ما حدث مع القضاة
التونسيين أمر غير مسبوق،
فأسلوب المعالجة بالصعقات الكهربائية الذي يستعمله الرئيس
قيس سعيد مع الجميع أنتج حالة من القلق والغضب تتسع رقعتها يوما بعد يوم وبنسق سريع.
لقد تعمد أن
يضرب في العمق هيبة
القضاء والقضاة؛ لم يسحب منهم فقط صفة السلطة المستقلة التي منحهم إياها الدستور وجعل منهم موظفين خاضعين للسلطة التنفيذية، وإنما أعطى لنفسه الحق المطلق في طردهم من العمل بناء على تقارير معللة صادرة عن "الجهات المخوّلة"، حسبما ورد في التنقيح الجديد للفصل 20 من مرسوم المجلس الأعلى للقضاء. كما نص المرسوم على أنه "لا يمكن الطعن في الأمر الرئاسي المتعلق بإعفاء قاض إلا بعد صدور حكم جزائي بات في الأفعال المنسوبة إليه"، أي لا يحق لهم الاعتراض مثل غيرهم من المواطنين عندما توجه لأحدهم تهمة ما. لهذا السبب وغيره تم وصف ما حصل بـ"مذبحة القضاء والقضاة".
ما أقدم عليه رئيس الدولة في هذا الشأن أعطى نتائج عكسية. أراد أن يقزم القضاة بناء على عينات تثبت فساد البعض منهم، وأن يُخضع الجميع لإرادته وسياسته عبر الضربة القاضية، إذا بهم يستوعبون الصدمة بسرعة، ويحولون اتجاه كرة النار نحو رمز الدولة وأسلوبه في إدارة الحكم، فكانت الحصيلة على الشكل التالي:
ما أقدم عليه رئيس الدولة في هذا الشأن أعطى نتائج عكسية. أراد أن يقزم القضاة بناء على عينات تثبت فساد البعض منهم، وأن يُخضع الجميع لإرادته وسياسته عبر الضربة القاضية، إذا بهم يستوعبون الصدمة بسرعة، ويحولون اتجاه كرة النار نحو رمز الدولة وأسلوبه في إدارة الحكم
- تضامن كل القضاة تقريبا مع زملائهم المطرودين بشكل تعسفي، والتزام علني بعدم تعويضهم في وظائفهم التي يُفترض أن تبقى شاغرة في حال أن التزم الجميع بهذا القرار الأخلاقي.
- الدخول في إضراب لمدة أسبوع بجميع المحاكم، وهو إضراب مهني وسياسي فيه تحد لإرادة السلطة التنفيذية و"وقوف في وجه تغولها". عبّر عن ذلك أحد القضاة بوضوح عندما دوّن ما يلي موجها خطابه إلى قيس سعيد: "لا تنسى أنك اليوم رئيس الدولة، وغدا متهم أمام القضاء، فحافظ على استقلاليته إن كنت بريئا".
- بدل أن يغذي المرسوم الرئاسي الأخير الخلافات والشقوق داخل الجسم القضائي، بهدف الاستفادة من الانقسامات الموجودة والمصالح المتضاربة بين القضاة وهياكلهم، حصل العكس، حيث خرج القضاة من المواجهة حتى كتابة هذا التعليق موحدين ومتضامنين. فأنصار الرئيس أو الذين يصطادون في الماء العكر، وهم موجودون في الصفوف، صمتوا أمام إجماع زملائهم، ولم يكرروا ما حصل داخل اتحاد الفلاحين حين انقلبت أقلية على القيادة الشرعية تنفيذا للتعليمات المتعلقة بـ"تطهير المنظمة". خلافا لذلك السلوك الخارج على القوانين والأعراف، تمسك القضاة بشرعية رئيس المجلس الأعلى للقضاء، رغم قرار الطرد الذي شمله.
- تخلى العديد من القضاة عن أسلوب التحفظ، وتحرروا من الخوف الذي كان يلازم الكثير منهم، وأقدموا على تقديم شهادات علنية خطيرة أمام وسائل الإعلام، كشفوا فيها جوانب من تدخل أمنيين وإداريين ومسؤولين وحتى من بعض المقربين من رئيس الدولة؛ في الشأن القضائي بشكل مباشر أو من وراء ستار. وقد أحدث ذلك رجة قوية في صفوف المتابعين للشأن القضائي، لقد سقطت الجدران والأقنعة، ولم تعد هناك "أسرار مكبوتة".
- أخيرا، أعلن القضاة عن قرارهم
بمواصلة النضال، والتوجه نحو مختلف المؤسسات الوطنية والدولية للدفاع عن حقوقهم، وطلب المساندة لحماية مبدأ استقلال القضاء التونسي، وإعادة الاعتبار له. ولم يروا في ذلك "خروجا على السيادة الوطنية" أو "استئسادا بالخارج"، وفق الاتهامات التي يوجهها الخطاب الرسمي للمعارضين.
استهداف المؤسسة القضائية بهذه الطريقة جعلها في قلب الصراع السياسي، بعد أن كانت حريصة على أن تبدو "محايدة" وغير متمردة على السلطة ممثلة في رئاسة الجمهورية. أما اليوم فقد تم الدفع بها دفعا نحو الخروج عن "تقاليدها" الراسخة، وأن تتحول إلى كتلة مناهضة لقيس سعيد، رافضة لأسلوبه في التعامل مع "السلطة القضائية"
تؤكد هذه الردود على أن استهداف المؤسسة القضائية بهذه الطريقة جعلها في قلب الصراع السياسي، بعد أن كانت حريصة على أن تبدو "محايدة" وغير متمردة على السلطة ممثلة في رئاسة الجمهورية. أما اليوم فقد تم الدفع بها دفعا نحو الخروج عن "تقاليدها" الراسخة، وأن تتحول إلى كتلة مناهضة لقيس سعيد، رافضة لأسلوبه في التعامل مع "السلطة القضائية"، ومستعدة إلى الذهاب بعيدا في هذه المعركة الشرسة.
لا يعني ذلك أن المؤسسة القضائية في وضع جيد، إذ يعلم الجميع أنها تعاني من عوائق عديدة ومعقدة من بينها الفساد، لكن التعامل معها بروح انتقامية يختلط فيها الحق بالباطل، ويذهب البريء والنزيه والمتمسك باستقلاليته بجريرة الفاسد والمسيء؛ هي سياسة ضررها أكبر بكثير من فوائدها، خاصة عندما تخل تماما من رؤية إصلاحية شاملة، وتصدر عن جهة واحدة رافضة لكل أشكال الشراكة، وتعتقد بأنها المالكة الوحيدة للحقيقة.
ستكون معركة القضاء طويلة ومعقدة وصعبة. قد تحصل اختراقات، وقد تتغلب نوازع النفع لدى البعض الذين لديهم "ملفات" خفية، وقد تنجح السلطة في إعادة تنشيط التناقضات القديمة والجديدة، لكن المؤكد أن ما حدث يوم 4 حزيران/ يونيو 2022 سيكون له ما بعده.