كتاب عربي 21

من ينقذني من الموت؟

1300x600

لا يحسن بالكاتب أن يخلط الخاص بالعام، لكنني للمرة الثانية أجد نفسي مدفوعا إلى هذا الخَلْط؛ فبينما كانت المرة الأولى، تمثّل عرفانا وامتنانا لمن وقف معي في محنة مرض ابنتي، فهذه المرة يختلط الخاص بالعام أيَّما اختلاط، حتى لا يكاد أحدهما ينفك عن الآخر.

عندما كتبت في المرة الأولى مقال عطايا البلاء، كانت صغيرتي لا تزال في المستشفى، ولم يكن الأطباء قد نجحوا في تشخيصها بعدُ، وبعد قرابة شهر من احتجازها في الرعاية المُركَّزَة، جاءتنا الصدمة أنها مولودة دون أن يكتمل انضغاط خلايا وأنسجة قلبها (Non - Compaction)، ولا علاج لهذه الحالة سوى محاولات إبقاء حالة القلب مستقرة، عبر تناول أدوية تحافظ على نشاط عضلة القلب، وأخرى تخفّف عبء نشاط حركتها كأدوية الضغط ومُدِرَّات البول، فضلا عن دواء سيولة الدم؛ لئلا يتخثر في فراغات قلبها وتُصاب بجلطة لا قدَّر الله.

بعد خروجها، أخبرنا الأطباء الذين يتابعون حالتها، أنها في حالة متوسطة من المرض، فلا هي حالة بسيطة لا تستدعي تناول الأدوية المذكورة، ولا هي حالة متأخرة تستدعي البقاء مددا طويلة في المستشفيات، وهي علامة تأخر المرض واحتياجها إلى عملية زراعة قلب، وهي عملية لا يتم إجراؤها في البلد الذي أقيم فيه، والدول التي تجريها تعطي الأولوية دائما لمواطنيها والمقيمين على أرضها، ولا تقبل إجراءها لمن هم خارج البلاد؛ فالمرضى عددهم يتجاوز المتبرعين أصلا.

أصبحت إصابة جميلتي بنزلة البرد تهدِّد حياتها إذا لم ننتبه لاحتياجاتها الطبية، فنزلة البرد تعني ارتفاع درجة حرارة الجسد، ما يعني زيادة غير محمودة في ضربات القلب، وتسارُعَ نفَسِها بصورة مزعجة، وهي الأمور التي تزيد من إجهاد العضلة الضعيفة أصلا، فكان صوت سعالها في أي وقت بمنزلة همٍّ فائق؛ لأن السعال يعني بداية مرض سيؤدي إلى توترنا لأيام، وفي كل مرة يبذل طبيبُها الودود جهدَه لنَمُرَّ من الأزمة بسلام.

ذهبنا إلى المتابعة الدوريَّة مع طبيبها، يوم السادس من تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري، وفي أثناء الفحص بدا في عينيه القلق، وهو أمر لا يستطيع مداراته لتعلُّقه بهذه الجميلة، ثم أخبرني أن وظيفة العضلة تدهورت بصورة ملحوظة عن آخر فحص، رغم انتظام أمها في إعطائها العلاج، ولا بد أن تبقى تحت الملاحظة، وبعد أيام قليلة، خرجت على أن تعود للفحص بعد ثلاثة أيام فقط.

عُدنا للفحص، وتكررت نظرة القلق التي أكرهها، وإن كانت متضمنة المحبة من طبيبها، أخبرني حينها أن حالة العضلة اليمنى ساءت أيضا، وهذا يؤدي بالضرورة إلى تضخم الكبد، وبدء الاستسقاء في الجسم، وكان ذلك تمهيدا ليخبرني أنها أصبحت في حالة لا علاج لها سوى زراعة قلب بديل.

لا أعرف كيف مرت الليلة ولا كيف نمت، ولم أخبر أحدا بما قاله الطبيب سوى في اليوم التالي، وكنت قد أجريت حينها اتصالات بعدد من الأصدقاء الموجودين في دول أوروبية، وبدأت أتقصى الأماكن التي تقوم بعملية زراعة القلب، فوجدتها أجريت في بلاد عربية أيضا، وبعد اتصالات عديدة بدأت الردود تأتي، ولكنها دون استثناء ردود سلبية، فالأولوية للمقيمين على أرض الدولة التي تُجري العملية.

كنتُ قبل دخول روحي إلى المستشفى هذه الأيام، أنظر إليها وأخشى على غَدِها من قسوة الأيام، كنت أخشى من انكسار قلبها عندما ترى أقرانها يحبون ويتزوجون، بينما ستعاني هي من عدم وجود شخص يمكن أن يتزوجها بسبب وضعها الصحي، وإذا وجدت ذلك الرجل فسيجد معارضة من أهله، وإذا تخطت ذلك فربما يكسرها لأنه يريد أطفالا، والإنجاب خطر على حياتها، كنت أخشى من تمزق قلبها مع كل صدمة في حياتها، لكنني الآن لم أعد آبه إلا لبقائها بيننا، وليأتِ المستقبل بالتطور العلمي وتُشفى بإذن الله.

كنت أخشى من المستقبل دون أن أنسى قدرة الله على رفع كل ذلك، لكن الإيمان لا يتعارض مع الحزن والخوف والقلق، أو على الأقل هذا قدر إيماني الذي خالطته الذنوب، فأنا مؤمن بالقضاء وراضٍ بما يقضيه صاحب الأمر، ولكن فؤادي ينخلع من مجرد مبيتها في فراش غير فراشي.

اليوم، أنا أب عاجز أمام ابنته التي ترقد أمامه وهو يكتب عنها، أستجدي كل قارئ لهذه الكلمات أن ينتشلها من محنتها، أولا بالدعاء لأن يشفيَها مَن يقولُ للشيء كن فيكون، وثانيا بأن يساعدني على السفر إلى دولة تتم فيها عمليات زراعة القلب للأطفال، وننتظر الدور المكتوب لها وآمل ألا يكون بعيدا.

 

هذه صرخة أمام كل الأطباء الباحثين، أن يوجهوا جزءا من دراستهم إلى هذه الحالة المرضية (Non - Compaction)، فقد أخبرني طبيب أن البحوث الخاصة بهذا المرض قليلة لأنه غير منتشر. ومع عدم انتشاره فهو يحصد الأرواح، ومهما كان العدد قليلا، فهناك أرواح تُنتَزَع في دائرة كل مريض بهذا المرض.

وهناك صرخة أخرى لتعزيز البحوث في عمليات زراعة القلب الصناعي وتطويره، ليصبح أقل وزنا وحجما، سواء داخل الجسم أو الآلات الخارجية الداعمة، وصرخة ثالثة لتعزيز البحوث حول إمكانية نقل القلب من كائنات حية أخرى إلى البشر لتخفيف أعداد الانتظار، وصرخة رابعة لنقل الخبرات العملية للدول كافة، حتى يمكن إجراء هذه الجراحة في أكبر عدد من الدول، وأرجو أن تبلغ هذه الصرخاتُ الآذانَ بأكبر عدد من اللغات، عسى أن تتجاوز البشرية خطورة هذا المرض، وعسى أن تجري مؤتمرات دولية وأيام خاصة للتعريف بهذا المرض وخطورته، وزيادة المخصصات البحثية له ولغيره من الأمراض النادرة، التي لا يحدث اهتمام بحثي كافٍ لها.

sharifayman@protonmail.com