الكتاب: "الصين زعامة القرن.. من ’الحزام والطريق‘ إلى ما بعد كورونا"
المؤلف: نزار الفراوي
الناشر: فضاءات للنشر والتوزيع، 2022
يواصل النموذج الاقتصادي التنموي الصيني تطوره منذ إطلاقه في أواخر السبعينيات من القرن الماضي، مكذبا التوقعات بانفجار "الفقاعة" عند أول أزمة مالية أو اقتصادية.
ثمة تطور نوعي على مستوى بناء قدرة دفاعية تواكب الطموحات الاستراتيجية للصين في محيطها الآسيوي والدولي. وهناك تموقع على مستوى الساحة الإعلامية والثقافية ينقل إلى العالم صورة دولة تجمع بين مواصلة مسار التقدم وصناعة الثروة من جهة، والتوجه السلمي التعاوني من جهة أخرى.
هذه أوجه من منظومة القوة الصينية الراهنة، بحسب ما يقول الباحث المغربي نزار الفراوي في كتابه الذي يبدأ بمحور عام حول مرجعيات العقل الاستراتيجي الصيني، وأهم ركائز الرؤية الاستراتيجية لدولة تدرك أنها في ذروة مسار الصعود نحو القمة. ليقارب في محور آخر مشروع "الحزام والطريق" أو طريق الحريرالجديد الذي يجسد مطامح قوة عالمية، ويعكس تفاعل البعد الاقتصادي مع البعد الجيو ـ استراتيجي المتمثل في تأمين الرئة التي يتنفس منها الاقتصاد الصيني، وتحويل التعاون الاقتصادي إلى مكاسب سياسية ودبلوماسية.
وينتقل في المحور الثالث لقراءة أبعاد لعبة ثلاثية دقيقة تراوح بين الشراكة والتنافس بين الصين وروسيا والولايات المتحدة الأمريكية، تحرص بكين على الخروج منها بأقصى الأرباح وأقل الخسائر. بينما يقارب المحور الرابع السياسة الصينية تجاه إفريقيا بوصفها مجالا حيويا يستوعب توسع الصين اقتصاديا واستراتيجيا، سواء في مجالاتها المهجورة من قبل القوى الاستعمارية السابقة، أو في البلدان المنبوذة في النظام الدولي، أو حتى في الدول التي تشهد ساحاتها حضورا قويا للولايات المتحدة وفرنسا.
ويبحث الفراوي في المحور الخامس جانبا من سياسات الصين في مجال التبادل الثقافي واللغوي، وبناء الأذرع الإعلامية الناطقة باسمها وبلغات العالم، مضيفا إلى الكتاب محورا سادسا فرض نفسه بعد التداعيات التي حملتها جائحة الفيروس كوفيد19، يقارب اتجاهات القوة الصينية في مرحلة ما بعد كورونا، حيث شجع التعافي السريع للصين، وانتقال بؤر الوباء إلى أميركا وأوروبا، على تحركها بسرعة لربح مجالات جيوسياسية جديدة.
أبعد من الاقتصاد
حول مشروع "الحزام والطريق" يلفت الفراوي إلى أنه أكبر من مجرد إنجاز اقتصادي صرف، إنه تأسيس لمرحلة متقدمة من انبثاق الصين كقوة عالمية تطرق باب الريادة. إنه يقود الصين إلى بسط نفوذها على محيطها الإقليمي، ومد نطاق تأثيرها إلى مناطق أبعد في إفريقيا وأوروبا وأمريكا اللاتينية، ولهذا فإن المشروع يضع الصين في مرمى الاستراتيجيات الأمريكية، الدولة التي تجمع نخب الفكر الاستراتيجي فيها على اعتبار الصين التهديد الأقصى للريادة الأمريكية في القرن الحادي والعشرين.
لكن بحسب الفراوي فإن السؤال المركزي هنا هو كيف تدير الصين علاقاتها في إطار هذا المشروع مع محيط إقليمي صعب يفرض توازنات دقيقة؟ فبينما تشكل باكستان قطب الرحى في المشروع، تبدي الهند تحفظا واضحا بتشجيع أمريكي. إنها علاقة ثلاثية تقتضي حساب مسافات وخطوات استراتيجية لتأمين تقدم المشروع.
هناك مخاطرة في مجال الطاقة تتمثل بتأمين معظم احتياجات الدولة من الخارج وخصوصا من مناطق مشتعلة استراتيجيا، ومعرضة لسياسات التطويق الأمريكية التي قد تتطور إلى تدخلات مباشرة لقطع الإمدادات. كذلك فإن الاقتصاد الصيني يعاني ظاهرة مزمنة عنوانها ضعف الفعالية الطاقية، ذلك أن العملية الانتاجية في الصين تستهلك موارد أكثر من أجل إنتاج نفس مستوى نظيرتها في الولايات المتحدة.
علاقة ثلاثية أخرى، أو لعبة، تديرها بكين بكثير من الحذر تدور حول الزعامة في النظام العالمي مع روسيا والولايات المتحدة. يقول الفراوي أن الصين وجدت في روسيا، والعكس صحيح، متنفسا استراتيجيا للالتفاف على محاولات الاحتواء الأمريكية والأوروبية، لكن الشراكة الروسية الصينية لم تتطور إلى حلف استراتيجي حقيقي، في ظل انفراد كل دولة بعلاقات ومقاربات خاصة في العلاقة مع واشنطن. حيث يحرص كلا الطرفين على ألا يدفع ثمن تصعيد حاد في علاقة الطرف الآخر بالقوة العظمى.
حذر، يضيف الفراوي، يبدو طبيعيا في سياق عقلية براغماتية تراهن على المصلحة القومية قبل أي شيء آخر. ويمكن تفسير الانخراط الروسي في مشروع "الحزام والطريق" انطلاقا من تبلور نوع من تقسيم العمل في آسيا الوسطى بين تمويل البنيات الأساسية من قبل الصين، كقوة اقتصادية، وبناء المظلة الأمنية الاستراتيجية من قبل موسكو، بوصفها قوة عسكرية. ومع ذلك فإن روسيا تعتبر أن مشاريع بكين تزاحم مشروعها الخاص للاندماج الإقليمي للجمهوريات الأور-آسيوية، الذي يتمثل في الاتحاد الجمركي الذي تأسس عام 2010.
من جهة أخرى فإن مشروع "الحزام والطريق" كما فهمته الإدارة الأمريكية أكبر من مجرد شبكة مبادلات اقتصادية. المشروع يعني وضع يد الصين على مصادر المواد الأولية التي تغذي النسيج الإنتاجي، وبالتالي استباق أية أوضاع استراتيجية مناوئة لشل حركة الصين في التزود عبر الطرق الحيوية في المنطقة. إنه يضمر على المدى المتوسط تدشين مسار إحلال للرعاية الصينية بديلا عن الحليف الأمريكي، خصوصا أن الصين تقترح مقابلا مغريا تجسده مشاريع اقتصادية ضخمة بعائدات تنموية ملموسة تحتاجها دول المنطقة، في مقابل تحالف أمريكي تسيطر عليه الأولويات الأمنية والاستراتيجية.
أفريقيا منبع المواد الأولية
على صعيد آخر تفيد المعطيات والأرقام أن إفريقيا ساحة رئيسية للتوسع الصيني الجيواقتصادي حاليا ومستقبلا. فقد سجلت بداية الألفية ارتفاع وتيرة التجارة من 900 مليون دولار عام 1990 إلى 10,5 مليار عام 2000. وارتفعت المبادلات من 29,5 مليار عام 2004 إلى 40 مليار عام 2005 و55 مليار عام 2006.
يقول الفراوي إن أهم الشركاء التجاريين للصين في إفريقيا هم منتجون للمواد الأولية مثل أنغولا، وجنوب إفريقيا، والسودان، والكونغو. وهو ما يجعل من إفريقيا سوقا للخام لا قاعدة لتطوير التصنيع، وهذه إحدى نقاط الانتقاد الموجه إلى السياسة الصينية تجاه القارة.
إفريقيا أيضا سوق لتجريب منتجات صناعة الأسلحة على غرار مبيعات الطائرات (كي8) لناميبيا والسودان وزيمبابوي، وطائرات الهيليكوبتر لمالي ومجمل بلدان المنطقة والشاحنات العسكرية ومعدات الاتصال وبرامج التدريب. ويحافظ النفط على موقعه في قلب الرهانات الاقتصادية للحضور الصيني في إفريقيا، فحتى عام 1990 كانت أهم دول مزودة للصين بالنفط هي إندونيسيا وسلطنة عمان وإيران، لكن هاجس تنويع الشركاء وتزايد الاستهلاك وتناقص احتياطي إندونيسيا حمل بكين على التوجه نحو إفريقيا. كل ذلك يمنح إفريقيا فرصة للتفاوض بشأن الاستفادة من حالة التنافس بين القوى الكبرى على الهيمنة القارية، لكنه يخشى أيضا من أن تذهب القارة ضحية لهذا الصراع.
وبحسب الفراوي فإن الصين، برغم التحفظات والانتقادات، توجد في موقع جيد لربح مساحات أخرى من الحضور واستمالة الجماهير والنخب المعجبة ببراغماتية النموذج التنموي الصيني في قارة منهكة بالوصفات الأيديولوجية والاقتصادية الفاشلة.
علل بنيوية
في الحديث عن القوة الناعمة يشير الفراوي إلى أن هذا النهج ليس غريبا عن الثقافة الصينية، بل له إشارات في الإرث الثقافي السياسي والفلسفي من ناحية إدارة العلاقة بين الحاكم والمحكوم وبين السلطة والفرد وفي استراتيجية الحرب كذلك. فقد وعظت الكونفشيوسية بأن الحاكم الناجح هم من يكسب عقول مواطنيه وقلوبهم ومشاعرهم بالفضيلة والمحبة لا بالقوة.
لكن مفهوم القوة الناعمة لم يعتمد رسميا إلا في عام 2007 في مؤتمر الحزب الشيوعي السابع عشر، حيث تم وضع هدف محوري يتمثل في تحسين صورة الصين والتصدي لما تعتبره تمثلات مغلوطة حول واقعها في الإعلام الغربي، ومحاولات لشيطنتها، وتوطيد صورة الوجه السلمي للصين وتبديد الانطباع بأنها تهديد لباقي الأمم.
أما أدوات القوة الناعمة فتشمل تكثيف سياسة المساعدات الإنسانية، وتطوير البنيات الأساسية في البلدان التي تعاني عجزا تنمويا، وإرساء شبكة واسعة من معاهد اللغة والثقافة الصينية، والاستثمار في السينما، وتكثيف قنوات التواصل الإعلامي، وتنظيم المحافل الكبرى. لكن في المقابل تعاني هذه القوة الناعمة من بعض العلل البنيوية التي تحد من قدرتها التنافسية. فبرغم التقدم الواضح في تفعيل هذه القوة،كما ونوعا، إلا أنها تعاني من كابح مهم هو ارتباطها حصرا بالمبادرة الحكومية في غياب للمجتمع المدني والمبادرة الخاصة، ما يعيق التفاعل على أوسع نطاق مع الخطاب الذي تنتجه مختلف قنوات الترويج والتواصل الصينية مع العالم.
في المحور السادس للكتاب المعنون بـ "الصين وترتيبات ما بعد كورونا.. خطى متسارعة نحو الزعامة" يلفت الفراوي إلى أن ما يجدر تسجيله في سلوك الصين تجاه الجائحة هو التمسك بالخطوط العريضة لسياستها الخارجية، المتمثلة في تعميق مشاركتها في النظام الدولي وشبكات التعاون متعدد الأطراف. ويقول إن انفتاحها الكبير على منظمة الصحة العالمية في زمن الجائحة، والتعبير عن استعدادها للزيادة من تمويلها لأنشطة المنظمة، بعد قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وقف المساهمة الأميركية، خير تجسيد للوجه الجديد الذي تود القيادة الصينية تكريسه لدولة ناشطة إيجابيا لا يقتصر طموحها على البعد النفعي التجاري في علاقاتها الخارجية.
في الحديث عن القوة الناعمة يشير الفراوي إلى أن هذا النهج ليس غريبا عن الثقافة الصينية، بل له إشارات في الإرث الثقافي السياسي والفلسفي من ناحية إدارة العلاقة بين الحاكم والمحكوم وبين السلطة والفرد وفي استراتيجية الحرب كذلك. فقد وعظت الكونفشيوسية بأن الحاكم الناجح هم من يكسب عقول مواطنيه وقلوبهم ومشاعرهم بالفضيلة والمحبة لا بالقوة.
إضافة إلى ذلك فقد بادرت الصين سريعا لمد يد العون لدول أخرى ضربها الوباء، فتم إيفاد خبراء صينيين إلى إيران ومعهم 250 ألف كمامة، وتم تقديم استشا ات عبر الفيديو للسلطات الصحية في الدول التي تطلب نصائح تخص التعامل مع تطورات الوباء، وبعثت مساعدات لبيلاروسيا، وتركمنستان، وأرمينيا، بينما كانت الطائرات الصينية المحملة بالفرق الطبية وأجهزة التنفس، والكمامات ، تحط في مطارات القارة الأوروبية. يقول الفرواي أنه بعد ستة أسابيع فقط من بدء الجائحة استعادت الصين نشاط آلتها الإنتاجية بزخم تدريجي، بينما غاص باقي العالم في ظلمات الكارثة اقتصاديا وسياسيا، وبالطبع سارعت السلطة الصينية إلى إظهار قوة النموذج السلطوي في أبعاده الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
يرى الفراوي أن ثمة نقاط بنيوية تشكل "شوكة" في قدم العملاق الصيني الصاعد، وستحدد الايقاع الكمي والنوعي للقوة الصينية وذروة توسعها، منها أن ارتهان الاقتصاد الصيني القائم على التصدير، لمستوى الطلب الخارجي يظل مرتفعا، وفي المقابل يبقى استهلاك الأسر ضعيفا، وبارتباط مع ذلك يعيق تفاوت الأجور انبثاق طبقة متوسطة مزدهرة، وهو عامل ضروري لانعاش الطلب الداخلي. كذلك ما زالت التفاوتات الاجتماعية والمجالية كبيرة، وكمؤشر على ذلك فإن 50% من الناتج المحلي تحققه المناطق الساحلية.
يضاف إلى ما سبق أن هناك مخاطرة في مجال الطاقة تتمثل بتأمين معظم احتياجات الدولة من الخارج وخصوصا من مناطق مشتعلة استراتيجيا، ومعرضة لسياسات التطويق الأمريكية التي قد تتطور إلى تدخلات مباشرة لقطع الإمدادات. كذلك فإن الاقتصاد الصيني يعاني ظاهرة مزمنة عنوانها ضعف الفعالية الطاقية، ذلك أن العملية الانتاجية في الصين تستهلك موارد أكثر من أجل إنتاج نفس مستوى نظيرتها في الولايات المتحدة.
طلبة بأحذية العسكر.. كتاب يدوّن جزءا من طريق ثورة تونس
خيبة الأمل في التنوير العربي.. أين المشكلة؟ (2من2)
خيبة الأمل في التنوير العربي.. أين المشكلة؟ (1من2)