الدعوة التي أطلقها رأس النظام المصري عبد الفتاح السيسي لحوار وطني قبل أكثر من شهر لا تزال تراوح مكانها، تتجاذبها أطراف مؤثرة داخل منظومة الحكم بين داعم أو معرقل لها. وحتى الآن تبدو كفة المعرقلين هي الأقوى، بدليل أنه لم يتم تحديد موعد زمني لبدء جلسات الحوار، كما لم يتم توجيه دعوات لعدد من الأحزاب الليبرالية واليسارية التي تعمل من داخل مصر، وضمن الهامش الذي يسمح به النظام، وذلك يتناقض مع وعد السيسي بأن الحوار لا يستثني أحدا.
من اللحظة الأولى لإطلاق دعوة الحوار كان واضحا أنها دعوة شكلية، تستهدف حوارا صوريا يتم تسويقه للغرب وخاصة الولايات المتحدة قبيل قمة المناخ التي ستعقد في شرم الشيخ في تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل، والتي يأمل النظام المصري أن تستقطب حضورا واسعا لقادة العالم وعلى رأسهم الرئيس الأمريكي جو بايدن، وهو ما سيعتبره السيسي قبلة حياة له ولنظامه.
ولكن بالرغم من هذه الصورة الشكلية للحوار، إلا أن الدعوة إليه أحدثت حراكا لم يتوقعه النظام، تمثل ذلك في اجتماعات تنسيقية للعديد من الأحزاب في الداخل، ووضعها شروطا مسبقة للحوار، مثل إطلاق سجناء الرأي، ووقف الاعتقالات الجديدة، وإطلاق الحريات العامة، وخاصة حرية الإعلام، وحرية العمل السياسي والحزبي، والعمل الأهلي والنقابي.. الخ، وهي ذاتها المطالب تقريبا التي طرحتها عدة منظمات حقوقية مصرية في الداخل أو في الخارج، وطرحها أيضا نشطاء سياسيون وحقوقيون، وتضمنتها بيانات منفردة لعدة أحزاب أيضا.
بالرغم من هذه الصورة الشكلية للحوار، إلا أن الدعوة إليه أحدثت حراكا لم يتوقعه النظام، تمثل ذلك في اجتماعات تنسيقية للعديد من الأحزاب في الداخل، ووضعها شروطا مسبقة للحوار، مثل إطلاق سجناء الرأي، ووقف الاعتقالات الجديدة، وإطلاق الحريات العامة
هذا الحراك الذي صاحب دعوة الحوار أحدث قلقا لدى النظام، دفع الجناح الرافض للحوار لوضع العراقيل أمام انطلاقه، وفتح الباب لأذرعه الإعلامية لمهاجمة تلك الأحزاب والمنظمات والشخصيات، واعتبارها غير مدعوة للحوار أصلا، أو أنها ليس من حقها وضع
شروط مسبقة، كما راحت هذه الأذرع ترسم سيناريوهات تقصر الحوار على أنصار النظام المقربين بحسبانهم فقط الوطنيين، ومن عداهم هم الأشرار وأعداء الوطن الذين لا يمكن الحوار أو الجلوس معهم على طاولة واحدة.
الدعوة لحوار وطني مواز في الخارج، والتي أطلقها السياسي المصري الدكتور ممدوح حمزة وشاركته في تبنيها شخصيات وطنية أخرى، هي أحد مشاهد الحراك السياسي الحالي، حتى وإن كان تركزها في الخارج، وربما يكون ذلك سر تميزها، وقد يكون سر نجاحها أيضا، ذلك أن عدد المصريين في الخارج يتراوح بين عشرة وأربعة عشر مليونا حسب تصريح رسمي لوزيرة الهجرة، ومن بين هذه الملايين هناك عدد كبير من النشطاء المهمومين بقضايا وطنهم، ومنهم أيضا الكثيرون الذين هربوا من مصر عقب انقلاب الثالث من تموز/ يوليو 2013 والسنوات التالية له، بحيث أصبحت خارطة المعارضة المصرية في الخارج الآن أكثر تنوعا (ليبراليون- يساريون- إسلاميون- مستقلون) بعد أن كانت قاصرة على الإخوان وحلفائهم، ناهيك عن أجواء حرية التعبير والتنقل لهؤلاء المعارضين في الخارج، وهو ما يمكنهم من تقديم نموذج يحتذى لحوار وطني شامل، ومنتج.
لا تبدو الصورة وردية تماما لمشهد المعارضة المصرية في الخارج، إذ لا يزال الكثيرون أسرى أجواء الاستقطاب السياسي الذي ظهر عقب ثورة يناير، وتعمق خلال حكم الرئيس مرسي واستمر بعد انقلاب تموز/ يوليو 2013، لكن مطرقة القمع التي لا تفرق بين إسلامي وعلماني قد يكون لها دور في غلبة الأصوات العاقلة داخل كل تيار، لتجاوز خلافات الماضي والنظر إلى المستقبل، والسعي المشترك لإنقاذ البلاد والعباد، بعد أن أوشكت مصر على الإفلاس نتيجة تصاعد المديونيات الخارجية والداخلية إلى مستويات مرعبة، مع بلوغ الديون الخارجية 145 مليار دولار، وصعوبة سداد الأقساط في آجالها الطبيعية، وارتفاع الأسعار بطريقة جنونية، مع المزيد من الانهيارات للجنيه مقابل العملات الدولية، إضافة إلى التفريط في السيادة الوطنية على جزيرتي تيران وصنافير، وحقوق مصر في مياه النيل، وثروات المتوسط.
حالة النجاح الممكنة هي التئام صف المعارضة، وقدرتها على الجلوس مجددا إلى طاولة حوار واحدة بعد سنوات التشاحن والاستقطاب، وكذا قدرتها على الوصول إلى توافق حول القضايا الوطنية الكبرى، وتقديم ملامح سياسات بديلة تقنع الشعب والعالم بوجود بديل ديمقراطي للنظام الاستبدادي القائم
يمكن لدعوة الحوار الموازي في الخارج أن تحقق نجاحا ملموسا إذا تم إدارتها بطريقة رشيدة، وبنظرة تغلب المستقبل على الماضي، وبطريقة تتيح المشاركة لكل الحالمين بدولة مدنية ديمقراطية. والنجاح لا يعني تقديم مشروع كامل للحكم متضمنا الموارد المالية اللازمة للتنفيذ، فهذا عمل الحكومات، ولكن حالة النجاح الممكنة هي التئام صف المعارضة، وقدرتها على الجلوس مجددا إلى طاولة حوار واحدة بعد سنوات التشاحن والاستقطاب، وكذا قدرتها على الوصول إلى توافق حول القضايا الوطنية الكبرى، وتقديم ملامح سياسات بديلة تقنع الشعب والعالم بوجود بديل ديمقراطي للنظام الاستبدادي القائم.
ليس متوقعا أن يقف النظام متفرجا، أو مكتوف الأيدي تجاه هذا الحوار الموازي الذي سيمثل ضغطا إضافيا عليه، ولكنه حتما سيسعى لتفجير هذه الدعوة، وتشويهها، واتهامها بكل نقيصة، وسيستخدم كل الأدوات اللازمة من عصا أو جزرة لوأد الدعوة في مهدها. والتحدي هنا سيقع على أصحاب هذه الدعوة وقدرتهم على مواجهة هذه الضغوط، والإغراءات والمؤامرات، وقدرتهم على إدارة خلافاتهم وتنوعهم، وتقديم نموذج ملهم للشعب المصري.. فهل يفعلون؟!
twitter.com/kotbelaraby