صدر كتاب للمؤلف والأكاديمي في جامعة حمد بن خليفة في قطر، مارك أوين جونز، يتناول كيف تفشت السلطوية الرقمية في أنحاء الشرق الأوسط.
ونشر إيجازا حصريا لكتابه الجديد، في موقع "ميدل إيست أي"، وترجمته "عربي21"، على جزأين، يبين فيه جونز كيف تستخدم الحكومات والجهات الفاعلة، فضلا عن الدول، وسائل التواصل الاجتماعي والتقنيات الرقيمة لخداع المواطنين والتحكم بهم.
وتاليا النص الكامل للإيجاز من إعداد مؤلف الكتاب:
على مدى السنوات العشر الماضية، وفيما بعد الربيع العربي، وبينما كنت أكتب عن مختلف الجوانب السياسية والإعلامية في منطقة الخليج، تلقيت تهديدات بالقتل، وتهديدات بالاغتصاب، وهجمات عبر الإنترنيت.
كما عُملت لي رسوم كاريكاتورية تصورني دمية لإيران، وفُتحت مواقع على الإنترنت لغاية واحدة ووحيدة، هي التشهير بي وبغيري من الأكاديميين والنشطاء. كما قام أشخاص ينتحلون صفتي بفتح حسابات في مواقع التواصل الاجتماعي، وكذلك بالكتابة إلى الصحف؛ معبرين عن مواقف وآراء سياسية تناقض تلك التي أحملها.
ولكم تعرضت للعديد من حملات التشهير، التي كثيرا ما تكون متناقضة في محتواها. فلو أراد المرء أن يصدق ما يقوله الذين يهاجمونني، فأنا مثلي ومعاد للمثليين في الوقت ذاته، وأنا عميل إيراني وقطري في الوقت ذاته، وشيعي وملحد في الوقت ذاته، وفي بعض الأوقات، أنا عميل سري لأجهزة مخابرات غربية.
تلقى زملائي وأصدقائي رسائل تحتوي على برامج ضارة فيها فيروسات تسرق منهم الكلمات السرية، وترصد مكالماتهم الهاتفية، بل وحتى تسجل لهم مقاطع فيديو باستخدام كاميرات هواتفهم.
تم منعي من دخول البحرين لأنني انتقدت قمع الحكومة عبر الأونلاين، بل وتم مؤقتا توقيف حسابي على تويتر بعد العديد من حملات التشهير. شربت القهوة بمعية أناس ما لبثوا أن ألقي القبض عليهم؛ لمجرد أنهم كتبوا تغريدة اعتبرت منتقدة للحكومة. وشهدت مع مرور الزمن حدوث تغير وضرر نفسي داخلي شخصيا، وتكبده آخرون ممن كانوا باستمرار عرضة للعنف عبر الأونلاين.
أهلا بكم في عالم السلطوية الرقمية، حيث يتم رقميا استخدام التضييق والرقابة والمعلومات المضللة في مسعى للتحكم بالسلوك البشري. يمكن تعريف السلطوية الرقيمة بأنها "استخدام تقنية المعلومات الرقمية من قبل الأنظمة السلطوية لفرض الرقابة على الناس، محليا وخارجيا، وقهرهم والتلاعب بهم."
وهي تشمل سلسلة من التقنيات القمعية، بما في ذلك "الرقابة، ومنع النشر، والتلاعب الاجتماعي، والمضايقة، والهجمات السيبرانية، وإغلاق مواقع الإنترنيت، والتنكيل الموجه ضد مستخدمي الإنترنت".
والمكون المقلق بشكل متزايد في مسألة التلاعب في وسائل التواصل الاجتماعي، هو بث المعلومات الخاطئة والمعلومات المضللة، وهي مصطلحات تستخدم بالتبادل لوصف محاولات التلاعب بالرأي العام، أو الإيحاء بأن الجمهور يقف إلى جانب قضايا محددة ويدعمها.
وعلى الرغم من أن هذا الكتاب يتطرق إلى الجوانب المتعددة للسلطوية الرقمية، إلا أنه يركز بشكل أساسي على بث المعلومات المضللة والخداع عبر وسائل التواصل الاجتماعي. وما يفعله جوهريا، هو طرح سؤال حول كيف تستخدم الحكومات والأطراف الأخرى الفاعلة غير الحكومية وسائل التواصل الاجتماعي والتكنولوجيا الرقمية لخدمة المواطنين، والتحكم بهم داخل منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وبشكل أكثر تحديدا في منطقة الخليج.
اقرأ أيضا: كتاب لمارك أوين جونز عن السلطوية الرقمية بالشرق الأوسط (2)
المعلومات المضللة والأخبار الكاذبة
من واشنطن العاصمة في الولايات المتحدة إلى الرياض في المملكة العربية السعودية، تعتبر المعلومات المضللة وما يسمى أحيانا "الأخبار الكاذبة" مشكلة عالمية، وهي جزء مما تطلق عليه كلير وارديل عبارة "الخلل المعلوماتي" المتنامي. ولذلك، منذ عام 2008، توجه الاهتمام الأكاديمي في مختلف العلوم، ولكن بشكل خاص في علم النفس والاتصالات، نحو فهم الغاية من بث المعلومات الخاطئة والمضللة.
ولكن، على الرغم من أن التضليل الإعلامي ليس جديدا، فإن التقنيات الرقمية التي تستغل من قبل من ينشرون المعلومات المضللة جديدة نسبيا. لم تعد الوسائط المركزية مثل التلفزيون والصحافة المطبوعة والإذاعة الوسائل الوحيدة، ولا الرئيسية، لبث المعلومات المضللة، فالنطاق الواسع الذي تتيحه وسائل الإعلام الرقمية ومنصات الإعلام الاجتماعي، بما يشكله شيوع الهواتف الذكية المتصلة بالإنترنيت من إغراء، أحدث نقلة في مستوى "الخلل المعلوماتي"، وغدا التضليل الإعلامي لاعبا أساسيا في تغيير انطباعات ومعتقدات الناس حول الحقائق والمسلمات.
وليس هذا مختلفا في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا؛ فباعتبارها منطقة يكاد ينعدم فيها التكافؤ، تتباين فيها آثار وأدوار التقنية الرقمية تبعا لمدى التبني الحكومي والتجاري والاستهلاكي. تعتبر الإمارات العربية المتحدة والبحرين وقطر من بين أعلى دول العالم من حيث تبني المستهلكين للتقنيات الرقمية، إذ بلغت نسبة الاختراق من قبل الهواتف الذكية مائة بالمائة، ونسبة تبني وسائل التواصل الاجتماعي سبعين بالمائة" في عام 2016.
وهذا أعلى من كثير من مناطق الولايات المتحدة وأوروبا الشمالية. في المقابل، تعتبر اليمن من أفقر بلدان العالم، وهذا ينعكس على كونها الأدنى في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من حيث اختراق الإنترنت. ولكن بينما تتزايد نسب اختراق الإنترنت أو تصل إلى حالة من الاستقرار، فإن وسائل التواصل الاجتماعي أكثر عرضة للتقلب.
على سبيل المثال، يتراجع استخدام تويتر والفيسبوك في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بشكل عام، على الرغم من أن المملكة العربية السعودية ما تزال أعلى خامس بلد على مستوى العالم في سوق تويتر، حيث يعتبر 38 بالمائة (أي ما يقرب من عشرة ملايين نسمة) من سكانها مستخدمين ناشطين. وبالرغم من أن استخدام تويتر وواتس آب وفيسبوك، وإلى حد ما إنستغرام، في تناقص بشكل عام في منطقة الشرق الأوسط، إلا أن استخدام فيسبوك في بلد مثل مصر في تزايد. وعلى الرغم من التغير في الاتجاهات، إلا أن عدد مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي يبقى مرتفعا.
قد ترتفع وقد تنخفض المنصات الجديدة، إلا أن الواقع المتعلق بكيفية تواصلنا، طرأ عليه بسبب التقنيات الرقمية تغير لا قبل لأحد بإصلاحه. ونتيجة لذلك، فإن التحديات القائمة التي تشكلها تلك التقنيات من حيث بث المعلومات المضللة، غير مرشحة للاختفاء في المستقبل القريب.
المخاطر المتزايدة للخداع
وهذه المخاطر المتعلقة بالخلل المعلوماتي باتت جلية بشكل متزايد؛ فمن ارتفاع نسبة من يرفضون المطاعيم إلى نسبة أولئك الذين يعتقدون بأن الكرة الأرضية مسطحة، غدت نظريات المؤامرة الهامشية أكثر شيوعا داخل التيار السائد، وذلك بفضل الانتشار الهائل في مصادر المعلومات البديلة، ويغري بذلك الارتفاع الظاهر في الارتياب من السلطة التقليدية، سواء كانت تلك ممثلة بمكاتب الاتصال الحكومية أو وسائل إعلام التيار السائد.
في كتابه حول الدعاية، يقول بيتر بوميرانتسيف؛ إننا نستشعر "الحرب مقابل الواقع"، حيث يسعى التضليل الإعلامي والخداع إلى تغيير رؤى الناس بشأن الواقع من خلال نزع الصدقية عن "الخبراء"، وزرع تفسيرات بديلة، والتلاعب بعواطف الناس لجعلهم يشعرون بأنهم في خطر، وبذلك يغدون أكثر استعدادا لتقبل الضلالات والأكاذيب.
والأمر جلل؛ لأن التضليل الإعلامي يمكن أن يفضي إلى الإملاء، وهذا بدوره يقود إلى التحريض. وبناء على طبيعة الإملاء، يمكن أن يفضي التحريض إلى العنف، بل وحتى إلى الإبادة الجماعية. ولقد شهد العالم العربي مأساة ذلك، كما مثله صعود داعش (تنظيم الدولة الإسلامية)، الذي يعزى على نطاق واسع إلى القدرة على التضليل الإعلامي والدعاية والإملاء وتجاوز الحدود العالمية عبر التقنية الرقمية.
فحتى فيسبوك اعترف بأن منصته تم استخدامها للتحريض على ما أطلق عليه عبارة عنف "الإبادة الجماعية"، الذي مورس ضد السكان المسلمين من الرهينغيا في مايانمار. والشيء نفسه حصل داخل البيئة "المغلقة" للواتس آب، حيث ادعى، على سبيل المثال، مقطع فيديو واحد أن الروهينغيا كانوا يأكلون لحوم الهندوس. بطبيعة الحال ثبت أن ذلك المقطع كان ملفقا. من جهة أخرى، لربما قضى المئات، بل الآلاف، نحبهم في أثناء جائحة كوفيد-19 بسبب المعلومات المضللة حول الفيروس.
تجازف الحرب ضد الحقائق الواقعة بتقويض كثير مما أحرز من تقدم على مدى القرون القليلة الماضية في مجال التفكير النقدي وفي تحصيل العلوم والمعارف. ليس مفاجئا إذن أن يصبح بث المعلومات المضللة وما بات يعرف اصطلاحا بالأخبار الكاذبة شديد التفشي خلال العقد الماضي. هذه المصطلحات، بالإضافة إلى مصطلح "الحرب على الواقع"، غدت جزءا من قاموس عصر "ما بعد الحقيقة"، حيث "تصبح الحقائق الموضوعية أقل نفوذا في تشكيل الرأي العام من المزاعم التي تدغدغ العواطف وتشبع المعتقدات الشخصية."
لا مجال لإحصاء المحفزات على مثل هذه الضلالات. في الوقت نفسه، تم اقتراح العديد من التفسيرات لهذه الظاهرة، ومن ذلك أن المعلومات الكاذبة تعود بمال أكثر على الشركات، ومنها أن الحقيقة مملة، ومنها أن بث المعلومات المضللة من أجل جني الأرباح، بات بحد ذاته نمطا تجاريا. ولكن، بينما تعتبر المكاسب المادية في عالم التجارة أحيانا غايات يسعى مقدم الخدمة لتحقيقها، إلا أنه لا يمكن غض الطرف عن زبائن مثل هذا التضليل المعلوماتي، إذ إنه بدون الطلب لا وجود للعرض، ولقد تجلى عصر ما بعد الحقيقة بطرق معينة في منطقة الخليج.
ثمة طريقة أخرى للنظر إلى الأخبار الكاذبة، ليس باعتبارها قتالا من أجل الحقيقة، وإنما من أجل النفوذ. وكما يلاحظ مايك أناني، فإن "في الأخبار الكاذبة دليلا على وجود ظاهرة اجتماعية تعتمل. إنه صراع بين كيف يرى مختلف الناس أي نوع من العالم يريدون". في عالم السياسة في بعض الأوقات، قد تبدو مصطلحات مثل "ما بعد الحقيقة" و"الحرب ضد الوقائع" أشبه بالتلطيف غير المألوف.
كان مايكل بيترز أكثر جزما، فهو يرى أن ظاهرة "الحكم من خلال الكذب"، حيث يستخدم الغوغائيون ومن على هامش الحياة السياسية وسائل إعلام الأونلاين لبث القضايا الخلافية، ومن حين لآخر المحتوى المضلل، للحصول على النفوذ كوسيلة للترويج لآرائهم ورؤيتهم للواقع من خلال السياسة أو التشريع.
لا تقتصر الظاهرة على الأنظمة السلطوية، بل تنطلق بها كذلك أنظمة ديمقراطية راسخة، لطالما اعتبرت تقليديا ذات إعلام قوي نسبيا، يتيح المجال لبعض التعددية في الرأي.
وخدعت الأنظمة الديمقراطية، بدرجات متفاوتة من الحذاقة، شعوبها. بعض ما افتروه من أكاذيب، مثل المزاعم بأن العراق يمتلك أسلحة دمار شامل، استخدم لتبرير حرب مأساوية جدا، ماتزال تداعياتها ملموسة حتى الآن، ولسوف تستمر كذلك إلى أجيال قادمة.
لا ينبغي أن نخدع أنفسنا بالظن أن الخداع من خصوصيات الأنظمة التي تصنف على أنها سلطوية، بل هو فعل غير ليبرالي تمارسه الأنظمة من كل صنف.
أما وقد قلنا ذلك، فإنه تجدر الإشارة إلى أن أهم فرق بين الأنظمة غير الليبرالية والأنظمة السلطوية هو وجود الصحافة.
لطالما اعتبرت الصحافة العاملة الناقدة والحرة من أي سيطرة للدولة آلية يمكن من خلالها كشف مثل تلك الأكاذيب، ووضع الحكومات على المحك ومساءلتها عما تفعل، حتى لو حصل ذلك بعد أن تكون الغاية من الكذب قد تحققت. وعلى الرغم من الجهود التي يبذلها شعبويون مثل ترامب وأوربان، مازالت الصحافة الحرة، مهما كانت متقلقلة، موجودة في معظم بلدان أوروبا وأمريكا الشمالية.
أن تكون تلك المؤسسات خط دفاع ضد الخداع الذي يمارسه الزعماء المستبدون، الذين يمارسون عملهم دون قيود ولا عوائق، فإن ذلك ينقلها إلى معسكر الأعداء، ولذلك فإن أحد أركان الخداع في العصر الحديث، هو اللجوء إلى شيطنة وسائل الإعلام.
لم يكن جديدا ما كان ترامب يردده من مصطلح "الأخبار الكاذبة"؛ ففي القرنين التاسع عشر والعشرين استخدم المصطلح الألماني "لوجينبريس" أو "الإعلام الكاذب" بشكل مكثف للنيل من صدقية وسائل الإعلام، التي كانت تناقض ما يصدر عن بعض الأحزاب السياسية من تصريحات.
بل استخدم المصطلح من قبل أشخاص مثل ريتشارد سبنسر، النازي الجديد في الولايات المتحدة ورئيس معهد السياسة الوطنية. بالإضافة إلى مساعيه لتقويض مصداقية تلك القنوات الإخبارية، التي كانت تنتقده أو تنتقد حلفاءه. شجع ترامب سيلا من المنصات الإخبارية التي كان يعتقد بأنها تدعمه، مثل "وان أمريكا نيوز نيتوورك". فبالنسبة لترامب ومن على شاكلته من الشعبويين، كانت الفكرة هي الحيلولة دون تعريض أنصاره المحتملين للانتقاد، أو للاتهام بأنهم إمعات تابعون له.
مع أن الكذب ليس خصلة وطنية، إلا أن بروز الشعبوية اليمينية في عصر ما بعد الحقيقة الحالي، جلب معه موجة من حملات التأثير المخادعة.
كشفت صحيفة ذي واشنطن بوست عن أن الرئيس دونالد ترامب كان حتى منتصف 2020 قد صدر عنه ما يقرب من 22 ألف ادعاء باطل أو زعم مضلل. ينجم السعي إلى تقويض مصداقية الصحافة من وجود منظومة إعلامية تعددية، وهو بذلك مؤشر على الرغبة في إنهاء هذه الحالة التعددية لصالح مقاربة أكثر أحادية وأشد سلطوية.
رغم أن بعض الشخصيات مثل دونالد ترامب قد تكون لها صفات مرضية تشجع النزعة لديها نحو الحكم من خلال الخداع، إلا أن بروز ما يوصف بأنه "اضمحلال الحقيقة" يغذيه، ولو جزئيا، وجود بيئة رقمية غير منظمة بما فيه الكفاية.
فبدون وجود حمايات وحراسات تحدد الأجندة من خلال منصات إعلامية منظمة عموديا، وكذلك بسبب تآكل الحدود السيادية التي تفصل بين الأخبار الوطنية والنظام البيئي المعلوماتي الدولي، فقد أضحى التضليل المعلوماتي منفصلا عن سياقه ذي المحدود.
فتغريدة يبثها شخص ما في هونغ كونغ، يمكن قراءتها آنيا من قبل شخص آخر في الأرجنتين. وبغض النظر عما إذا كنت تتفق مع الرسالة أم لا، فإن البث السريع والمباشر للرسائل، مهما كانت خاطئة أو ضارة، بات متاحا لأعداد كبيرة من المتلقين.
لا يقصد من ذلك تأييد وجود كيانات إعلامية مملوكة عموديا من شأنها أن تضاعف من مستوى التحكم الذي يمارسه حراس معينون. من الطبيعي أن يكون واضحا، عند هذه النقطة، ما يجلبه من فوائد تحدي الاحتكار الذي يمارس داخل وسائل الإعلام التقليدية. وما من شك في أن العولمة وقنوات التلفزيون الفضائية، والآن الإنترنت، قد تحدت قدرة الطغاة وحكومات الأنظمة الديمقراطية على حد سواء على التحكم بالأنظمة البيئية المحلية في بلدانهم. وسواء أعجبنا ذلك أم لا، فقد أدت التغيرات التكنولوجية، إلى حد ما، إلى تكريس تعددية إقليمية وعالمية.
وما من شك أيضا في أن صحافة المواطن الرقمية، والنشاط الحركي، وتحقيقات المصادر المفتوحة، ساهمت جميعها في خلق جداول جديدة من المحاسبة والمساءلة، الأمر الذي يكرس الشفافية والانفتاح. إلا أن هذا الكتاب لا يتعلق بالجوانب الإيجابية من نظام بيئتنا المعلومية الرقمية، وإنما يتعلق بما يجري من تلاعب بالحقائق والوقائع، من أجل خدمة أجندة فاعلين متنفذين، يسعون بشكل أساسي لممارسة الحجر على المواطنين وتضليلهم.
إنه يتعلق "بمنظومة الخداع" التي تعمل معا لشن حرب على الحقيقة التي تهدد الواقع المشترك الذي نعيش فيه، سواء كان ذلك متعلقا بالعلوم الطبية أو الأكاذيب المؤذية حول جماعات عرقية بعينها. كما يتعلق جوهريا بتوثيق الخداع كسلاح، وما ينجم عنه من معاناة وشقاء عام، أو إدامة الأنظمة السياسية التي تشيع الفساد وعدم المساواة.
من المهم الإشارة إلى أن التضليل المعلوماتي متجاوز للحدود، وأن الأطراف التي تفتري الكذب تستخدم التضليل المعلوماتي للتأثير في السياسة الخارجية للبلدان الأخرى خدمة لمصالحها هي. فالعولمة الرقمية لا تحترم بالضرورة سيادة الدول أو الحدود الرقمية المسامية بشكل متزايد، والمتجسدة في مصطلح "الشبكة العنكبوتية العالمية".
لقد خلقت الأنظمة البيئية المعلوماتية في الدول الديمقراطية الليبرالية، بدرجات متفاوتة، حيزا تعمل داخله المؤسسات بشكل شفاف؛ حتى يتسنى تحدي أو إقرار ما يوردونه من وقائع وحقائق. من شأن ذلك أن يوجد مستوى متبادلا من الثقة التي تؤكد وترسخ سلطة المؤسسات، من خلال خضوعها للمحاسبة والمساءلة من قبل أولئك الذين وجدت لخدمتهم.
وعلى الرغم من أن التحزب حول الاختيارات المعنوية والأخلاقية قد ينتعش، إلا أن الثقة المرافقة لهذه العلاقة المتبادلة، وإلى مدى ليس بالقليل، تشجع على التمسك بمجموعة من القيم العقائدية المحددة. وهذا الواقع المشترك، بينما يسمح بالاختلاف والتخمين، إلا أنه يبقى في الأغلب مربوطا بمجموعة متبادلة من الفرضيات حول العلوم، والتحضر، وطبيعة الحقيقة – وهي جوانب يتم تحويلها إلى سلوك اجتماعي من خلال نظام التعليم الحكومي، وغير ذلك من الجهود التي تبذل لضمان هيمنة الدولة.
إلا أن صعود سياسات ما بعد الحقيقة يسلط الضوء على هشاشة هذه العلاقة، وكذلك الضعف الذي يكتنف الأنظمة البيئية لوسائل الإعلام المستقلة أمام الطبيعة المتجاوزة للأوطان لوسائل الإعلام الرقمية.
إن الطريقة التي تعمل بها البرامج التي يتم إنتاجها في أماكن مختلفة من العالم وصولا إلى سيليكون فالي، وما يرافقها من نوايا مؤذية لبعض الفاعلين السيئين، هي التي تقوض هذا الواقع المشترك داخل وخارج حدودهم السياسية المحددة (على افتراض أنهم دولة). أيا كان الشعبويون والفاعلون السيئون، فإن لديهم القدرة على تخريب هذه القيم خدمة لمصالحهم الخاصة.
كتاب لمارك أوين جونز عن السلطوية الرقمية بالشرق الأوسط (2)
صدر حديثا: ترجمة عربية لقصائد فارسية صوفية