مقالات مختارة

ومضات مآسي الأسرة العربية في عصر التوحد الرقمي

1300x600

ليس من السهل في عصر الاتصالات والسباق الرقمي أن تتولى الأسرة العربية وغيرها من أسر العالم تنشأة أبنائها، فهم ليسوا كما أبناء جيلهم ممن عاشوا في أي مرحلة تذكر من عمر البشرية.

 

ويعود ذلك الأمر لطبيعة التطور التقني الحالي وتعاظم النفوذ التجاري لشركات التقانة الحديثة وتنامي قدرة منتجاتها وتطبيقاتها على إحكام سيطرتها على الجيل الأكثر تفاعلاً مع منتجاتها، خاصة من جيلي الشباب والأطفال، وما يخلفه هذا الحال من توجهات وتحديات اجتماعية جديدة. ولو اختار الأهل أن يستندوا في تربية أبنائهم إلى ما تعلموه هم عن آبائهم وأمهاتهم أو إلى تجاربهم الشخصية فإن ذلك سيكون بمثابة تحدٍ اجتماعي إنساني صعب أو أشبه بالمستحيل.


فالتصاق الناس بأجهزة اتصالها وتواصلها بات سمة يومية تتصاعد بصورة كبيرة، خاصة أمام احتدام المنافسة بين الشركات المنتجة لأجهزة الاتصالات والمعدات والتطبيقات على اختلافها، لتجد نفسك أمام حال تفكك معها التواصل الآدمي المباشر حتى داخل الأسرة الواحدة، ليستعاض عن ذلك الخطاب برسائل نصية أو صوتية أو فيلمية، ناهيك من حالة الضيق التي تصيب البشر إن هم لم يلمسوا أجهزتهم عدة مرات يوميا، سواء لإجراء مكالمات هاتفية أو إرسال رسائل إلكترونية، أو نشر أفلام متنوعة، أو مشاركة مواد يتبادلونها بوسائط عدة. أهلاً وسهلاً بكم في عالم التوحد الرقمي!


لا نجلس، لا نعيش، لا نتنفس، لا نختلط، لا نتزاور، ولا نتسامر ولا حتى نتحدث إلا وأجهزتنا هي الأقرب إلينا من حبل الوريد أحيانا، فهل بتنا نلعن زماننا؟ ونحّن إلى ماض فائت؟ الحقيقة أننا أمام عصرٍ إنساني جديد، تحاصرنا فيه التكنولوجيا وتسابقنا فيه وسائل الإعلام الاجتماعي والتطبيقات التقنية على اختلافها، وهو ما يسير في زمن لم يعد البشر قادرون معه على اللحاق بعظمة وسرعة وطبيعة هذا التطور الماراثوني المتسارع.

العالم العربي لا ينتج التكنولوجيا بل يستخدمها، لكن استخدامها لإنتاج المعرفة مختلف تماماً عن استخدامها لإنتاج التهلكة، فإما أن نغالب التكنولوجيا أو تغلبنا!

وعليه فإن البعض يختصر الطريق عبر تسمية ما يجري بـ”لعنة التكنولوجيا”، واتهامها بالتسبب بتبدل منظومة الخُلق البشرية وتفكك الروابط الإنسانية وتدني التواصل الآدمي الوجاهي المباشر، وتبدل أنماط الحياة والعمل والتطبب والدراسة وغيرها الكثير.


 وأكاد أجزم أن حجم لعنات من هم خارج منظومة الحراك الإلكتروني لهو أكبر بكثير من الأهل المنتقدين الذين يستخدمون التكنولوجيا، ويقدرون قيمتها لكن يخفون حبهم لها، مقابل ضبط أبنائهم والتخفيف من إدانتهم المستمرة. ولعل أهم مآسي الأهل في العصر الرقمي، تكمن في تقاعس أبنائهم أكاديمياً وارتفاع وتيرة نزقهم واضطراب ظواهر المراهقة وتبني النهج العدائي وتعاظم التعامل المتطرف وتفاقم الجريمة الإلكترونية وارتفاع معدلات التنمر والتسلط والإسقاط، وصولاً إلى تفكك النسيج الأسري وتهاوي روابط الأسرة الواحدة.


بهذه الصورة يريد البعض أن يقولب نتائج التطور الرقمي وتعاظم مخرجات التقانة وتراجع عرى المجتمع الواحد وانهيار المنظومة الاجتماعية التقليدية، فهل تستحق التكنولوجيا كل هذا القدح؟ وهل سيعني تصاعد انتشارها أننا على شفا حفرة من ضياع العلاقات الأسرية كما عرفناها؟ كل هذه الأمور والمشاعر إنما ستنتهي إن نحن تبنينا الخطوات التالية:


العالم العربي لا ينتج التكنولوجيا بل يستخدمها، لكن استخدامها لإنتاج المعرفة مختلف تماماً عن استخدامها لإنتاج التهلكة، فإما أن نغالب التكنولوجيا أو تغلبنا!


1 ـ ضرورة الاقتراب أكثر من العالم الرقمي، والاطلاع على تفاصيله وخفاياه، والإصرار على تناول ما يقدمه من مخرجات وتطبيقات ومزايا تقربنا أكثر إلى ما يعرفه أبناؤنا وتجعلنا نعرف جل ما يعرفونه هم.


2 ـ الابتعاد عن مفهوم القمع الرقمي لمنع أبنائنا من استخدام التكنولوجيا والتخلي عن التهديد والوعيد بقطع الإنترنت، وتبني مفهوم الحوار الأسري الدائم ومحاولات الإقناع المسؤولة وتعزيز الثقة بالأبناء وتحفيزهم على الإنجاز والتقدم في حياتهم العملية، ومناقشة القضايا الحساسة بروح التفاهم والصداقة.


3 ـ ربط الحصول على المنتجات الرقمية بإنجازات دراسية أو مهنية، وجعل ذلك بمثابة المكافأة النوعية التي تعزز الثقة المتبادلة والتقارب المسؤول.


4 ـ الحث على استخدام التكنولوجيا بإنجازات تحقق منافع معرفية، وتشجع على عدم هدر الوقت بل تعزز توظيف الطاقة اليومية لمنافع إنسانية واجتماعية.


ما ذكرت إنما هو غيض من فيض وخطوات أولية سأسعى للتوسع حولها والبناء عليها في مقالات مستقبلية، لضمان المنفعة المجتمعية وتخفيف ما يشغل وجدان الناس في العصر الرقمي جراء حالة التيه التي يعيشونه مع أبنائهم وبناتهم.


إن التكنولوجيا ليست نقمة ولا لعنة وإنما نعمة ورفعة، إن نحن أحسنا استخدامها والتعامل معها والمبادرة لإخراج أنفسنا وأبنائنا من إطار التوحد الرقمي إلى إطار الحضور المجتمعي القائم على الثقة والتفاعل والإنجاز. هنا أذكر الجميع بأن العالم العربي لا ينتج التكنولوجيا بل يستخدمها، لكن استخدامها لإنتاج المعرفة مختلف تماماً عن استخدامها لإنتاج التهلكة، فإما أن نغالب التكنولوجيا أو تغلبنا!