آراء ثقافية

خطوات في شنغهاي: قراءة في رحلة منصورة عز الدين للصين

كتاب

من السُّطور الأولى نعرفُ أنّ كاتبتَنا تخوضُ رحلتَها بعقليّة مُحترِفة الكتابة التخييليّة. لا يمُرُّ حادثٌ قد يبدو عرَضِيًّا لمُعظَمِ المُسافِرِين دون أن تنتبهَ إليه وتقرأَه لمحاولةِ استكناهِ معناه، ومِثالُ ذلك انتباهُها في وصف وجودِها في المَطار إلى حُلول وثائق السفَر محلَّ الإنسان المُسافِر من الأهمّية لدى الآخَرين، فتقولُ: "في المطارات أقبضُ على هذه الوثائقِ كمَن يقبضُ على جوهرِ وجودِه." ولا تترُك مرحلةً من مراحل السفَر دون أن تستبطِنَ مَشاعرَها وتنثُرَ منها ما يتيسّرُ أمامَنا على الصفحة، فحين تحلّقُ الطائرةُ، تدهمُها أسئلةٌ وجوديّةٌ مُقلِقةٌ، وتقولُ: "وأجِدُني أُعيد النظرَ في حياتي كلِّها، كأنما انفصلتُ عنها ووقفتُ أرقبُها مثلَ طائرٍ يُطلُّ مِن فوق على عُشِّه المُحترِق." هذا فضلًا عن حضور هَمّ الكتابةِ بقوّةٍ، فهي تنتقي فِلمَين لتشاهدَهما على مَتن الطائرةِ لهما علاقةٌ بالكتابةِ لشعورِها بالذَّنب لأنها توقفَت عن القراءة.

وعن ليلتِها الأولى بالفندق الذي نزلَته في شنغهاي تقولُ: "صارَت الكتابةُ هي مكانيَ الأليفَ القادرَ على ترويضِ غُربتي وتخفيفِها"، كما تُطلِعُنا على تفاصيلَ دقيقةٍ من نظامِها الصّارمِ لممارسة الكتابةِ في كلّ مشروعٍ إبداعيٍّ تعكفُ عليه، وهو نظامٌ جديرٌ بالإعجابِ دُون شَكّ. بل إنّها في وعيٍ حاضرٍ بالذاتِ وانعكاسِها في أُسلوبِ الكتابةِ تتبرّأُ ممّا قد يَلحَقُ أسلوبَها أحيانًا من مُبالَغَةٍ في العاطفيّة، فتقولُ: "يبدو أنّ حرارةَ الجوّ في غُرفتي مع هُطول المطر بالخارجِ قد حوّلاني إلى كائنٍ سنتمنتاليٍّ يستخدم أوصافًا أقشعرّ من لزوجتها في الأحوال العادية."

وفي تقديري أنّ هذا الحُضورَ الكثيفَ لهَمّ الكتابةِ يُضيفُ فارقًا مهمًّا بين هذا النّصّ في أدب الرحلةِ وأعمالٍ أخرى حديثةٍ لكُتّابٍ آخَرين. صحيحٌ أنّ كاتبتَنا قد تعرّضَت للفارقِ بين خصائص الرحلتَين: المعاصرةِ والقديمة، في الفصل المسمَّى (مُسافرٌ لا يميِّزُ شرقَه من غَربِه)، لكنّها تتركُ لنا مهمّةَ اكتشافِ الفارقِ بين كتابتها هي بالتحديدِ ومَن سبقوها على هذا الدَّرب.

وتقفزُ إلى ذهني أمثلةٌ من حِقَبٍ مختلفةٍ تنتمي إلى القرن الأخير، منها (شرقٌ وغرب) لمحمد حسين هيكل، وقد كُتِب بعضُ فُصولِه على الأقلّ في الثلاثينات، وإسهامات مصطفى محمود في أدب الرِّحلة وقد كُتِبَت بين نهاية الخمسينات ومَطلع الثمانينات، و(كتابُ الأسفار) لجمال الغيطاني بين الثمانينات والتسعينات. وكلُّها بريءٌ من سيطرة هَمّ الكتابة على هذا النحو.

وربما يكون هذا المَلمَح تجلِّيًا لسيطرة ظاهرة الكتابة المُحيلةِ إلى ذاتِها - أو (الميتا-سَرد) كما يحلو لنُقّاد الأدَب أن يُسمُّوها - على جِيلِنا من الكُتّاب، وهي ظاهرةٌ أعقَد بالطبع من أن نحاولَ فهمَ بواعثِها في مقالٍ كهذا، وإن كنتُ أعتقدُ أننا نهربُ من تأزُّم الواقعِ إلى داخل الصفحة البيضاء، فنخلقُ داخلَ عالَم النّصّ الكبير عوالِمَ نصّيّةً أصغر، ليتسنّى لنا حين نَخرجُ منها أن نتجنّبَ أضواءَ الواقع الباهرةَ المُؤذيةَ بأن نَجدَ أننا مازلنا في نّصٍّ مؤطَّرٍ بالصفحة! وربّما الأمرُ أبسَطُ من ذلك، ومرَدُّ هذه الظاهرةِ في هذا الكتابِ بالذاتِ إلى أنّ الرحلةَ قد جاءت بدعوةٍ من اتحاد كُتّاب شنغهاي لإقامةٍ أدبيةٍ في تلك المدينة. وربّما محض الكتابة عن الكتابة هو أحدُ وجوه افتراق أديب الرّحلة المُعاصِر عن سَلَفِه القديم!

الموقف من الحداثة:


حول الموقف من هذه الحداثة – أو ما بعد الحداثةِ كما تحبُّ كاتبتُنا أن تصحِّحَ لنا ولنفسِها – يتمحورُ شطرٌ كبيرٌ من الكتاب. هي تارةً تقفُ منها موقفًا راصِدًا محايدًا، لا سيّما في بداية تعرُّضِها لها، فتقولُ ببساطةٍ في فصل (التوغُّل في الغد): "فمحطات مترو شنغهاي أقرب إلى مُولات ضخمة تضُمُّ محالَّ سوبرماركت وملابس ومطاعم متنوعة." وإذا كان لنا أن نعتبرَ الموقفَ من الإيغال في الحداثة جزءًا من موقفٍ عامٍّ من التراكُم والتعقُّد الحضاريَّين، فإنّ هذا الموقفَ الأخيرَ العامَّ يصطبغُ بالإيجابية في الفصل التالي مباشَرةً (استئناس المكان)، وهي تحدّثُنا عن انعكاس العلاقة بالطعام على الشعورِ بالمكان: "بينما آكُلُ المكرونةَ مع شرائح البطّ تساءلتُ كيف كان إحساس البشر حين اكتشفوا الطبخ ولم تعد علاقتهم بالأكل تقتصر على ما يلتقطونه من فواكه وخضرواتٍ نيئة؟ مؤكّدة أن علاقتهم بالمكان تغيرت وتعمقت وطباعهم لانَت." وتستشهد بحكايةٍ من أدبيات الطاوية عن بلدة (فولو) التي يجهل أهلُها طهو الطعام، ويرتبط هذا بغِلظة الطّباع وسماتٍ بدائيّةٍ كثيرة. لكنّا نلمحُ بدايةَ انقلاب الموقف مع الفصل التالي (عالَم صغير) حين ترصُدُ ولعَ أهلِ المدينة بالهواتف الذكية إلى درجة الإدمان.

ونجدُ صدًى آخَر خافتًا لهذا الموقفِ السلبيّ في فصل (سوف نفترق)، وإن كان مُنصَبًّا على العولمة بصِفتها مظهرًا حداثيًّا، وذلك في وصفها لأحد المقاهي: "حميم وبسيط ومُريح نفسيًّا، ربما لأن له طابعَه الخاصَّ ولا يشبه المقاهي العالمية المستنسخة من بعضها بعضا." ثُمّ نجدُ صدًى جديدًا وهي تتحدثُ عن حنينها لسَماعِ البحّة الفريدة لصوتِ رشيد طه حين جاءها خبرُ وفاتِه: "يخطرُ لي أنّ الوفرةَ أدّت إلى تَراخي حواسّنا، والتكنولوجيا أورَثَتنا كسلًا في الحواسّ. حين نشتاقُ إلى صوتٍ ما لا نفكر في استعادته في الذاكرة، بل نلجأ فورًا إلى يوتيوب أو فيديو...إلخ."

وتصِلُ هذه الأطياف (الموقِفِيّة) المتباينة – إذا جاز التعبير – إلى أعمق نقطةٍ في تأمّلات كاتبتِنا حين تستشهِدُ بما هو حاضِرٌ للعين على ما هو غائبٌ عنها، في حركةٍ رُوحيّةٍ مُرهَفَةٍ مِن الشهادةِ إلى الغَيبِ، أزعُمُ أنّ وراءَها دُربةً ومِرانًا طويلًا، وأرى أنها الهدفُ الأسمَى من تأمُّل ما هو ماثِلٌ أمامَ العين، حيثُ تحُدُّ من انبهارِنا بما نراه وتدعونا إلى شكلٍ من أشكال تعليقِ الحُكم وإلى التعاطُفِ مع ما لا تُدركُه حواسُّنا.

ونجدُ هذا التأمُّلَ في فصل (في شارع السعادة الأبدية)، حيثُ يبدأ من التساؤل عمّا كانت عليه شنغهاي قبل نهضتها العُمرانيّة، لينتهي بقولِها: "شهدت المدينة حركةَ بناءٍ وتعميرٍ بالغةَ السُّرعةِ، يعني هذا أنها شهدت بالمِثلِ حركةَ هدمٍ مجنونة!"، ثُمّ يُطِلُّ علينا هذا العُمقُ ثانيةً مع حديثِها عن رفيقتِها (فرنسيس) وتَجوالِها في شارع (السعادة الأبدية): "تُلاحِقُ أثرَ مَن عاشوا فيه قبلَ تطويرِه واضطُرُّوا لمغادرة بيوتهم والانتقال إلى أخرى بديلةٍ قُربانًا لعَجَلَة التطوير." هنا يختزن هذا البَيانُ السّريعُ رؤيةً عميقةً ومُقارَبةً فريدةً لمكانة التطوير المادّيّ في أولويّاتِ الحُكومات، فإنّ مَجازَ عَجَلة التطوير يتحوّلُ إلى شيءٍ مُقدَّسٍ في خِطاب الحكومات وبرامجها التنفيذية، يتضاءل إلى جِوارِه كلُّ شيءٍ ويَسهُلُ التضحيةُ على مذبَحِه بأيِّ شيءٍ، ولا مكانَ فيه للعواطِف التي تَحكم علاقة الإنسان بالمكان.

ومرّةً ثالثةً نرى هذا العُمقَ في تعليقِ كاتبتِنا على الأضواء الليلية المُبالَغِ فيها في شنغهاي، فتقولُ: "الناسُ هنا مُغرَمون بالتحديث، سعداء بقدرتهم على تحويل مدينتهم إلى متروﭘوليس مستقبليّةٍ، فيما أبحثُ أنا عن شنغهاي الماضي، عن جسدِها المُغطّى بالندوب، وأنفاسها المحبوسة هلعًا خلالَ الاحتلال الياباني، أو ترقُّبًا ووجلًا مع الانطلاقة الأولى للثورة الثقافية. تجذبني شنغهاي صوب مستقبَل المدُن، فيما أقبضُ على يدِها، أستوقفُها كي تبوح لي بما خلّفَه الماضي من عتمةٍ في رُوحِها تجعلُها دائمًا في حاجةٍ إلى كلّ هذه الأضواء!"

أسئلة الهُوِيّة:


في (عالَم من الدانتيل) تُثير كاتبتُنا سؤالًا مهمًّا عن مُحدِّدات أصالةِ انتماءِ مكانٍ ما إلى هُويّةٍ معيَّنة. وكان الدافعُ إلى ذلك تكرار كثيرين لقَولٍ مُفادُه أنّ شنغهايَ الحاليّةَ (الكوزموﭘوليتانية) ليست هي الصّين الحقيقية، وعليها أن تلتمسَ وجوه الصِّين الصينية في رحلاتٍ خارج شنغهاي. تقولُ: "دفعني هذا إلى التفكير إن كانت هناك نسبةٌ محدَّدةٌ أو وصفةٌ بعينِها تجعلُ مدينةً ما صينيّةً أكثرَ من سِواها. وما مواصفات تلك الصين المفترَضة في المخيّلة؟! هل ينطوي الأمرُ على صُورٍ نمطيةٍ ما؟ أم أنها مجرد ملاحظة متحفظة على الطابَع الكوزموﭘوليتاني للؤلؤة الشرق؟" ولا تمنحُنا كاتبتُنا إجابةً قاطعةً، وإنما تتركُ لكلٍّ منّا أن يصِلَ إلى النتيجة التي تُرضيه.

وخروجًا إلى أوجُهٍ أخرى لأسئلة الهويّة نجدُها تعلّقُ على وجبة شرائح اللوتس التي تناوَلَتها مرّةً واحدةً، فتتذكّر آكِلي اللوتس الذين قابلَهم أوديسيوس وبحّارتُه في طريقِ عودتِهم إلى إيثاكا في ملحمة الأوديسّة، إذ يدفعُ آكِليه إلى الاسترخاء ويُنسيهم الرغبة في العودة إلى الوطن، ومن هذه الذِّكرى تقفِزُ إلى وفرة أزهار اللوتس في المتنزّهات التي زارَتها مقارنةً بشُحّ هذه الزهرة في مصر رغمَ مركزيّتها في الحضارة المصرية القديمة، فتقول: "لم تكن لغتنا القديمة فقط ما فقدناه، مع اللغة فقدنا الصلة بأشياء كثيرة أساسية في ماضينا."

ورغمَ ما قد يبدو من بُعدٍ بين موضوع اللوتس وموضوع شنغهاي الكوزموﭘوليتانية غير المعبِّرة عن الصّين الحَقّة، إلّا أنّ موضوع اللوتس وتعليقَها عليه يجعلُنا نتساءل، هل انمسَخَت الهويّة المصريّة حَقًّا بسقوط اللوتس وغيرِه من رموز الحضارة الفرعونية؟ أم أنّ الهويّةَ مِن طَبعِها أن تكونَ أقربَ إلى الشجرةِ النفضيّة التي تسّاقَطُ عنها أوراقُها (رموزُها وما قد يبدو وقتيًّا مُحدِّداتٍ لهويّتِها) في الشتاء أو الخريف، لتكتسيَ أوراقًا غيرَها في الربيع والصيف؟! وإذا كان الأمرُ كذلك، فهل نحنُ حَقًّا الذين فَقدنا تلك الأشياء الكثيرةَ الأساسيّةَ لِمَن قبلَنا؟ أم أنّ مَن فقدوها هم أسلافٌ يكوّنون جزءًا من هويّتنا الحاليّة قد يزداد وقد ينقُصُ تبَعًا لمَدى إيماننا بهم، كما هو الحالُ مع كُلِّ إيمان؟! هي أسئلةٌ ليست لها مِن إجابةٍ قاطعةٍ، وليس علينا إلا أن نُثيرَها، على خَطى كاتبتِنا ونهجها في طرح الأسئلة.

ولا يَبعُدُ عن هَمّ الهُويّة ما تقولُه معلِّقةً على حكايةِ (هيرو أونودا) الجنديّ الياباني الذي ظلّ يُقاتِلُ في الفلبين لمصلحة الإمبراطورية اليابانية لتسعةٍ وعشرين عامًا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وهزيمة اليابان. تقولُ: "كم من هيرو أونودا يعيشون بيننا في لحظة زمنية انقضَت؟ أهي حماقةٌ أم انّ الحُروب لا تنتهي بانتهاء المعارك على الأرض، وتظلُّ ماثلةً مجازيًّا وفي الذاكرة؟" وهو سؤالٌ يُغازِلُ مِن بَعيدٍ كُلّ نزعةٍ أصوليّةٍ وكلّ رغبةٍ في إحياءِ فِردوسٍ قديمٍ حقيقيٍّ أو مُتخيَّل. تطرحُها كاتبتُنا كعادتِها وتتركُ لنا أن ننهشَ عقولَنا بحثًا عن إجابة.

انتهاءً، لا يمكن أن يَفِيَ هذا المقالُ القصيرُ بكلّ ما يزخرُ به الكتابُ من أفكارٍ وتأمُّلاتٍ وملاحظاتٍ تبعثُ على مُراجعةِ تصوراتِنا المسبّقة ومفاهيمِنا عن الذاتِ والآخَرِ وطبيعة الهُويّة، ولا حتى بما دوَّنتُه من ملاحظاتٍ على هامشِ قراءتِه. وإن كانَ غوصُ كاتبتِنا في المُشترَكات الإنسانيّة التي جمَعَتها – سواءٌ بأهل البلَد أو برِفاقِ إقامتها الأدبية المتعدِّدي الجنسيات – مِن ناحيةٍ، وفي الفوارق الثقافيّة بين هذه الأطرافِ، يعلِّمُنا درسًا مهمًّا في الانفتاحِ على الآخَر ومنح الفُرصةِ لذوائقِنا الاجتماعيّةِ ليُرهِفَها الاختلافُ ويشحذَها الاحتكاكُ بمَن يُشبهوننا في أمورٍ ولا يشبهوننا في أخرى.

كنتُ أنتظِرُ مع كلّ عودةٍ إلى مسكنِها المؤقَّتِ قُربَ معبَدِ (جينغ آن)، ومع ذِكرِها لزيارة معبد كونفوشيوس، أن تُطلِعَنا على ما جاشَت به نفسُها إزاءَ تلك الخبرة الرُّوحيّة المُفارِقةِ للمألوفِ، المتمثّلة في دخول عالَم الحياةِ الرُّوحيّة الصينية، لكنّها آثَرَت أن تضربَ صَفحًا عن تفاصيلِ وجودِها في مُحيطِ تلك المُقدَّساتِ، ربّما لتُفسِح المجالَ للبحث عن رُوحِ الصِّين خارجَ المَعابِد، وهو مَسعًى أرى أنها قد وُفِّقَت فيه بإخراجِها هذا النّصَّ الفريد.