ثمة فرق بين زعيم وزعيم. قد يكون الحاكم دكتاتورا، لكنه قادر على إيهام الشعب بأنه زعيم، وأنه قادر على إدارة الدولة من خلال كارزما خاصة، توحي بقدرات خاصة تقنع كثيرين بإمكانية النظر إليه كزعيم يستحق المنصب، كما كان الأمر مع جمال عبد الناصر مثلا، وإن لم يرضَ عنه قطاع من الشعب. وقد يكون رئيس آخر ديمقراطيا، لكن شخصيته غير مقنعة، وغير قادرة على ترسيخ وجودها على رأس الدولة بصفة رئيس. وقيس سعيد لم يحقق هذه ولا تلك، فلا هو ديمقراطي مبدع ولا دكتاتوري مقنع.
شخصية
قيس سعيد ومواصفاتها غير صالحة، وغير قادرة على تمثيل صورة رئيس الدولة المقنعة؛ ذلك أن الرئيس القادر على فرض نفسه ضمن أي خطة عمل أو تغيير، يجب أن يتمتع بشيء من الذكاء والقدرة على المناورة، بعيدا عن التشنج والهدم والهتك الاجتماعي، وتجريف السلطات، واتخاذ القرارات المجحفة في حق مؤسسات الدولة وطبقتها السياسية، بكثير من العنجهية والعناد والفردية المطلقة.
وكان آخر دليل على عبثية قراراته، قيامه بعزل 57 قاضيا منتصف ليلة الأربعاء، (1 حزيران/ يونيو)، بحجة الفساد والتواطؤ والتستر على متهمين بالإرهاب، ما جعل محمد البرادعي يعلق على قرار سعيد بالقول: "الحكم السلطوي: كتالوج واحد". وهي المرة الأولى التي يتعرض فيها للشأن
التونسي، فيما أعرف.
شخصية قيس سعيد ومواصفاتها غير صالحة، وغير قادرة على تمثيل صورة رئيس الدولة المقنعة؛ ذلك أن الرئيس القادر على فرض نفسه ضمن أي خطة عمل أو تغيير، يجب أن يتمتع بشيء من الذكاء والقدرة على المناورة، بعيدا عن التشنج والهدم والهتك الاجتماعي، وتجريف السلطات، واتخاذ القرارات المجحفة في حق مؤسسات الدولة وطبقتها السياسية
ويظن قيس سعيد أنه ذكي وأنه بخطوته هذه قادر على إيهام الشعب بأن قضاة محددين، تستروا على إرهابيين، علما بأن الغالبية العظمى من الشعب تدرك يقينا بأن ملفات التحقيق التي كانت تقدمها النيابة العامة للمحاكم في حق هؤلاء المتهمين، لم تكن تحمل أية إدانة واضحة مقرونة بالدليل والحجة، والقاضي يتعامل مع الأوراق التي أمامه، وقد تم التطرق لذلك مرارا وتكرارا في وسائل الإعلام، حين كانت توجه الاتهامات للقضاة، فينبرون للدفاع عن أنفسهم.
ومما يؤكد فشل شخصية هذا الرجل، استقالة 13 مستشارا من مناصبهم منذ الانقلاب 25 تموز/ يوليو 2021 حتى اليوم. إنه رقم مهول، ليس له مثيل في عالم الحكم والسياسة، وأظنه لن يتكرر في أي مكان من بعد. وهذا يدل على أحد أمرين؛ إما فشله في اختيار مستشاريه، أو فشله في إدارة ملفات الحكم وتعديه على الحقائق والثوابت التي لم ترق للمستشارين، الذين وجدوا أنفسهم مجرد أرقام في وظيفة شكلية. وكلا الخيارين يدينه بشدة، ويؤشر على هشاشة فكرية وذهنية.
وفي الأثناء، يبدو أن
اتحاد الشغل بدأ يحس بالكارثة القادمة، وبدأ يشعر بأن قيس سعيد فرس خاسر لا يُراهَن عليه، وأنه سيكون أحد ضحايا الانقلاب إن آجلا أو عاجلا؛ ذلك أن التكوين النفسي للمنقلب يجعله غير قادر على تحمل أي قوة اجتماعية أو سياسية تشاركه الرأي أو التأثير على الرأي العام، لا سيما أنه يرى نفسه ضعيفا في مواجهة الاتحاد، ويحس بقوته وخبرات قياداته التي تنافس خططه وتدابيره العشوائية، وتقف في وجهها بحكم الخبرة والممارسة الاجتماعية الطويلة.
اتحاد الشغل بدأ يحس بالكارثة القادمة، وبدأ يشعر بأن قيس سعيد فرس خاسر لا يُراهَن عليه، وأنه سيكون أحد ضحايا الانقلاب إن آجلا أو عاجلا؛ ذلك أن التكوين النفسي للمنقلب يجعله غير قادر على تحمل أي قوة اجتماعية أو سياسية تشاركه الرأي أو التأثير على الرأي العام، لا سيما أنه يرى نفسه ضعيفا في مواجهة الاتحاد
بعد انسداد آفاق التفاوض مع سعيد؛ أدرك اتحاد الشغل بأن الأمور تسير عكس تطلعاته وآماله، وأن سعيد لا أمان له، فقام بخطوة تكتيكية حين أعلن الإضراب العام في السادس والعشرين من الشهر الجاري، وهو ما يعني شل المرافق العامة ليوم واحد، ربما ليوصل رسالة إلى المنقلب تقول: نحن هنا.. وقادرون على مزيد. لكن ربما يقوم سعيد بخطوة استباقية، كأن يقوم بإصدار مرسوم يقضي بحل الاتحاد، فلم يعد ثمة شيء يمكن أو يوقف حالة الهستيريا الني تتفاقم يوما بعد يوم في شخصيته العدوانية المريضة؛ فهو يعاني من رهاب تجاه وجود أي قوة أخرى في البلاد، ويرى نفسه حاكما مطلقا وزعيما أوحد، وعلينا أن نتوقع أي شيء منه.
يتحتم على اتحاد الشغل أن يخرج من لعبة القط والفأر، إلى ميدان الفروسية؛ فمسؤولياته التاريخية ليس محط تجريب وتخبط، وردود فعل. على اتحاد الشغل أن يتنبه إلى حقيقة الحجم الاجتماعي والأخلاقي الذي يمثله، وأن يحرص على أن يكون حائط الصد الأول في وجه الدكتاتورية والمحافظة على الدستور، فهو ليس تجمعا صغيرا أو حزبا لم يسمع به أحد. عليه أن يكون في مستوى الحدث، وأن يسجل مواقف تاريخية، فالتاريخ لا يرحم. لقد آن أن يتحرك بعيدا عن الشعارات وأن يبني لنفسه موقفا واضحا صارما، مستعينا بقوته الاجتماعية وقدرته على التغيير. وأن يتمثل في أدائه بقول المتنبي:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم وتأتي على قدر الكرام المكارم
بات من الضروري أن ينتبه رئيس الاتحاد العام للشغل، إلى أن كل كلمة ينطق بها أو فعل يقوم به مراقب ومحسوب عليه، والمرحلة لا تحتمل مزيدا من الضياع؛ فالشعب يعاني من الإنهاك والجوع والدولة مفلسة، والمجتمع مشرف على الانهيار، وبات من الضروري أن يراجع الاتحاد خطواته ومواقفه منذ الانقلاب حتى اليوم، خطوة خطوة وموقفا موقفا، وأن يبني عليها موقفه الجاد والحازم تجاه مجمل الأحداث والتطورات السياسية في البلاد، وعليه ألا ينسى أنه قادر على تحقيق كثير مما عجز عنه غيره. وقد آن أن يخرج من حالة الانتظار والترقب والمناورة إلى حالة الفعل، فالوقت المواتي هو اليوم لا غدا، لا سيما أن قيس سعيد اليوم يقف على كومة قش سرعان ما ستنهار ويسقط معها، فهو في عزلة آخذة بالازدياد، وفي حالة من انعدام الوزن موغلة في العدمية والاضطراب الانفجاري الذي يعيشه طوال الوقت.
شوكتان في حلق قيس سعيد تكادان تخنقانه، إحداهما بلغت البلعوم وهي اتحاد الشغل، والأخرى بلغت الحلقوم وهي حركة النهضة وأنصارها والمتحالفون معها، ولن يهدأ لسعيد بال حتى يخرجهما من حلقه، ولو بعملية جراحية خطيرة
ليس لدي شك شخصيا في أن المنقلب مقدم على حل الأحزاب في أقرب الآجال، ولا أستبعد أن يشمل الحل الاتحاد العام للشغل أو إضعافه وتهميشه، من خلال مراسيم رئاسية مفاجئة، تضع الاتحاد في حالة ارتباك، قد توقعه في أخطاء ردة الفعل؛ فقيس سعيد يمكن أن يقوم بأي شيء يحمي عورته التي تنكشف يوما بعد يوم.
ثمة شوكتان في حلق قيس سعيد تكادان تخنقانه، إحداهما بلغت البلعوم وهي اتحاد الشغل، والأخرى بلغت الحلقوم وهي حركة النهضة وأنصارها والمتحالفون معها، ولن يهدأ لسعيد بال حتى يخرجهما من حلقه، ولو بعملية جراحية خطيرة. واتحاد الشغل وحده الذي يستطيع أن يقرر ما يراه مناسبا في الوقت المناسب، ونتمنى أن يقوم بواجبه كما ينبغي لمنظمة بهذا الحجم أن تفعل.
ومما يُحسب للاتحاد العام للشغل، امتناعه عن المشاركة في
الحوار الذي اقترحه سعيّد، والذي يهدف إلى تأسيس "جمهورية جديدة"، وانسلاخه عن مخططات المنقلب وإجراءاته الأحادية بصفة عامة وتنديده بمجمل إجراءات قيس سعيد الأخيرة، وذلك حين أحس بالخطر، وبأنه ليس مستثنى من إجراءات المنقلب المفاجئة.