بمناسبة الحديث الدائر حول إمكانية تعليم
الفلسفة في الأردن، فإن تخصصات الفلسفة في المدارس والجامعات هي ليست إلا تعليما لتاريخ الفلسفة، أما الفلسفة نفسها فهي ممارسة عملية وحسب.
يشكل
الفكر كل ما هو جاهز وموجود في حياة الإنسان من قول وممارسة وسلوك وقيم، دون ممارسة لحركة التفكير، بل هو نسخ نظري في مجال أو مجالات متعددة. ومن أكثر أنواع الفكر شيوعا: الفكر العامي أو الفكر السائد والمعيش، واليومي، يعني كيف يقضي المرء حياته اليومية وفق نمط فكري جاهز مكتسب بحكم البيئة والمكان والزمان. هي عادات ذهنية وفكرية تحكم حياتنا، وتوجهنا في كيف نستعمل عقولنا في معالجة مشاكلنا، وما هي طبيعة المشاكل التي نعيشها. فكل مجتمع له نوع من القضايا ونوع من المناهج ونوع من الأحكام، تحدد الضمير الاجتماعي ومعايير القبول والرفض.
يقول ديكارت: "عندما يكونُ الشخص مكبّلا بالسلاسل الحديدية منذ طفولته، سيعتقد أن هذه السلاسل جزءٌ من جسده وأنه يحتاج إليها كي يتمكن من أن يمشي". إن طفولة الإنسان أطول طفولة في الكائنات الحية لتحدث عملية التربية، ويكون الأهل والمدرسة وسيطا بين
المجتمع والنشء، حيث يتم تحويل القيم إلى الجيل الجديد.
يشكل الفكر كل ما هو جاهز وموجود في حياة الإنسان من قول وممارسة وسلوك وقيم، دون ممارسة لحركة التفكير، بل هو نسخ نظري في مجال أو مجالات متعددة. ومن أكثر أنواع الفكر شيوعا: الفكر العامي أو الفكر السائد والمعيش، واليومي
أما الفكر
الديني، فيفرق علماء الاجتماع بين الدين في حقيقته والدين في ممارسته، الظاهرة الاجتماعية للممارسة الدينية.
وأخيرا، الفكر
العلمي الذي يبرز جليّا في الحقبة الزمنية الحالية، ففي المجتمعات فكرة سائدة تقول: إذا ما تحدثت عن حقيقة علمية فأنت صادق. فالفكر العلمي هو مرجعهم، بدل أن يكون المنهج العلمي هو المرجع. لذا فنحن نستشير العلماء وقد ترسخت فينا فكرة أن ما يقوله العلم هو الصحيح، وأن العلم لا يعبث وهو الذي يمثل الحقيقة المطلقة. هذا الإيمان المتعصب للعلم يوجه اختياراتنا ويمنح العلم والعلماء الحظوة اللائقة لأنهم أهل النظر. وهذا يسمى النزعة العلموية وهي نزعة متعصبة للعلم، تقول إن الحقيقة تكون حقيقة فقط إذا أنتجها العلم، وكل ما هو ليس علما باطل، لذا هي ترفض كل أنواع الفكر الأخرى. وكما قال فرويد إن الوهم هو أن تعتقد بغير العلم، فهو يرى أن التدين مرض عصابي، وأن الفكر الديني برمته وهم.
يعتبر أصحاب الفكر العلمي أن الحقيقة علمية ويجب اتباعها، وأن التحقق يجب أن يكون بطريقة كمية أو تجريبية، وأن العلم هو الوحيد القادر على طرح الأسئلة وإجابتها، لكن الحقيقة العلمية حقيقة تاريخية. ففي اعتبار أن العلم هو في آخر ثلاثة قرون فقط، ولا رجوع في رأيه، وأن العلم يمكّن الإنسان من السيطرة على الطبيعة وعدا ذلك هراء، قد ننسى أن حركة العلم تاريخية، وأن تاريخ العلم هو أخطاؤه. وإن معيار العلم هو التكذيب، فكل قول يمكن تكذيبه هو علم، وكل ما لا يمكن تكذيبه ليس بعلم. لهذا إذا أخذها الغيب مثلا، لا يمكن إثباته ولا تكذيبه. لذا من السخف أن نتمسك بعلم، أي علم، لأنه في أصله ليس ثابتا ولا حقيقيّا، إنما هو محاولات لتفسير الحقيقة مرتبطة بزمان ومكان وأشخاص وتاريخ.
الإيمان المتعصب للعلم يوجه اختياراتنا ويمنح العلم والعلماء الحظوة اللائقة لأنهم أهل النظر. وهذا يسمى النزعة العلموية وهي نزعة متعصبة للعلم، تقول إن الحقيقة تكون حقيقة فقط إذا أنتجها العلم، وكل ما هو ليس علما باطل، لذا هي ترفض كل أنواع الفكر الأخرى
إن الفكر منظومة في النظر والممارسة، ويتميز بالنمطية والجاهزية والانغلاق وإطلاق الأحكام، باستثناء الذين غادروا الفكر إلى التفكير. والفكر بطبعه وثوقي مغلق دوغمائي، مثل الحيوان الذي يحددون له نظره بإغلاق الجوانب، ليصبح بصره منغلقا محدودا في سياق وإطار لا يمكن الخروج عنه، فإن خرج عنه لا يعتبر علما.
إن كل إيمان وقول واعتقاد بمذهب مغلق يعتبر فكرا ولا يسمح لصاحبه بالتطور؛ لأن الفكر يغيب التفكير. الفكر عقل قد أتم صنع نفسه، فكل عقل محكم الصنع هو عقل مغلق، مثل الدائرة، تبقى تتحرك في محاولة للوصول إلى دائرة حقيقية يستحيل تحقيقها باليد فنلجأ إلى الفرجار، فيصبح رأسا تمت صناعته فانغلق، ويصبح أكبر عدو للعلم هو العالم.
لا توجد طريق خطأ إذن، فأي طريق تصبح طريقا خاطئا إن لم نسائل أنفسنا عنها. علينا أن نتحول من الفكر إلى التفكير، نحن نحب الحكمة فنسير إليها، ومن المستحيل أن نصل إليها، وفي كل حركة منا نصل إلى وجه لها أو قبس منها. يأتي التفكير ليخرجنا من ظلام الفكر إلى نور التفكير. هو عملية نقدية تساعدنا في مراجعة المنظومات الفكرية التي تمثل عائقا دون تقدمنا.
لقد تفجرت في تلك الفترة من حياتي أسئلتي الكثيرة التي لجمتها دهرا، حتى تحررت. الأسئلة القديمة جدّا، الأسئلة التي لم أعطها شرعية من قبل، الأسئلة التي أعرف ابتداء أنها بلا إجابات، الأسئلة التي تجددت بحثا عن إجابات مختلفة. كل الأسئلة نهايات مفتوحة، تحولت حياتي إلى سؤال كبير بلا إجابة. كنت أسأل دائما عن أي شيء وعن كل شيء، عن أكبر أسئلة وجودية وعن أسخف أسئلة يومية معاشة، وكنت أجيب عن معظم الأسئلة التي توجه لي بـ: لا أعرف.
علينا أن نتحول من الفكر إلى التفكير، نحن نحب الحكمة فنسير إليها، ومن المستحيل أن نصل إليها، وفي كل حركة منا نصل إلى وجه لها أو قبس منها. يأتي التفكير ليخرجنا من ظلام الفكر إلى نور التفكير. هو عملية نقدية تساعدنا في مراجعة المنظومات الفكرية التي تمثل عائقا دون تقدمنا
يقول أرسطو إن الفلسفة ليست سوى البحث عن آخر لماذا، هي رحلة الإنسان الذي قرر الخروج من دائرة الكائن المبرمج إلى استعادة إنسانيته بوصفه كائنا متشككا يبحث عن الطمأنينة، وكلما وجدها عاد للسؤال من جديد.. من الفكر إلى التفكير، من الإيمان بالحقيقة المطلقة إلى السؤال المفتوح، لنعيد طفولتنا الأولى، ذلك الطابع الخام الذي خسرناه بسبب التعليم والتربية، وهو إحياء السؤال ودهشته. نحيي الطفولة في الكهل، عكس فرويد الذي قال إن الطفل أبو الرجل. لكن أي تقدم مصحوب بفترة يؤمن بها العالم بالحقائق الموجودة، لأنها تَثبت زمنا ما، قبل أن يصبح مشكوكا فيها مرة أخرى، وعلى الفيلسوف أن يغير المجتمع وهو يغير من نفسه.
الفكر أيضا يسمى أيديولوجيا، وهي منظومة أفكار مغلقة نستخدمها في فهم الأحداث وتفسيرها، وتعكس واقعا أخلاقيّا.. توجه فكرنا وسلوكنا وأذواقنا واختياراتنا وتجعل السلوك الاجتماعي في حالة من التوافق والانسجام. تمثل الأيديولوجيا سلطة لأنها منغلقة لا يمكن الخروج من نظامها، فهي ترسي سلطة الممارسة وسلطة الذوق، وهناك أيديولوجيا عالمية تتحكم بنا مثل نظام الاقتصاد الليبرالي أو النيوليبرالي أو الرأسمالي يهدف للسيطرة على الإنسان من خلال صنع أيديولوجيات تخدمه.
قد تتشابه المجتمعات في الأيديولوجيات، فهي كلها أنظمة غير قابلة للتطور، ومن ينتقدها يعتبر ضالا عنها ويهاجَم هجوما عنيفا لأنه خرج عن السرب. قد تكون أيديولوجيا اجتماعية أو اقتصادية أو دينية أو فنية تشكل ذوقنا أو حتى سياسية.
خصائص الأيديولوجيا أنها مغلقة وسلطوية مهيمنة وعدائية لغيرها، فلا يستطيع الإنسان العادي الخروج عنها. حتى المثقفون يرسّخون حضورها وسلطانها على المجموعة التي تعتنقها، فهم مجنّدون لخدمتها وتلميع صورتها. فمن مهام المثقفين بيان قيمة الأيديولوجيا التي يؤمنون بها بوصفها المصدر الوحيد للحق والجمال، ويصدّون كل أيديولوجيا مخالفة.
لكن يمكن للمرء التحرر من الأيديولوجيا بالتفكير الفلسفي. ما التفكير الفلسفي؟ على التعريف أن يكون جامعا مانعا، ويسمى في علم المنطق الحدّ. وهو ينفي ما هو خارجه ويجمع ما بداخله. ويجب في التعريف أن نبدأ بالسّلب قبل الإيجاب، فنرسم الدائرة التي نكون فيها. وفي رسم الدائرة ندني أشياء ونقصي خارجها أشياء أخرى، ورسم الحد هذا هو أخطر عملية حقوقية فكرية يمارسها الذهن.
الأيديولوجيا أنها مغلقة وسلطوية مهيمنة وعدائية لغيرها، فلا يستطيع الإنسان العادي الخروج عنها. حتى المثقفون يرسّخون حضورها وسلطانها على المجموعة التي تعتنقها، فهم مجنّدون لخدمتها وتلميع صورتها
الفلسفة هي الخروج من الدوغمة أو الظن، وهي منظومة الأفكار التي نعترف بها، وهي عدد من الآراء إلى عالم الفكر لوغوس. وكلمة الرأي في الفلسفة سلبية، فالرأي مرتبط بالرغبة والراحة والانتماء، والإضافة النوعية للفلسفة هي القطع للرأي والدخول في عالم الفكرة.
لكن قد تنقلب الفلسفة إلى أيديولوجيا على يد التابعين. فالفيلسوف هو المؤسس، ذلك الذي تحرر من سطوة وانغلاق وهيمنة الأيديولوجيا بالتفكير الفلسفي، لكن أتباعه يكونون أيديولوجيين منغلقين كالأفلاطونيين. فالتلامذة يكونون متعصبين للفلسفة فيخرجون من إطارها بتعصبهم. وأبرز خاصية للفلسفة هي القدرة على التحرر من دوغمة الرأي لبناء منظومة فكرية جديدة منفتحة على غيرها.
أما درجات التحرر فأعلاها الفيلسوف المؤسس، ثم يليه التابعون الفلاسفة في إنتاج الفكر ومحاولة إيقاظ الناس وإخراجهم من داخل كهف أفلاطون. فكل أيديولوجيا تمثل السكن في كهف، ذلك الكهف الذي لا خروج منه إلا بالتفلسف. والمجتمع عادة ما يحاكم الفيلسوف ويقتله بجرم الهرطقة، فإن اجتمع جميع الناس حولك فأنت خطيب، وإذا وجدت نفسك وحدك فأنت فيلسوف.
أقاليم الفلسفة ثلاثة: التأمل في الحق والخير والجمال. والفيلسوف يبقى منفتحا باحثا عن الحق والخير والجمال، لا تكفيه كل إجابات الأرض، وكما قال سقراط: "كل ما يعرفه أنه لا يعرف شيئا". وهذا يعني أن الفيلسوف لا يحمل أي منظومة فكرية جاهزة تجيب عن كل الأسئلة، لكنه يحمل المنهج الذي يبحث في كل الأسئلة. وإن أي جواب يعثر عليه لم ولن يكون نهائيّا، فخاصية الفلسفة أنها سؤال مفتوح متكرر على مدى التاريخ، ولكل الأجيال، وفي حياة الفيلسوف نفسها، يكرره أكثر من مرة. علينا أن نعيد طرح الأسئلة دوما، فالسؤال الحقيقي حي لا يموت، فإن اكتفى بإجابة، قتلته. كل الإجابات التاريخية وقتية لا يجوز تأبيدها لأن الإنسان ابن الزمان والمكان، ومهما سمت رؤيته وتعالت فإنها تبقى بشرية، ناقصة تبحث عن اكتمال.
سؤال الفلسفة مفتوح لا ينغلق، وجوابها ليس مطلقا نهائيّا. فهي تقوم على فكر تساؤلي مفتوح ذي إجابات مفتوحة. أما كل أشكال الأيديولوجيا فجواب أسئلتها مغلق، لكن عمل الفيلسوف أن يأتي ويطرح كل الأسئلة التي أُغلقت ويحييها مرة أخرى، ليبحث عن البرهان. ليعود الطفل الذي لا تعجبه كل الإجابات. لكننا مؤدلجون لا نحتمل سماع سؤال الطفل الذي أغلقناه سابقا؛ لأنه لا قدرة لنا على فتح الأسئلة. فكما يقول باشلار: "نحن رؤوس محكمة، مغلقة". المليارات من البشر أصحاب أيديولوجيات، أما الفلاسفة فقلة من يسمعهم في حياتهم. عادة ما نعرفهم بعد وفاتهم، فأنى للناس أن يحتملوا إزعاج العقل وإقلاق راحته حتى لو كان في ذلك شفاء للروح؟
ومتى ما اطمأن الفيلسوف وقع في فخ الأيديولوجيا. فالإنسان في كبد، أي في نَصَب وتعب، في الحيرة الإبراهيمية، تلك الحيرة الفلسفية. وإن سكت سؤالك فقد سقطت، فالإنسان ليس إلها يمتلك الحق، بل هو يبحث عن الحق. السؤال هو الخروج من كهف أفلاطون إلى النور الذي لا يمكن القبض عليه لكن يمكن السير على قبسه.
الفلسفة هي علم صناعة المفاهيم، والمقصود هنا التصورات، فهي تبني رؤية وتصورا للوجود وتنتج معه لغة وكلمات. الفلسفة ليست سوى رؤية للوجود، فلنتفلسف إذا اقتضى الأمر التفلسف، وإذا لم يقتضِ الأمر التفلسف فلنتفلسف أيضا لنثبت أنه لا داعي للفلسفة
الفلسفة تقوم بعملية تحليل ارتدادي للتفكير في كيفية بناء أي منظومة فكرية، وهذا التفكير النقدي هو الذي يجعل المبدع قادرا على الإبداع. فالإتيان بشيء جديد لا مثيل له يعتمد أساسا على الإدراك الأولي لسر الصنعة والتكوين في الكشف عن الخفايا المكونة للشيء من خلال تحليله، وبعدها يصبح الخلق الفني سهلا، وكذلك إنتاج النظريات الجديدة الأخرى. يقوم الفلاسفة بإنتاج نهج جديد نقدي يمكنهم من التحرر من الأيديولوجيات.
إن الفلسفة هي علم صناعة المفاهيم، والمقصود هنا التصورات، فهي تبني رؤية وتصورا للوجود وتنتج معه لغة وكلمات. الفلسفة ليست سوى رؤية للوجود، فلنتفلسف إذا اقتضى الأمر التفلسف، وإذا لم يقتضِ الأمر التفلسف فلنتفلسف أيضا لنثبت أنه لا داعي للفلسفة.
تحث الفلسفة المرء على عيش لحظة الدهشة، فنحن لا نمشي في الطريق الذي وجدنا فيه أنفسنا، بل نبحث عن الطريق الذي يجب أن نمشي فيه، ولا يعني ذلك أن يكون هو الصواب الأبدي.