كثُرت التساؤلات حول مدى محافظة مفهوم
المواطنة على معناه ودلالاته في سياق
تطور
العولمة وتوسع تأثيراتها على الدول والمجتمعات، كما تعددت التحليلات المُفسرة
للتراجع التدريجي لقوة المواطنة، بحسبها وعاء جامعا، ومقوماً ضامناً لتماسك الأفراد
والمجتمعات، وإطاراً ضامنا لحقوقهم وواجباتها، ومرجعاً حافظا لانتسابهم وولائهم.
فالعولمة بصفتها لحظة في تطور العالم، تنبذ، بطبيعتها، الحدود المعبرة عنها
المواطنة، أي الهويات الوطنية والقومية، وتُشدد على الانفتاح الواسع في كل
الاتجاهات والمجالات، وتميل إلى تكريس العلاقات العابرة للوطنيات، التي تعتبر
المواطنة روحها، وتجعل من العالم كلا واحدا، وتعمد إلى صهر الناس في بوتقة واحدة، لا
تتسع للخصوصيات والتمايزات الثقافية والفكرية والذهنية. لذلك، انطلق الحديث منذ
سنوات عن "المواطن العالمي"، أو "المواطنة العالمية".
ليس ثمة شك في أن للمواطنة سياقها الخاص، وللعولمة ظروف وأسباب نشوئها، وأن
للمفهومين معا شروطهما ودلالاتهما الخاصة. ومن الواضح أن العولمة لا تجبُّ المواطنة
إلا بمسح وإلغاء شروطها ومقوماتها، التي لعب التاريخ بروافده الاقتصادية
والاجتماعية والثقافية أدوارا مركزية في ظهور المفهوم واستقراره وتوطينه، وهو ما تسعى
العولمة إلى إضعافها بُغية إلغائها وتعويضها بأخرى، أكثر التصاقا وتعبيرا عن هذه
الظاهرة الجديدة، أي العولمة.
العولمة لا تجبُّ المواطنة إلا بمسح وإلغاء شروطها ومقوماتها، التي لعب التاريخ بروافده الاقتصادية والاجتماعية والثقافية أدوارا مركزية في ظهور المفهوم واستقراره وتوطينه، وهو ما تسعى العولمة إلى إضعافها بُغية إلغائها وتعويضها بأخرى، أكثر التصاقا وتعبيرا عن هذه الظاهرة الجديدة
فالمواطنة نشأت في سياق ميلاد
الدولة القومية الحديثة، وفي تلازم مع سيرورة
اكتمال عناصرها القانونية والسياسية، بل تُجمع الدراسات المؤصلة للمواطنة على أن ظهور
المفهوم مرتبط بدرجة متقدمة من تطور الدولة القومية الحديثة، وأنه استجابة لمطالب
المجتمعات ومناداتها المتكررة بأن تكون لأفرادها وجماعاتها حقوق وحريات، وبأن يتولّد
لدى الجميع شعور بالانتماء إلى هوية ورابطة ولاء، وليس مجرد علاقة قانونية يُطلقُ عليها
في لغة القانون: "الجنسية" (Nationalité).
نفهم مما سبق أن مما يميز "المواطنة" ويمنحها طابع التفرد عن
العولمة أنها لصيقة من حيث النشوء بالدولة، أي ذلك الكيان القانوني والسياسي،
المحدد جغرافيا، والموسوم بقدر عال من التماسك والانصهار العضوي لسكانه، أي للمجموعة
البشرية التي تعيش وتتعايش في كنفه. ثم إن المواطنة، وهذا ما يميزها عن العولمة، تشترط
درجة من الاندماج في عناصر الثقافة والتاريخ والعيش المشترك، أي الهوية الجامعة،
وهو ما تستبعده العولمة وتعمل على إلغائه باسم التوسع والتمدد وتحويل العالم إلى
"وطن واحد".
لذلك، نلاحظ أنه مع ظهور العولمة، تعالت الدعوات إلى التقليل من فكرة
الحدود، والتشكيك في "السيادة"، كما صاغها الفكر القانوني والسياسي
الحديث، وتم "التبشير" بميلاد عالم جديد بدون حدود، وبلا قيود، لا قيمة
فيه للتمايزات الثقافية والاجتماعية، بل تكون القيمة العليا في نطاقه للأسواق والمبادلات
التجارية والمالية، وانفتاح الدول والمجتمعات بغض النظر عن خصوصياتها الثقافية
والحضارية.
ومن التأثيرات السلبية للعولمة على المواطنة، يمكن أن نضيف الإكراهات التي
ولدها تمدّد الأسواق واكتساحها للعالم على حقوق الأفراد والجماعات، فقد انقرضت
الكثير من وحدات الإنتاج الصغيرة والمتوسطة، أو تمّ إضعافها لصالح المراكز
التجارية الكبرى، كما توسعت ظاهرة التفقير والهشاشة لدى فئات واسعة من مواطني
العالم، الذين فقدوا أعمالهم، إما بفعل حلول "الآلة" محلهم، أو بسبب
الشروط القاسية المفروضة من قبل الشركات العملاقة، سواء من حيث معايير العمل، أو من
خلال التغير المستمر لأمكنة وحدات الإنتاج عبر العالم.
على الرغم من حركات الاحتجاج والتضامن التي عمّت دول العالم، لم تستطع مناهضة العولمة إدراك أهدافها في الحدّ من التأثير السلبي لهذه الظاهرة ونمط تعاملها مع الدول والمجتمعات
والواقع أنه على الرغم من حركات الاحتجاج والتضامن التي عمّت دول العالم،
لم تستطع مناهضة العولمة إدراك أهدافها في الحدّ من التأثير السلبي لهذه الظاهرة ونمط
تعاملها مع الدول والمجتمعات.
ثم إن هناك مفارقة في تحليل علاقة العولمة بالمواطنة، مفادها أن العولمة
وإن ساهمت في نشر مصفوفة من الحقوق المرتبطة بطبيعتها وفلسفة عملها، وعملت على
إكسابها الطابع العالمي من خلال عملية تدويلها وتعميم تطبيقها على كل مناطق وجود
مؤسسات إنتاجها في العالم، فقد كان لها دور واضح في إضعاف الكثير من الحقوق
والحريات التي كرستها المواطنة في نطاق الدولة القومية الحديثة، وفي صدارتها الحقوق
والحريات الأساسية، التي أعلنت عنها المواثيق وكرستها الدساتير في عموم بلاد
المعمور.
فمن المعروف أن أجيال
حقوق الإنسان، لا سيما الأولى منها، كان الفضل في إقرارها
وتكريسها للإعلان المرفق ببيان الثورة الفرنسية لعام 1789، والدساتير الصادرة في
القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وقد تعززت بالاتفاقيات والصكوك التي أعقبت ميلاد
هيئة الأمم المتحدة، لا سيما في ستينيات القرن الماضي (1966)، وهو ما يعني أنها ظهرت
تاريخيا قبل بروز ظاهرة العولمة نهاية القرن العشرين. لذلك، شددت الكثير من حركات
مناهضة العولمة على دور هذه الأخيرة في إضعاف هذا الصنف من الحقوق وتبديد مكاسبها
بالنسبة لفئات واسعة من مواطني العالم.
أرغمت آلة العولمة الكثير من الدول على اعتماد سياسات عمومية مناقضة لتطلعات شعوبها، ومنافية لروح الحقوق والحريات المكرسة في دساتيرها، كما هو حال تلك المرتبطة بقطاعات استراتيجية، من قبيل التعليم والصحة والدفاع والخدمات الاجتماعية الأساسية
ففي الواقع يبرز الدور السلبي للعولمة في تبديد الحقوق الأساسية لمواطني
العالم وحرياتهم في تقليص مكانة الدولة القومية، وتهميش أدوارها المركزية في حماية
حقوق أبنائها وحرياتهم، وفي التقليل من حقها في ممارسة سيادتها الوطنية على
حدودها، لأن الحدود في زمن العولمة لم تعد واضحة ومحددة جغرافيا، بل غدت مفتوحة،
وعابرة للأوطان. بل الأكثر من هذا، أرغمت آلة العولمة الكثير من الدول على اعتماد
سياسات عمومية مناقضة لتطلعات شعوبها، ومنافية لروح الحقوق والحريات المكرسة في
دساتيرها، كما هو حال تلك المرتبطة بقطاعات استراتيجية، من قبيل التعليم والصحة
والدفاع والخدمات الاجتماعية الأساسية.
ومن هذه المفارقات أيضا، أن العولمة وإن بدت مروجة لقيم الديمقراطية ومبادئها،
فقد دلّت ممارسات الواقع على أنها شجعت وتشجع على قيم السوق، وآليات عمله، وتهدف
تاليا إلى بثّ قيم نمط من الديمقراطية، التي ليست سوى "ديمقراطية
السوق".
ففي الإجمال، إذا كانت العولمة محصلة طبيعية لتطور النظام الرأسمالي،
وتعبيرا واضحا عن مشروعه العام، فإن مناهضة مفاعيلها السلبية واجب وضرورة. يمكن للمجتمعات
أن تكون عصيّا عليها مقاومة العولمة والقضاء عليها، بسبب قدرتها الهائلة والمهولة
على الاستمرار والديمومة، غير أنها بمقدور المجتمعات الحدّ من تأثيراتها السلبية
الكثيرة والمتعددة، وهو ما تسعى إليه حركات مناهضة العولمة في العالم.