن هي قوّة التدخل، بواسطة الغزو، الأولى
في العالم. وقد صاغت في حقبة بوش الابن و"المحافظين الجدد" وترامب،
استراتيجيات عدوانية وقحة للهيمنة والتفرد والنهب والعنصرية و"البلطجة"،
عبر الحروب "الوقائية" كما حصل في العراق خصوصاً. إلى ذلك فواشنطن حاضرة
في كل أزمات العالم: بشكل مباشر، أو عبر التحريض والوعود والأكاذيب والتآمر
والعملاء. الشعب الأوكراني منكوب، وكذلك الشعب الفلسطيني واليمني والعراقي
والليبي. ضحايا العنف والاحتكارات والتطرّف والعنصرية في كل مكان. لتحديد المسؤول
الأول: فتّش عن واشنطن وشركائها!