مطالبة الزعيم الشيعي مقتدى الصدر بإعادة الانتخابات هي عودة بالبلاد للمربع الأول، فأي انتخابات مقبلة، وإن تغير قانون الانتخابات، لن تنتج واقعا مغايرا عن هيمنة القوى السياسية الحاكمة في العراق منذ 2003، خصوصا الأحزاب الشيعية والكردية، قد تزيد مقاعد كتلة المالكي قليلا وتتراجع كتلة الصدر مثلا، لكن من الصعب تخيل أن هناك قوى جديدة ستظهر فجأة لإنقاذ العملية السياسية المتهالكة، كما كان يتأمل كثيرون خلال فورة حركة امتداد ومظاهرات تشرين، فقد تبين أن جمهورهم الانتخابي لا يتعدى العشرة في المئة منحصرا في المحافظات الشيعية فقط، أي إن الحراك بدا وكأنه نزاع داخلي شيعي شيعي.
كما أن معظم نوابهم انحازوا لاحقا بطريقة أو أخرى للأحزاب التقليدية، أو بلعتهم التحالفات مع من كانوا يعتبرونهم خصومهم، وقد تبين أن المستفيد الأكبر من حراك ومظاهرات تشرين، والمحرك الأكبر لها هو جماهير التيار الصدري، أي إن الدعوة لانتخابات مبكرة حينذاك، والمراهنة التي راجت إعلاميا حينها على صعود حركة مدنية مناوئة للأحزاب التقليدية تغير الواقع السياسي العراقي، من خلال الانتخابات المبكرة، أفضت إلى تكرار فوز القوى الحزبية نفسها في المحافظات الشيعية والكردية تحديدا (وهو مآل مشابه لتشرين لبنان أيضا، وكلاهما بلدان يعانيان من انقسام طائفي عميق)، وإعادة إنتاج المناخ السياسي الحاكم نفسه. فما الذي تحمله اليوم دعوة مقتدى الصدر لانتخابات مبكرة من معنى جديد؟ المعنى الأول لتلك الدعوة هو محاولة السيد مقتدى العودة للعملية السياسية، بعد أن تورط على ما يبدو بسحب نوابه السبعين، وأعلن عزوفه عن العمل السياسي ليعود ويقتحم البرلمان و«يحتله»، في فصل جديد مكرر من التقلبات التي تميز مواقف الزعيم الصدري، من دون أي تطورات جديدة تبرر تلك التقلبات والتناقضات الفجة.
الغاية الأساسية الأخرى لتحركات الصدر، هي محاولة إعاقة تشكيل حكومة منافسيه في الإطار التنسيقي، الذين اختاروا محمد شياع السوداني لترؤس الحكومة المقبلة، فاقتحام البرلمان نظر له من قبل كثيرين على أنه نوع من الـ«انقلاب» على الدستور والآلية، تحركه رغبة الصدر العارمة بالتحكم بمقاليد السلطة ببغداد، سواء من خلال الآليات الدستورية، أو بالانقلاب عليها، فقد حاول تشكيل كتلة أكبر من خلال تحالف ثلاثي، لكنه أخفق في ذلك، فلجأ للانسحاب من البرلمان، ومن ثم اقتحمه أنصاره مطالبا بانتخابات مبكرة، وكأنه يطبق المقولة الشهيرة «يا نلعب يا نخرب الملعب»!
داخليا إذن، تحركات الصدر هي عرض جديد من عروض النزاع القديم المتجدد بين الصدريين والأحزاب الشيعية التقليدية، التي تتمايز عن تياره بالكثير من الجوانب، أهمها كفتها الراجحة من الارتباط بعلماء المرجعية الشيعية، وهذا النزاع القديم يتجدد كل مرحلة منذ حقبة والده محمد صادق الصدر في تسعينيات القرن الماضي، عندما كان قيادي في المجلس الأعلى للثورة الإسلامية هو صدر الدين القبانجي يتهم محمد صادق الصدر بأنه عميل لصدام، قبل اغتياله بأيام قليلة على يد الأجهزة الأمنية لدولة صدام، كما يرجح المطلعون دون دليل حاسم للآن، فالبعض الآخر يتهم خصوم محمد صادق الصدر باغتياله، ويذكر تفاصيل عن إقفال مكتب الصدر في قم، والتقاذف بين أنصارهم بالأحذية قبل أيام من هذا الاغتيال، كما روى لي أنصار الصدر في براني النجف عام 2004، المؤكد إذن أن العلاقة بينهما كانت متوترة بغض النظر عن المتورط باغتياله.
إقليميا، فإن تحركات الصدر هدية من السماء لمحور ما يسمى الاعتدال في المنطقة. الأمريكيون وحلفاؤهم المناوئون للنفوذ الإيراني المتنامي في الإقليم، وجدوا في تحركات الصدريين ورقة رابحة في مواجهة حلفاء طهران في العراق، طبعا هذا لا يعني بالضرورة أن الصدر يتحرك استجابة لهذه البوصلة، لكنه بالتأكيد يستمد منها دعما، ويقف على رأس هذا المعسكر المتماهي مع واشنطن داخل العراق رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، الذي يحتفظ بعلاقات قديمة مع واشنطن والأجهزة الأمنية الأمريكية منذ عمله في جهاز المخابرات العراقية، بل قبلها كصحفي مقرب من مؤسسات في واشنطن. ويبدو أن الكاظمي وجد في الصدريين حزبا له، يعوض ضعف قاعدته الجماهيرية مقارنة بباقي الأحزاب الشيعية، ويعتمد عليه كداعم وحيد ربما لبقائه والتمديد له كرئيس وزراء، ولهذا نلاحظ إصرار الإطار التنسيقي على رفض التمديد للكاظمي باعتباره حليفا لمقتدى الصدر، سخر له الكثير من أجهزة الدولة كما يتهم من قبل أنصار الإطار التنسيقي، ابتداء بسماح القوات الأمنية لأنصار الصدريين باستباحة البرلمان بصورة غير مسبوقة في الحياة السياسية العراقية، وليس انتهاء بتسخير الفضائية العراقية لدعم رواية حليفه الصدر، حتى إن الإعلاميين المقربين من الإطار ذكروا أن الفضائية العراقية تقصدت نقل مظاهرات الصدر التي اقتحمت البرلمان من زوايا تصوير تظهرها أكبر حشدا، وبالمقابل اختارت لقطات تنتقص من حجم مظاهرة الإطار التي تجمعت قرب الجسر المعلق ببغداد، رغم أن الإطار نجح بالفعل في تحشيد أعداد كبيرة من مناصريه، خصوصا أنه اختار موقعها بالقرب من حي سكني يعتبر معقلا قديما لأنصار الحكيم تحديدا، وهو الكرادة داخل، وهو حي نعرفه منذ التسعينيات بأنه مصطبغ بهذا اللون السكاني، المختلف عن لون مدينة الصدر مثلا.
ستبقى الأزمة تراوح نفسها لأنها لا تتعلق بالنظام السياسي، كما يروج إعلاميا في متلازمة عربية للهروب من النظر للمرآة، بل بطبيعة نزاعات المجتمع والقوى الحزبية المنبثقة عنه والانقسامات الطائفية في العراق، التي تقوض قبول الأطراف بمبدأ تداول السلطة وإيجاد آلية لإدارة الحكم، وهي أزمة يعانيها العراق ومحيطه العربي منذ قرون، سواء بوجود نظام سياسي ودستور أو بعدمه، وستستمر ما دامت لم تعالج بتغير القيم والمفاهيم في المجتمعات قبل الأحزاب. وماذا عن مخاوف الجنوح للحسم بالقوة؟ إن حساسية التوترات الشيعية الشيعية والمخاوف من الانزلاق لاقتتال داخلي داخل الطائفة الحاكمة في العراق، يكبل «حتى الآن» محاولات اللجوء للقوة، فالكثير من التقديرات ترجح أن الإطار التنسيقي قادر على حسم النزاع مع التيار الصدري بالقوة المسلحة وبقوة ورقة المرجعية الأقرب له، حسب تقديرات وشواهد عديدة، وهناك من بدأ يتحدث (المالكي ومجالسوه يقولون ذلك صراحة في التسجيلات التي لم تأت بجديد لا يعرفه المطلعون) عن اللجوء للقوة مع الصدريين كما حدث سابقا، وهو رأي بدأ يتصاعد بين نخب شيعية مقربة من الإطار، تقول إن حركة مقتدى تنخر الطائفة من الداخل، وبدأت تشكل خطرا حقيقيا عليها، وإنهم قد يضطرون لإنهاء هذه الحالة بالدماء إن اقتضى الأمر، لكن الخشية من الولوغ في دائرة الدماء يدفع المراجع الشيعية والنخب الشيعية من بيروت لطهران للضغط على القوى السياسية الشيعية العراقية لتجنب الصدام في ما بينها، وهي ناجحة للآن، لكن إلى متى؟
عن القدس العربي