لا يمر النظام
المصري بمعضلة سياسية أو اقتصادية فقط، بل بمعضلة
إعلامية أيضا رغم هيمنته على المجال الإعلامي بشكل تام، سواء عبر ملكية غالبية
المنابر الإعلامية من قنوات وصحف ومواقع، أو عبر التوجيه المباشر والسياسات
القمعية، ومع ذلك لا يكاد يمر شهر أو حتى أسبوع دون شكوى من فشل الإعلام في مواجهة
الحملات المضادة للنظام رغم كل ما ينفق عليه من أموال، وما تقدم له من تسهيلات.
الزفة الكبيرة التي تشهدها القاهرة حاليا بمناسبة قرب
انطلاق قناة
تلفزيونية جديدة (قناة القاهرة الإخبارية) هي في باطنها جزء من هذا
الشعور بالأزمة، حيث ينظر إلى هذه القناة الجديدة باعتبارها المنقذ، وأنها ستكون عصا
موسى التي تلقف كل القنوات، وسلاح النظام في مواجهة كل المؤامرات..
من
المفترض أن تنطلق القناة الجديدة خلال أيام قليلة بالتزامن مع
القمة العالمية
للمناخ التي تستضيفها مصر في شرم الشيخ (6-18 تشرين الثاني/ نوفمبر)، والتي يراهن
النظام المصري على جني ثمار سياسية واقتصادية من ورائها تساعده في مواجهة أزماته
السياسية والاقتصادية. وجاء ارتباط موعد افتتاح القناة مع بدء القمة لمنحها فرصة
انطلاق قوية وعالمية، ولتحقق أحد أحلام رأس النظام عبد الفتاح السيسي بامتلاك أذرع
إعلامية قوية محلية وإقليمية ودولية كما هو حادث في دول أخرى، وكما حدث لمصر
الستينات التي امتلكت صوت العرب والتلفزيون العربي والأهرام والأخبار، وأم كلثوم
وعبد الحليم وعبد الوهاب.. إلخ.
الزفة الكبيرة التي تشهدها القاهرة حاليا بمناسبة قرب انطلاق قناة تلفزيونية جديدة (قناة القاهرة الإخبارية) هي في باطنها جزء من هذا الشعور بالأزمة، حيث ينظر إلى هذه القناة الجديدة باعتبارها المنقذ، وأنها ستكون عصا موسى التي تلقف كل القنوات، وسلاح النظام في مواجهة كل المؤامرات
من
الواضح أن ضخا ماليا قويا أنفق على القناة الجديدة في ظل أوضاع اقتصادية صعبة تمر
بها مصر، وفي ظل تفاقم أزمة الديون الخارجية، والداخلية، لكن هذه التمويلات الضخمة
ليست مصرية، بل هي سعودية بالأساس، وقد جرت جولات من الحوارات والمفاوضات بشأنها
خلال الفترة الماضية حتى انتهت إلى صيغة مقبولة من الطرفين المصري والسعودي، بحيث
تكون القناة شكلا وظاهرا قناة مصرية، تبث من الأراضي المصرية وبأطقم إعلامية مصرية
في غالبها، ولكنها تكون باطنا قناة سعودية، على أن يكون هناك تنسيق مشترك لوضع
سياسات القناة التي لن يكون فيها مشكلة في الوقت الحالي بحكم التوافق الكبير بين
السياستين المصرية والسعودية، وإن لم يكن الأمر مضمون مستقبلا.
وكما
أن لمصر مصلحة في إطلاق هذه القناة لامتلاك قوة إعلامية إقليمية قادرة على التعبير
عن النظام القائم، وصد الحملات التي يتعرض لها، ومواجهة قنوات إقليمية وعالمية
ناطقة بالعربية على رأسها شبكة الجزيرة بطبيعة الحال، فإن للسعودية مصلحة أيضا في
وجود قوة إعلامية داعمة لسياساتها ولاستثماراتها الضخمة الحالية والمستقبلية في
مصر، والتي لا يكفيها الفرع المصري لمجموعة إم بي سي.
حلم
امتلاك أذرع إعلامية قوية وقادرة على تسويق سياسات النظام محليا وعالميا هو حلم
قديم لدى السيسي، عبّر عنه عقب الانقلاب مباشرة حين كان وزيرا للدفاع، حيث تحدث عن
ضرورة صناعة أذرع إعلامية داعمة. كان السيسي مدركا للدور الذي قام به الإعلام
الخاص تمهيدا لثورة يناير، وكذا الدور الذي لعبه ضد الرئيس المدني المنتخب بعدها،
الشهيد محمد مرسي، تمهيدا للانقلاب عليه، وكان يخشى تكرار الأمر معه، ما دفعه
للتفكير سريعا في ضبط الحالة الإعلامية على مقاسه، وصناعة أذرعه الإعلامية الخاصة
القادرة على تسويقه وصد خصومه.
كما أن لمصر مصلحة في إطلاق هذه القناة لامتلاك قوة إعلامية إقليمية قادرة على التعبير عن النظام القائم، وصد الحملات التي يتعرض لها، ومواجهة قنوات إقليمية وعالمية ناطقة بالعربية على رأسها شبكة الجزيرة بطبيعة الحال، فإن للسعودية مصلحة أيضا في وجود قوة إعلامية داعمة لسياساتها ولاستثماراتها الضخمة الحالية والمستقبلية في مصر
من
هنا تمت عملية السيطرة على القنوات والصحف والمواقع الخاصة تباعا، وإجبار أصحابها
على التخلي عنها لصالح السلطة.
ومن
هنا جرى تأسيس شركة إعلامية تابعة للمخابرات ابتداء "دي ميديا" بتكلفة
تجاوزت المليار جنيه قبل التعويم، بهدف إطلاق عشر قنوات تحت علامة دي إم سي (DMC)،
كان يفترض أن تكون إحداها قناة إخبارية تنافس الجزيرة، لكنها لم تظهر.
ومن
هنا جرى تأسيس شركة قابضة للإعلام تابعة للمخابرات المصرية أيضا (المتحدة للإعلام)
ورثت عدة شركات إعلامية سابقة، بدءا من إعلام المصريين ودي ميديا وغيرهما. وقد
قامت الشركة الجديدة بوضع يدها على أكثر من 80 في المئة من القنوات والصحف
والمواقع الخاصة، كما أسست شركات إنتاج سينمائي وتلفزيوني، ودعاية وتسويق.. الخ،
لتصبح مالكة لإمبراطورية إعلامية تضاهي إمبراطورية ماسبيرو الحكومية، وليصح وصفها
بماسبيرو الجديد أو ماسبيرو 2.
نجح
النظام المصري في ضبط وترويض الأداء الإعلامي بعد سيطرته على غالبية القنوات
والصحف، لكنه فشل في تقديم تجربة ناجحة، إذ تدنت المشاهدة لقنواته والقراءة لصحفه
إلى أدنى مستوى. لقد انصرف عنها المصريون إلى قنوات المعارضة التي تبث من الخارج،
مثل الشرق ومكملين ووطن، والقنوات العربية المهتمة بالشأن المصري وعلى رأسها
الجزيرة، وبي بي سي، وفرانس 24 وغيرها. وقد ظهر تفوق قنوات المعارضة في تقارير
لشركة الأبحاث المعروفة إبسوس، التي أجبرت على حذف تلك التقارير حتى يُسمح لها
بالبقاء في السوق المصري.
رغم هذه السيطرة الواسعة على الإعلام إلا أن السيسي واصل شكواه من الفشل في تسويق ما يعتبره إنجازات ومشروعات كبرى، وخطط طموحة، وفي كل مرة يجتهد النظام لتحسين منظومته فتارة يعيد الوجوه القديمة التي حاول الاستغناء عنها بهدف صنع وجوه جديدة، وتارة ينفق بسخاء على برامج ترفيهية، وتارة ينفق على تطوير الاستوديوهات والديكورات، لكنه أبدا لم يضع يده على المشكلة الحقيقية وهي حرمان هذا الإعلام من الحرية
رغم
هذه السيطرة الواسعة على الإعلام إلا أن السيسي واصل شكواه من الفشل في تسويق ما
يعتبره إنجازات ومشروعات كبرى، وخطط طموحة، وفي كل مرة يجتهد النظام لتحسين
منظومته فتارة يعيد الوجوه القديمة التي حاول الاستغناء عنها بهدف صنع وجوه جديدة،
وتارة ينفق بسخاء على برامج ترفيهية، وتارة ينفق على تطوير الاستوديوهات
والديكورات، لكنه أبدا لم يضع يده على المشكلة الحقيقية وهي حرمان هذا الإعلام من
الحرية التي هي إكسير الحياة بالنسبة له، فبدون حرية لا مجال للمنافسة، وبدون حرية
لا مجال للمشاهدة، وبدون حرية لا مجال لنقل الحقيقة التي يبحث الشعب عنها، والتي
وفرت له الاتصالات الحديثة سهولة الوصول إليها بعيدا عن إعلام مقموع وفاقد
للمصداقية.
الآن
يبدأ النظام المصري تجربة جديدة، بتمويلات ضخمة، ووجوه إعلامية متمرسة، ولكن بنفس
السياسات القديمة، وبدون هامش حرية، ومع ذلك ينتظر نتائج مختلفة، فأنى له ذلك؟! لن
تفيد استوديوهات فخمة تكلفت مئات الملايين، ولا شبكة مراسلين تغطي كل عواصم العالم،
ولا أسماء كبرى لمذيعين أو معدين، او مديرين، ولا ابتعاث وفود لنقل تجارب أمريكية
أو أوروبية، كل ذلك لن يجدي نفعا، ولن يجذب المشاهدين إلى القناة الجديدة طالما
ستفتقد للحرية التي هي وصفة النجاح الوحيدة.. وكل ما يتم الآن هو مجرد كحل لمداراة
عين سقيمة، وقديما قالوا "إيش يعمل الكحل في العمشة؟!".
twitter.com/kotbelaraby