هل قرر
الإخوان أخيراً، الابتعاد عن
السياسة، باعتبار أن
"البُعد" عن "الشر" غنيمة؟!
لقد أثار
إبراهيم منير، القائم بأعمال المرشد العام للجماعة، ضجة بتصريحه عن أن
الجماعة قررت عدم الصراع على الحكم بأي صورة من الصور، الأمر الذي استقبله كثيرون
بالريبة والتشكيك، كما استقبلته القلة بالترحيب، ورأوا أنه قرار وإن كان قد تأخر،
فأن تأتي متأخراً أفضل من ألا تأتي أبداً، لا سيما وأن الآلاف في السجون الآن
يدفعون ثمن رفض الانقلاب العسكري، بعضهم من الإخوان، والبعض الآخر ليسوا منهم!
معلوم، أن الإجماع ليس منعقداً على شرعية إبراهيم منير،
فلا يزال د. محمود حسين ومجموعته لا يسلمون بذلك، وقد حرصوا على إصدار بيان يؤكدوا
فيه على رأيهم منه، وأنه ومن معه مفصولون من الجماعة، وذلك بمناسبة تصريحه هذا، لكن
الملاحظة هنا، أنهم يمثلون قلة داخل التنظيم، ثم لا يبدو أنهم رافضون لهذا الاتجاه،
حيث انصب اعتراضهم على الإجراءات، فالأمر لم يناقش داخل مجلس شورى الجماعة، ومنير
ينتحل صفة ليست له.. وليس هذا هو الموضوع!
فما قاله القائم بأعمال المرشد، ليس عبر بيان كتب
بعناية، وبعد تفكير ومداولات، ولكن كتصريح على لسانه لوكالة رويترز للأنباء. وهناك
فرق في الأهمية بين البيان، والتصريح الذي قد يكون وليد سؤال لم يكن في الحسبان
فجاءت الإجابة عليه ارتجالية، لكن من الواضح أن الضجة المثارة على ما نشرته
الوكالة، لم يكن دافعاً لإبراهيم منير لكي يعقب أو يشرح ويوضح، وهو ما سبق أن فعله
عندما ثار جدل حول آراء له أدلى بها في مقابلات تلفزيونية، الأمر الذي يؤكد أن
السكوت هنا علامة الرضا عن ما قاله، فلم يكن أقوالاً غير مدروسة، وإلا كان قد نفى
أو شرح ووضح!
من الواضح أن الضجة المثارة على ما نشرته الوكالة، لم يكن دافعاً لإبراهيم منير لكي يعقب أو يشرح ويوضح، وهو ما سبق أن فعله عندما ثار جدل حول آراء له أدلى بها في مقابلات تلفزيونية، الأمر الذي يؤكد أن السكوت هنا علامة الرضا عن ما قاله، فلم يكن أقوالاً غير مدروسة، وإلا كان قد نفى أو شرح ووضح!
دلالة التصريحات:
ولعل السؤال المهم هو ما يدور حول دلالة هذه التصريحات
الآن، وهل هي اعتراف من جانب واحد، على النحو الذي فعلته الجماعة الإسلامية في
مراجعاتها، بعد أن بددت الكثير من أوراق القوة، فقد انتهت محاولات نظام مبارك
للبحث عن وساطة، لتكون "المراجعات" بدون اتفاق ودون ثمن متفق عليه؟
وجماعة الإخوان تمر بنفس الظروف تماماً، فقد انتهت
المرحلة التي كان فيها الانقلاب العسكري يخطب ودهم، ومن خلال الطلب من رئيس حزب
الحرية والعدالة سعد الكتاتني الانضمام للمرحلة الجديدة، أو العرض على وزير
التموين باسم عودة الاستمرار في منصبه بعد عزل الرئيس محمد مرسي، فضلاً عن أن
الحراك السياسي قد انتهى وانتهت بعده قضية الشرعية بوفاة الرئيس في محبسه. وليس في
يد الإخوان من قوة تدفع للحوار معهم، وعندما كانت هذه القوة تم النص في الدستور
على "
المصالحة"، وعندما زالت تم إلغاء هذا الاستحقاق الدستوري، وهو الذي
كان قد تم التوافق عليه من خلال لجنة الخمسين، لإعداد دستور الانقلاب، وأعضاؤها هم
أنفسهم الآن الذين يرفضون أن تشمل الدعوة
للحوار الوطني جماعة الإخوان المسلمين!
بل عندما تشكلت لجنة العفو الرئاسي الأولى والثانية،
استبعدت جماعة الإخوان من أي حديث خاص بالإفراج عن عناصرها، إذا استبعدنا
القيادات، وهي قرارات تصدر وفق قاعدة الشح المطاع، فلا تشمل كل القوى المدنية،
والإفراج لا يتم وفق نظام الري بالغمر، ولكن بالتنقيط!
وقد جاء الخارج ليدفع الداخل فيعتمد "المراجعات "التي
قامت بها الجماعة الإسلامية، وقد اعتبرها نظام مبارك رمية بغير رام، إذ كانت
الإدارة الأمريكية في عهد بوش الابن في حالة غضب شديد بسبب أحداث سبتمبر الشهيرة، إذ
اعتبرت أن استبداد الأنظمة العربية سبباً في هروب المتطرفين إلى الخارج (وكانت
حالة أيمن الظواهري ماثلة)، ومن ثم تهديد الأمريكان في عقر دارهم. وهنا أسرع النظام
ليقوم بتفعيل "المبادرة"، ويعتمد "المراجعات"، ويخبر
الأمريكان أن الأمور عنده مستقرة، وعليه بدأ في عملية الإفراج عن عناصر الجماعة
وقياداتها، مع توفير عمل لهم، ومن هنا كان استيعاب المبادرة، فلم تعد من طرف واحد
أو "عربون محبة" امتثل بها القادة للنصيحة الشعبية ومفادها "ارمِ
بياضك"!
انتهت المرحلة التي كان فيها الانقلاب العسكري يخطب ودهم، ومن خلال الطلب من رئيس حزب الحرية والعدالة سعد الكتاتني الانضمام للمرحلة الجديدة، أو العرض على وزير التموين باسم عودة الاستمرار في منصبه بعد عزل الرئيس محمد مرسي، فضلاً عن أن الحراك السياسي قد انتهى وانتهت بعده قضية الشرعية بوفاة الرئيس في محبسه
أزمة المعتقلين:
ما يشغل الإخوان الآن، هو عملية حلحلة الموقف لصالح
المعتقلين، وقد طال عليهم الأمد، ولا تبدو لدى الانقلاب العسكري رغبة في التراجع،
ومن ثم فـ"مبادرة منير" تدخل في هذا الإطار، لكنها ليست بطلب داخلي،
فبدلاً من الدخول في تفاهمات مع "إخوان الخارج" وهم ليسوا جناحاً
واحداً، فلديهم الأصل الذي لا خلاف عليه، ممثلاً في المرشد العام للجماعة، ورجلها
القوي خيرت الشاطر، كما لديهم في سجونهم الصقور والحمائم، وكان يمكن لنظام
السيسي
أن تكون تفاهماته معهم، مع توفير لقاءات تمهد لذلك، كما حدث بعد محنة 1965، في زمن
عبد الناصر، والذي سمح بكتابة "دعاة لا قضاة" من داخل السجن، والمداولات
حوله.
فبعد هزيمة 1967، كان زمام الأمور قد صار بيد عبد الناصر
وحده، وكان يعمل على تضييق الخلاف في الحدود الآمنة بالنسبة له. وإذ كان قد صاح
بعد ذلك "انتهت دولة المخابرات"، فلا نعرف نصيب الإخوان من هذه الدولة،
وحدود تدخلها في إذكاء الصراع بعد المحنة الأولى، وكانت قد انتهت بقرار جمال عبد
الناصر بإخراج المعتقلين، وإعادتهم إلى وظائفهم بكامل ترقياتهم التي تعطلت خلال
فترة اعتقالهم! وهذه مرحلة لم تدرس إلى الآن دراسة وافية، ولولا تجدد المحنة بعد
نصف قرن، وبدت المحنة الجديدة في تفاصيلها أقرب إلى المحنة القديمة ومن معظم
الوجوه، لما كانت موضوعاً يستدعى للحديث!
ما علينا، فليست "مبادرة منير" كاشفة عن
"تفاهمات" داخلية، فإذا تقرر أن يقوم بها "إخوان الخارج"، لكان
من المنطق اخراج ولو قيادة واحدة وفق قواعد الافراجات، وهناك قيادات خرجت وسافرت،
ولكنها تفتقد للثقل والتأثير، لتكون هذه القيادة الواحدة هي صاحبة القول الفصل،
بنقل توجيهات المرشد العام للجماعة، أو يسمح بممر آمن لوصول رسائله من السجن إلى
كافة الأطراف لتحديد من يمثله بوضوح "منير" أم "حسين"، فلا
يكون لأحد أن يشوش على المبادرة باعتبار أنها من طرف مشكوك في شرعيته!
ولا زلت عند رأيي بأن قبول السيسي بحلحلة الموقف مع
الإخوان سيكون هو الخاسر منه، فالإخوان لا يسببون له أدنى مشكلة الآن، وليسوا
خطراً على حكمه، فالخطر الحقيقي يأتيه من خارج السياسة، وهو يدرك أن أي تقارب مع
الإخوان لن يجد موافقة لدى الحلفاء الإقليميين (على الأقل حتى اللحظة)، ثم إنه سيخسر
الحلف اليساري، الذي يرضى بالفتات، وخسارته في المقابل تحدث توترات، مع قلة العدد
وعدم الأهمية، كما فعلوا أيام الرئيس محمد مرسي. ولا ننس أن السادات وإن كان في
تقارب مع الإخوان، فلم يكن يعاني من الأمان مع الضجة التي يحدثها ضده اليسار،
والذي كان بالنسبة له هم "أهل الشر"، زاد من حدة الصراع أنه كان يهاجمهم
بنفسه فيهاجمونهم في الداخل والخارج!
ليست "مبادرة منير" كاشفة عن "تفاهمات" داخلية، فإذا تقرر أن يقوم بها "إخوان الخارج"، لكان من المنطق اخراج ولو قيادة واحدة وفق قواعد الافراجات، وهناك قيادات خرجت وسافرت، ولكنها تفتقد للثقل والتأثير، لتكون هذه القيادة الواحدة هي صاحبة القول الفصل، بنقل توجيهات المرشد العام للجماعة، أو يسمح بممر آمن لوصول رسائله من السجن إلى كافة الأطراف لتحديد من يمثله
واليسار
المصري، بل للدقة اليسار العربي، لا يحضر إذا
حضر الإسلاميون بجانب السلطة، فلا بد من غياب أحدهم. وعندما جاءت فرصة حضورهما معا
وقد كانوا "عباد الله إخواناً" في ميادين الثورة، نزغهم نزغ من الشيطان
فلم يستعيذوا بالله السميع العليم، ومن هذه الثغرة دخل العسكر ليمشوا بين الطرفين
بالنميمة!
الجنرال وإن كان قادماً على أيام أسود من قرن الخروب،
كما يقول إعلامه والخبراء الاقتصاديون من أهل الموالاة، فإنه خلال عامين سيكون
أمام استحقاق انتخابي مهم، هو الخاص بدورته الرئاسية الجديدة، وبعد ذلك سيكون أمام
استحقاق آخر، هو الخاص بتعديل الدستور بما ينص على استيعاب العاصمة الإدارية
الجديدة، أيضاً لضمان ترشحه في نهاية الدورة الجديدة، وهي وإن كانت ست سنوات ستمر
على الناس بطيئة ومميتة، فإنها ستمر عليه مر السحاب. وحسم مثل هذه القضايا
المصيرية له ليس مأمون العواقب، لا سيما ونحن أمام إنسان يفكر كثيراً قبل اتخاذ أي
قرار مصيري، خوفاً من المجهول، فليس في شجاعة السادات، أو عدم مبالاة مبارك، وحلحلة
الأزمة مع الإخوان لن تضيف له كثيراً!
وهذا كله يؤكد أن "المبادرة" ليست تعبيراً عن
"تفاهمات" داخلية، فهل هي رسالة للخارج!
بصوت غير مسموع:
لا ننكر أن "إبراهيم منير" هو ثاني اثنين في
جماعة الإخوان تعلما لغة الغرب، والثاني هو "يوسف ندا"، وإن كانا
يعانيان من بطيء الحركة لكبر السن، وعدم التمتع بالخيال الواسع والمطلوب. وفي
تقديري أن هذه "المبادرة" قد تكون نتيجة وجود أطراف خارجية تسعى لرأب
الصدع، وإزالة أسباب الاحتقان ومبرراته، ومن باب الحفاظ على حكم السيسي، وبتحقيق
درجة من الرضا الداخلي، ما دام الثمن المطلوب ليس
الشراكة في الحكم أو تهديد حكمه،
فالثمن حقوقياً يتمثل في الإفراج عن معتقلين لن يمثلوا خطورة على نظام السيسي!
أو قد يكون للرسالة بعد باتساع الأفق العام، وهو أن هناك
تخوفاً خارجياً من سقوط نظام السيسي، وهناك هلع من داخله عبر عنه أحد جوقته (عمرو
أديب)، والخوف من هؤلاء الذين يجلسون في انتظار لحظة الانقضاض عليه، وقد يكون هناك
تفكير بصوت مسموع في إمكانية التغيير الآمن له، وقفز الإخوان ولو عن طريق الانتخابات
لن يجعل الأمور أفضل من ناحية الاستقرار الداخلي، فكانت رسالة منير موجهة ومقصودة،
وربما بدون اتفاق!
ليس أكثر بطئاً من هؤلاء الذين يفكرون بصوت غير مسموع!
twitter.com/selimazouz1