في مقال سابق تحدثنا عن الدرس الذي خلص إليه الراحل مهدي عامل في كتابه «في الدولة الطائفية» ومفاده أنه لا يمكن للطائفة ان تقوم بذاتها ولذاتها، وفق التمييز الماركسي الشهير، خارج إطار الدولة ومؤسساتها، وأن الدولة الطائفية هي التي تنتج الطوائف وتمنحها وجودها الحقيقي.
وقلنا حينها أن لا يمكن للطائفية أن تتحقق إلا عبر الدولة نفسها، فالشعور أو السلوك الطائفي الفردي، أو حتى الجماعي، مهما كان متطرفا، يبقى هامشيا غير ذي قيمة خارج السياق الاجتماعي، وهو قابل للتقييد عبر وسائط الضبط الاجتماعي أولا، والقانوني ثانيا. لكن الطائفية تتجسد وتتحول من وجود بالقوة على المستوى النظري، إلى وجود بالفعل على المستوى العملي عبر الدولة ومؤسساتها حصرا، عندها فقط يمكن الحديث عن «الطائفية»!
والمشكلة الأكثر خطورة لا تكمن فقط في طائفية الدولة، بل وفي جملة الذين يغطون على هذه الدولة ويحمونها ويتغافلون عن سلوكها الطائفي بل ويبررونه. هؤلاء هم قادة الخراب في أي دولة ولا يختلفون عن المطبلين للأنظمة المستبدة او الفاسدة، لاسيما أنهم متنفِّذون وقادرون على التأثير.
وفي مقال آخر قلنا إن الدولة الطائفية في العراق لا تتعاطى مع القانون بوصفه «قاعدة عامة مجردة» كما يُفترض أن يكون، بل تعدُّه أداة سياسية! وأن الجريمة السياسية في العراق لا تجرم الناس على أساس الفعل، بل على أساس هوية الفاعل، وقد تدخلت الإرادة السياسية المهيمنة بطبيعة الحال، لتمنع تغيير هذه القاعدة.
إن ثمة تحيُّزا واضحا في الخطاب الرسمي في تعامله مع بعض «الفاعلين» الذين يقومون بجرائم تقع ضمن توصيف الإرهاب الوارد في قانون مكافحة الإرهاب رقم 13 لسنة 2005، وتكتفي بوصفهم بـ«الخارجين عن القانون» وليسوا «إرهابيين» قالبين بذلك القاعدة الفقهية القانونية التي تركن إلى الفعل الإجرامي ولا تركن إلى القائم بهذا الفعل، مع ما يستتبع ذلك من تمييز قائم على أسس طائفية!
وإن الإنكار المتعمد الذي تنتهجه الدولة وسلطاتها وأجهزتها للجرائم ذات الطبيعة الطائفية، ومحاولة التغطية عليها، وعدم ملاحقتها أو متابعتها، وعدها مجرد «ردود فعل طبيعية» لا تستدعي حتى الإدانة أو التنديد، يجعل الدولة شريكا فيها وليس حكما، وهنا يأتي التبرير المعتاد لموقف الدولة من خلال مغالطة منهجية تسوّق الدولة وحواريوها والمدافعون عن طائفيتها من خلالها فكرة أن فضح هذه الجرائم ذات الطبيعة الطائفية، وفضح ممارسات الدولة الطائفية نفسها في التغطية عليها، هو استدعاءٌ للطائفية، والحقيقة أن موقف الدولة الطائفي من شأنه، في النهاية، أن يوسّع الانقسام المجتمعي الحاصل في العراق ويعززه ويغذيه، ولا يعدو هذا التبرير أن يكون تشويشا واضحا على جوهر الأزمة وهو طائفية الدولة.
في الأيام الماضية انتشر فيديو لأحد المنشدين، الذين يسمون في العراق بالرواديد، ويعدّون جزءا أساسيا من الطقوس المرتبطة باستشهاد الإمام الحسين رضي الله عنه، يسب فيه الصحابة عبر تحريف الكلمة إلى كلمة «عصابة». الحقيقة أنه ليس ثمة جديد في هذا الخطاب، فالمدونة الشيعية منذ القرن الرابع الهجري على أقل تقدير تحفل بمثل هذا الخطاب، وقد تحول هذا الخطاب إلى تقليد شعبوي أعجز الكثير، من المراجع العقلانيين الذين تصدوا لهذا الخطاب في كتاباتهم وخطبهم، عن إيقافه.
والأمر هنا لا يتعلق بالتأكيد، بالصراع التاريخي العبثي والطويل بين المدونات السنية والشيعية حول موضوع الصحابة وأمهات المؤمنين وتعريف آل البيت، أو بطبيعة الخطاب المبثوث في أمهات الكتب الشيعية، او بطبيعة التعاطي الشعبوي مع هذه الظاهرة، بل يتعلق بموقف الدولة العراقية من هكذا خطاب علني وموثق!
تقرر المادة 372/ 5 من قانون العقوبات العراقي أنه «من أهان علنا رمزا او شخصا هو موضع تقديس أو تمجيد أو احترام لدى طائفة دينية» يواجه الحبس أو الغرامة المالية. وبالتالي ما قام به هذا المنشد كان جريمة يعاقب عليها القانون، وكان يفترض بسلطات الدولة أن تبادر إلى ملاحقة الرجل عبر الادعاء العام الذي يتيح له القانون رفع إقامة الدعوى بالحق العام ضده، ومتابعتها.
وكان يمكن للجهات الأمنية العديدة العاملة في العراق التي تمتلك قضاة تحقيق إصدار أمر إلقاء القبض دون العودة إلى القضاء بالتهمة ذاتها، أو بتهمة ترويج خطاب كراهية، وكان يمكن للقاضي الذي ينظر الدعوى أو يحكم على المطرب بالغرامة وتنتهي المسألة!
لكن الدولة الطائفية في العراق لا تسمح بذلك، ولن تسمح به، بدليل أنها عمدت إلى تسويف دعوى رفعها بعض المحامين ضد المنشد في إحدى المحاكم، ولم يجرؤ القاضي على إصدار أمر إلقاء قبض على مرتكب تلك الجريمة الموثقة، مع أن إصدار مذكرات القاء القبض هي أكثر الممارسات مجانية وارتجالية وعبثية في العراق!
وما ينذر فعلا بالخراب هو كمية الخطابات التي انبرت للدفاع عن هذا المنشد، أو التبرير له، مع خطاب يتهم أي شخص يحاول تعرية الدولة الطائفية، أو تعرية سلطاتها ومؤسساتها، أو تعرية سياساتها التمييزية، أو سلوكها المنافق، او معاييرها المزدوجة، بأنه طائفي، أو أنه هو من يحرض على الطائفية، في محاولة للتخويف والابتزاز اللاأخلاقي، مع الحرص بالطبع على قلب المعادلة والتغطية على الجريمة الأصلية التي استدعت المشكلة في الأصل! قبل أعوام نشرت صحيفة عربية تقريرا ملفقا و مستفزا بعنوان «الحمل غير الشرعي في كربلاء» اعتذرت الصحيفة نفسها عنه لاحقا، ومع ذلك قبل القضاء العراقي 50 دعوى قضائية في أنحاء العراق كافة ضد الصحيفة ومراسلها، وصدرت 5 مذكرات القاء قبض متعلقة بهذا الموضوع!
يومها لم يقل أحد في الدولة الطائفية في العراق، أو مريديها وحوارييها، ممن يغطي على جريمة المنشد الموثقة، ما يقولونه اليوم؛ من أنها مجرد قضية تافهة لا يجب أن تلهي النخب المفترضة عن مهامها الكونية! ولم يقل أحد إن توقيت نشر التقرير وراءه أجندات ومؤامرات كونية! بل شارك الجميع في تلك الحملة ضد الصحيفة ومراسلها حتى اضطروه إلى الاستقالة حماية لنفسه!
حتى الدولة الطائفية يمكن أن تعدّل من سلوكها في حال وجود نخب، ومجتمع مدني، ومثقفين، يرغبون حقيقةً في تغيير سياساتها، وتحيزاتها، ومعاييرها المزدوجة، لكن ما يحدث في العراق اليوم أن الغالبية العظمى من هؤلاء يدافعون عنها، بل يزايدون على سياساتها الطائفيه، في الوقت الذي يواجه الصوت الآخر، الضعيف أصلا، كل ما يمكن تخيُّله من اتهامات مرسلة!