الكتاب: "كتابات ومذكرات المناضل يوسف الرويسي السياسية مع وثائق جديدة تنشر لأول مرَّة"
الكاتب: د. عبد الجليل التميمي
الناشر: مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات، تونس
(265 صفحة من القطع الكبير)
كتابنا موضوع الدراسة هو "كتابات ومذكرات المناضل يوسف الرويسي السياسية مع وثائق جديدة تنشر لأول مرَّة"، للدكتور عبد الجليل التميمي المدير العام لمؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات، وهو كتاب عن الزعيم الوطني التونسي الراحل يوسف الرويسي، الذي عاش مرحلة تاريخية كبيرة من حياته في دمشق.
قام الدكتور عبد الجليل التميمي بجمع مادة كتابه ووثائقه التاريخية من مضامينها الأولى على مدى العشرين سنة الماضية، وقدمه اليوم في هذه الحلة القشيبة، وهو عبارة عن مذكرات وكتابات ووثائق للزعيم الوطني التونسي يوسف الرويسي، الذي لعب دورًا رياديًا في منظومة الحركات الوطنية العربية المعاصرة برمتها.
يقول الدكتور التميمي: "لقد كانت اتصالاتي الأولى بالمرحوم يوسف الرويسي خلال سنة 1973 بفضل السياسي الكبير الأستاذ د. فاضل الجمالي (وزير الخارجية العراقية الأسبق في عهد حكومة نوري السعيد)، أمد الله في أنفاسه. ومنذئذ أصبحت أتردد على المرحوم يوسف الرويسي في بيته بصلامبو (أحد ضواحي العاصمة التونسية)، حاثاً إياه على تسجيل مذكراته ومد القارئ والمؤرخ بحصيلة تجاربه السياسية واختماراته ورؤاه خدمة للمعرفة التاريخية المجردة والنزيهة وحرصاً منا على إثراء وتوفير أرصدة المعلومات الفاعلة في تأطير الحركة الوطنية التونسية" (ص 7).
ومنذ تأسيس المجلة التاريخية المغاربية التي جعلت منها مؤسسة التميمي منبراً لعرض التجارب الثرية والرائدة والخبرة الطويلة والممتازة لكل المناضلين الصادقين، فتح الدكتور عبد الجليل التميمي مع المرحوم يوسف الرويسي كنش ذكرياته الحافلة بمختلف التموجات، ونشر في هذه المجلة التاريخية المغاربية ما حصل عليه من رسائله ووثائقه، وكان يحثه باستمرار على تسجيل كفاحه وإقناعه أن ذلك يُعَدُّ شيئاً أساسياً وفي غاية الأهمية. فتسجيل الذكريات لا يقل وطنية عن العمل السياسي، بل هو تتويج مشرف لهذه المسيرة الرائدة الوطنية، وهذا في الوقت الذي كانت تطغى فيه الرؤية التاريخية الرسمية (البورقيبية) التي أزاحت أجيالاً من المناضلين الصادقين، وهمشت البطولات الشعبية الرائعة وغمطت حق المناضلين الحقيقيين. وهم الذين صنعوا تاريخ الحركة الوطنية التونسية ببطولاتهم وإخلاصهم وتفانيهم وتضحياتهم الجسيمة.
ويعتقد التميمي أنَّ ملف تاريخ الحركة الوطنية يحتاج اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى تظافر جهود كل المخلصين العاملين وأن تقييماً حقيقياً وشاملاً للرموز الفاعلة فيه في جنوب البلاد والوسط على الخصوص، ما زلنا ننتظره. مع العلم أن وثائق عديدة هي إلى حد الآن حبيسة بيوت المناضلين ولم يتم بعد تسجيل منظومة كفاحهم، إثراء لمضامين الحركة الوطنية برمتها. إن دور رجالات الجنوب والوسط مثلاً، كان دوراً رئيسياً إن لم يكن حاسماً ليس فقط في تتويج مسار الحركة الوطنية بل الاجتماعية والنقابية والثقافية منها على الخصوص.
الرويسي قائد التيار العروبي داخل الحزب الحر الدستوري
يمثل يوسف الرويسي جيلاً جديداً من الطلاب الزيتونيين المتنورين الذين فرضوا أنفسهم على الساحة منذ الثلاثينيات من القرن الماضي، وانبروا يهدمون القواعد والأطر القديمة حاملين لواء التجديد الشامل دون أن يقطعوا مع التربية الثقافية والحضارية التي تغدوا بلبانها. ذلك أن الرويسي يمثل رمزاً للتجديد السياسي تماماً مثل الطاهر الحداد رائد التجديد الاجتماعي وأبي القاسم الشابي داعية التجديد الأدبي، إضافة إلى باعث الحركة النقابية التونسية محمد علي الحامي.
ولعل حركية يوسف الرويسي وريادته، هي التي بوبته إلى أن ينتخب في أعلى هيئة تسييرية ممثلاً للجنوب من جهة وللجامعة الزيتونة من جهة أخرى، وهي المكانة التي لم يبلغها أحد غيره من الزيتونيين الذين بقوا يمثلون مجرد قاعدة تطبق تعليمات قيادة سياسية ذات تكوين غربي أساساً، وكان قد سيطر عليها رجال القانون والذين دربوا وبرعوا في سياسية الإقناع المخطط وكسب الأنصار مهما كانت السبل والأقنعة المستعملة حقاً أو باطلاً، وهذا خلافاً للرواد من الوطنيين الأطباء أمثال الحبيب ثامر وسليمان بن سليمان وأحمد بن ميلاد مثلاً.
وقد اشتكى الرويسي نفسه من سهولة تعيين المتخرجين حديثاً من الجامعات الفرنسية بالهيئات القيادية للدستور الجديد وحيث بقي حكراً عليهم. وكان الرويسي يمثل بينهم الاستثناء الدائم بتكوينه الثقافي ومواقفه الثابتة وشخصيته المتميزة وإحساسه الوطني العميق. ولذلك كانت مواقفه أحياناً تبدو صارمة وحادة وربما ناتئة عن المسار العام. ولا أدل على ذلك من موقفه سنة 1950 من مشاركة حزبه في حكومة شنيق التفاوضية وكذا موقفه من اتفاقيات الاستقلال الداخلي حيث نشر بيانه الشهير يومئذ. وكانت تلك المواقف تحتمها توجهاته العروبية، إذ كان يؤطر القضية الوطنية ضمن رؤية قومية وحدوية، وكان يرى أن استقلال تونس لا يتم إلا باستقلال كامل للمغرب العربي وأساساً الجزائر.
يمثل يوسف الرويسي جيلاً جديداً من الطلاب الزيتونيين المتنورين الذين فرضوا أنفسهم على الساحة منذ الثلاثينيات من القرن الماضي، وانبروا يهدمون القواعد والأطر القديمة حاملين لواء التجديد الشامل دون أن يقطعوا مع التربية الثقافية والحضارية التي تغدوا بلبانها.
إن المواقف العروبية ليوسف الرويسي هي التي تشربها في بيئته الأولى ثم غذاها جامع الزيتونة والخلدونية، وترجمها هو منذ الثلاثينيات من القرن الماضي في تضامنه مع الشعب الفلسطيني وتفاعله مع آلامة العربية، وفيما بعد، في تحمسه للثورة الجزائرية التي اشتعلت شراراتها في غرة نوفمبر 1954، وعندما كان في برلين لم يشأ أن يكون ناطقاً باسم الدستور الجديد ولا حتى باسم تونس وإنما أسس بالتظافر مع عدد آخر من الوطنيين مكتباً للمغرب العربي هناك، وتم إصدار جريدة عنوانها المغرب العربي حيث استعملت كلمة العربي لأول مرة. وفي دمشق لم يكن ممثلاً لتونس فحسب وإنما للمغرب العربي برمته، ذلك أنه كان يؤمن بضيق ومحدودية الموقف القطري ورسخت عنده تلك القناعة.
إقامته بالمشرق العربي والتي بلغت تسعة عشر سنة وربط خلالها علاقات متينة ومتنوعة مع النخب السياسية والفكرية والثقافية في الفضاء المشرقي برمته. كما أن حاجز اللغة لم يمنعه من جهة أخرى من أن يرتبط بعلاقات صداقة مع بعض الشخصيات السياسية الفرنسية المناصرة لحركات التحررالوطني، ومن بينها فيليسيان شالاي رئيس رابطة حقوق الإنسان الفرنسية، والذي كان الرويسي يمده بتقارير عن الظلم الاستعماري بتونس، وهذا مما يدل على سعة اتصالاته الدولية وامتداد تحركاته لصالح القضية الوطنية قبل أن يلتحق بالخارج في الأربعينيات، ويكون من أهم الناطقين الفاعلين باسم الحركة الوطنية في المشرق العربي.
يقول التميمي في هذا الصدد: "ليس لنا إلا أن نؤكد أنه قد حان الوقت الآن لتعديل ما ران من قراءة غير موضوعية لأحداث تاريخنا المعاصر. ذلك أن الكتابة التاريخية تطمح إلى الموضوعية والنزاهة وهو ما صبونا إليه منذ أسسنا المجلة التاريخية المغاربية وحيث كانت في ظل عهد الرئيس الحبيب بورقيبة، قد احتضنت أقلام أهم المؤرخين على اختلاف مشاربهم وتوجهاتهم الفكرية والإيديولوجية. بل إن مجلتنا احترمت وحافظت ومازالت على استقلالها الفكري والمنهجي والعلمي، خدمة للمعرفة والحقيقة التاريخية والتي وجب أن تكون فوق كل الاعتبارات، نظراً إلى أننا أمناء على المعرفة المغذية والفاعلة والباقية. وإننا من هذا المنطلق، قد خدمنا الحركة الوطنية التونسية والمغاربية بصفة عامة بفضل نشرنا مئات الدراسات وآلاف الوثائق الجديدة من عدة مصادرمحلية وأجنبية" (ص 12).
وانطلاقاً من بيئته الأولى بالجنوب، تعلم يوسف الرويسي الاعتزاز بالنفس والاتكال عليها وحدها، والحرص على تغذيتها بالقيم الفاضلة وخصوصاً منها تلك التي تستمد أصالتها من التاريخ العربي-الإسلامي، واستشفاف الدروس من بطولاته وزعمائه الذين صنعوا التاريخ العربي-الإسلامي بإيمانهم وجودهم وتضحياتهم وعلمهم. ومنذ صغره كان يوسف الرويسي، طلعة، لا ينفك يلتهم الكتب وعلى الخصوص منها التاريخية، قراءة وتمحيصاً ودرساً. وهذا إلى درجة أنه اشترى وحده، كما ذكر ذلك في مذكراته، ثلاثة أرباع مكتبة النوري بتونس. وبالزيتونة تعلم أولى دروس "الثورة" على التقاليد والطرقية والزوايا، التي كانت التركيبة الاجتماعية تدافع عنها وتحميها. وأدرك تماماً أن الجدل يعتبر الآفة التي تفتك بالمجتمع وتجعله فريسة الظلم الذي فرضه النظام العسكري بالجنوب وتشدده.
يتبع..
في الوصايا العشر ودورها في التقريب بين الأديان السماوية
عن السياسة والسلطة في الإسلام.. قراءة معاصرة
الهجرة من جنوب الصحراء إلى تونس والجزائر.. أرقام ودلالات