أول ما يبده المتلقي لهذا العمل أنه رواية اشترك اثنان في كتابتها. وفي هذا خروج على الشائع بالطبع وإن كثرت سوابقه، فهي تبقى سوابق قليلة بالنسبة إلى مجموع ما ينتجه العالم من روايات.
ولعل مرد قلتها إلى أن الكتابة بما هي أسلوب لرؤية العالم والتعبير عن نتائج هذه الرؤية تنحو بمن يمارسها نحو الفردية والعزلة، وذلك في مقابل الشفاهية التي تطرح الإنسان في أتون الممارسة الجماعية بما فيها من أخذ ورد وتعليق ونقض، وكلها لحظي. ففي مقابل الأسطورة والخرافة النابعتين من الخيال الجمعي بصورة أكثر مباشرة، تبدو الرواية ألصق بالفرد المبدع، مهما قيل في استفادته ممن قبله ومن حوله وتأثره بمحيطه الثقافي. والمهم أن قرار التشارك في كتابة رواية يبدو تمردا على عزلة الكتابية وارتدادا بدرجة ما إلى جمعية الشفاهية.
أما الاقتباس الذي ارتضاه المؤلفان مفتتحا فهو خروج آخر على المتوقع الشائع، فهو بزعمهما آت من أغنية لسكان داكوتا الجنوبية الأصليين، لا يزيد عن ست كلمات "أبتاه ارسم لي العالم على جسدي". فهذه قفزة بعيدة إلى مجتمع لا يكاد القارئ العربي يعرف عنه شيئا، وفيها تعزيز لفكرة التمرد على عزلة الكتابية التي أسلفنا الحديث عنها، سواء في مصدر الاقتباس أو فحواه، حيث يهيب المتحدث بالأب أن يمكنه من احتواء العالم بطريقة ما، كأنه لا يرضى الحدود الظاهرة للأنا ويطمح إلى احتضان الوجود بأسره أو التماهي معه.
تدور الأحداث حول شاب يفقد أسرته في حادث مروري أليم، فتتبدل حياته ويترك وظيفته بلا رجعة مقررا أن يعيش على العائد الشهري الذي تؤمنه مدخرات الأسرة في أحد المصارف، ثم تجتذبه ورشة مسرحية للانضمام إليها، وهو الذي كان عضو فريق المسرح في حياته الجامعية أعواما طويلة.
وفي الورشة يجد أن المخرج (أحمد راتب) يطلب من الممثلين القيام بتدريبات متنوعة، منها ما هو حركي عنيف ومنها ما هو تأملي استبطاني، ويفاجأ البطل بأنه أصبح يرى في منامه أحلاما بالغة التعقيد متماسكة الحبكة، وتسمي لنا الرواية هذه الأحلام (طبقات الوعي)، فطبقة الوعي الأولى تدور في مجتمع وثني صحراوي غير محدد التاريخ بدقة وإن كان يفترض أنه في شبه جزيرة العرب، حيث بطل هذا الحلم فتى يدعى (زهران) اختطف صغيرا من قبيلته ووقع في يد نخاس اسمه (عفار) ما لبث أن خصاه ليصلح غلاما في أجنحة الحريم لدى الملوك.
ونتابع قصة (زهران) من زوايا مختلفة، حيث يروي لنا أطرافا من سيرته كل من النخاس، وبكر صديق زهران منذ الطفولة وابن قبيلته، وتميم العامل في بلاط الملك (الهاشمي) والمسؤول عن جلب الرقيق والغلمان، والملكة جلنار، و(زرقان) الوزير غريم زهران اللدود، و(أسماء) الجارية التي يدفع بها زرقان للتجسس على زهران فتقع في حبه رغم كونه خصيا، و(ضبيعة) وزير الملك الآخر غريم (الهاشمي)، وهو الذي يلوذ به زهران ويتحالف معه ليقضي على (الهاشمي) مستغلا العداوة القديمة بين المملكتين، ثم يستغل قواته لمهاجمة النخاسين جميعا وتحرير العبيد في سائر الصحراء.
أما طبقة الوعي الثانية فتتجه شمالا إلى شرق أوربا زمن الحرب العالمية الثانية، فبطل الحلم موظف سابق في مصلحة البريد في خاركوف بأوكرانيا، يدعى (ألكسي)، ونتابع مأساة فقده امرأته (كاترينا) على خلفية الحرب، ابتداء بقدوم الألمان إلى بلاده واندلاع المقاومة الشعبية لاجتياحهم، ثم دخول الروس وأسره وترحيله إلى ستالينغراد وشهوده فظائع الحرب هناك، ثم عودته إلى وطنه إنسانا محطما وإدراكه أخيرا حقيقة موت كاترينا.
وبعد هذا الكابوس الثاني يسر البطل/ الراوي إلى المخرج بتفاصيل ما يراه في نومه، فيحكي له المخرج حكاية اليخت البريطاني (مينيونت Mignonette) الذي غرق بركابه الأربعة عام 1884 م، فألقاهم الموج إلى بقعة نائية وظلوا يتضورون جوعا وعطشا، حتى اقترح قائدهم (ددلي Dudley) أن يأكل ثلاثة منهم الرابع الذي كان مريضا بالفعل، وهكذا فعلوا، وحين أعادتهم سفينة ألمانية إلى بريطانيا دافعوا عن موقفهم في المحاكمة التي أجريت لهم تحت مبدأ الضرورة. وحين يشكو الراوي إلى المخرج أنه لم يعد يعرف من هو، يجيبه هذا الأخير بأن ذلك شيء جيد!
تستأنف تجارب الأداء وتجهيزات العرض، وكمحاولة من الراوي لاستكناه ما يقبع في لا وعيه بعيدا عن عالم الكوابيس يقرر خوض تجربة السكر لأول مرة مع (حسين) زميله في الورشة، لكن ذلك لا يقوده إلى أي معرفة معتبرة بالنفس، بل لا يظهر في التسجيل الذي يتركه مفتوحا إلا هذر ومزاح طويل تتخلله وصلة أو أكثر من البكاء واعتراف بالخوف وشكوى من عدم المعرفة بالنفس!
وحين يلح الممثلون على المخرج في أن يطلعهم على نص المسرحية التي يتدربون لأجلها يصدمهم بأنه لا يوجد نص، وأنه يبتغي خلق حالة مسرحية تتعدى فكرة الارتجال إلى العلاج النفسي الجماعي لأعضاء الفريق ومكاشفتهم الجمهور في الوقت ذاته. ينفض عدد منهم من حول المخرج، لكن ستة يبقون، ومنهم الراوي.
وكما أتت طبقة الوعي الثانية بعد فلم عن الحرب العالمية الثانية، تأتي الثالثة بعد مطالعة كتاب عن محاكم التفتيش، وفيها تكون البطلة/ الراوية هي (لارا) الثائرة على مألوف الممارسة الدينية المسيحية وعلى فكرة الخطيئة الأصلية وعلى مفهوم دنس الجسد وحرمة اللذة الحسية.وهي دائبة على الإشارة إلى قوة روحية تسميها (المقدس) دون مزيد تعريف، كأنها تنزه هذه القوة عن أن يحيط بها تحديد.
ويتابعها هذا الحلم خلال صدمة إيوائها لأحد الهاربين من ديوان التفتيش ثم خيانة هذا الهارب لها، وصولا إلى لجوئها إلى أحد تلاميذ الشيخ الأكبر محيي الدين بن العربي في الأندلس وتعلمها الصلاة الإسلامية على يديه.
وأخيرا تأتي الطبقة الرابعة حيث الراوية الأنثى، والحكاية تدور حول ابنها (تسبا) الذي يقود ما يشبه ثورة ضد تقليد راسخ في المملكة هو تدوين رعايا الملك لخطاياهم، وينتهي هذا الحلم بما يوحي بموت (تسبا).
في النهاية يفاجئ المخرج الممثلين بميعاد العرض، إذ لا يقول لهم متى هو إلا قبل حلوله بيومين. ويبدأ العرض الارتجالي بصمت مطبق وظلام يستفز أحد المشاهدين إلى البدء بالكلام فيرجو الفريق المسرحي أن يفعل أي شيء، وهنا يوجه الراوي إلى هذا الرجل ملاحظة عن رائحة كريهة تنبعث من يده، فيجد الرجل نفسه مضطرا إلى سرد وقعة قديمة ترك فيها شخصا مستغيثا ملقى في القمامة لمن يطاردونه. والمهم أن حالة التحلل من كل الخطط والآراء المسبقة والصفاء الذهني المرتبطة بهذا العرض الارتجالي قد جعلت الراوي نافذ البصيرة شفافا يستطيع قراءة ما في الصدور.
وما يلبث ختام الرواية أن يأتي بتكرار مشهد بداية العرض ست مرات بتنويعات طفيفة الاختلاف فيما بينها، تنتهي جميعا باقتحام المتطرفين المسرح وتوجيه أحدهم ضربة إلى الراوي تصرعه، وفي كل مرة يشعر الراوي وذلك المتطرف ينظر في وجهه أنه أمام مرآة، إلى أن يصل التماهي بينه وبين المتطرف إلى أقصاه في النهاية، فهو يرفض أن يدينه رغم تعديه عليه، ملتمسا له الأعذار، ويقول متأملا مشهد الهرج والمرج الذي يسود مع ذلك الاقتحام: "كأننا جسم واحد انقسم إلى كتل هاربة في كل مكان لا تود التجمع أبدا."
وما أراه أن تفصيلة إخفاء ميعاد العرض إلى ما قبل العرض بقليل تحيلنا إلى معادل موضوعي لنهاية العالم أو يوم القيامة، وكأن صفاء الرؤية الذي يكتسبه الراوي مع بداية العرض نتيجة ثورته على كل تحيزاته السابقة وتعلقاته الدنيوية هو مصداق تلك الآية من القرآن التي تقول عن حال الإنسان في ذلك اليوم: "لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد"، فالأمر أقرب إلى كشف غطاء كثيف طالما حجب عن الراوي الحقيقة.
غير أن الراوي وبقية الفريق قد وصلوا إلى هذه الحال بصنع أيديهم، فهم مخلصو أنفسهم وكاشفو الغطاء عن أنفسهم، ولعل إرهاصات بهذا المعنى قد أتت في ثنايا طبقات الوعي المشار إليها، ففي الطبقة الثالثة نجد (لارا) تفيض في الحديث عن ضرورة أن يخلص المرء نفسه ويعرف طريقه إلى المقدس، وفي الرابعة نجد (تسبا) يبشر أهل المملكة بأنهم وحدهم القادرون على أن يغفروا لأنفسهم خطاياهم بمحوها من دفاتر التدوين، وقبل ابتداء العرض يتذكر الراوي طفولته التي كان لا يقبل فيها على أن يكون طبيبا أو مهندسا أو ضابطا، ولا يستهويه إلا أن يكون نبيا! فكأنه في هذا العرض يحقق جزءا من تلك النبوة التي طمح إليها، فها هو يرى غيب النفوس، وها هو يسامح قاتله – ما يحيلنا إلى حديث لارا عن السيد المسيح عليه السلام وتحقيقه الجانب الإلهي فيه بعفوه عن قتلته من وجهة نظرها – وها هو يرى النور من خلف الظلام والواحد من وراء الكثرة.
ولعل إحالة مبكرة إلى النبوة تأتينا في طبقة الوعي الأولى، حيث لا يني المؤلفان يشيران إلى فرادة شخصية (زهران) وإطالته الصمت وهو يقترب من تحقيق مراده بتحرير العبيد ودحر المملكة الظالمة، فضلا عن خروجه وحيدا في الصحراء متأملا، وأميته التي يشير إليها (بكر) صديقه في مقابل إتقان هذا الأخير القراءة والكتابة، وذلك رغم المعارف العميقة التي ينطوي عليها صدر زهران وتسليم (بكر) له في كل صغيرة وكبيرة، فكأنها كلها تفاصيل تحيلنا من طرف خفي إلى صداقة سيدنا محمد صلوات الله وسلامه عليه والصديق أبي بكر.
ختاما، تبدو لي الرواية مغامرة سردية جسورا على أصعدة كثيرة، بدءا بتشارك مؤلفين فيها ومرورا باقتباس المفتتح وموضوع الأحداث المركزي الذي يسهل إدراجه في مطاردة المستحيل – وأعني به تحقيق عرض مسرحي متحرر من الكذب مخلص لكشف الحقيقة – فضلا عن خروج السرد إلى أربعة بيئات وأزمان مختلفة فيما بينها أيما اختلاف، وليس انتهاء بصدور الرواية عن رؤية أخلاقية واضحة تنتصر لقيم إنسانية بعينها وتدين أخرى. وبغض النظر عن الهنات اللغوية ودرجة من الترهل الأسلوبي فيها، فهي جديرة بدراسة نقدية أوفى من هذا المقال الذي حاول إلقاء الضوء عليها في عجالة.