بدعوة سابقة من الرئيس السابق الباجي قائد السبسي رحمه الله، انعقدت بجزيرة
جربة التونسية يومي 19 و20 من كانون الأول/ ديسمبر الجاري؛ الدورة الثامنة عشرة للقمة الفرنكفونية بحضور أكثر من ثلاثين رئيس دولة وحكومة من الدول الأعضاء في
منتدى الفرنكفونية.
القمة انعقدت في أجواء سياسية متوترة؛ بسبب انقلاب قيس سعيد وممارساته ضد
الهيئات الدستورية والمنظمات والأحزاب، وعديد الشخصيات الوطنية والإعلاميين.
جبهة الخلاص الوطني، وهي أكبر مكون سياسي معارض لسلطة الانقلاب، عبرت في
ندوة صحفية يوم افتتاح القمة عن ترحيبها بوجود تونس ضمن هذا الفضاء الفرنكفوني؛ لكوننا ننتمي إلى ثقافة منفتحة ومتعاونة من أجل قيم العدالة والحرية. كما عبرت عن
أسفها لكون القمة تنعقد في ظل ظروف غير طبيعية، وتحت إشراف سلطة غير شرعية، ودعت
المشاركين عند صياغة بيانهم الختامي إلى دعم العودة إلى المسار الديمقراطي، والتوقف
عن محاكمة السياسيين والنخبة المعارضة للانقلاب.
ما يعترض عليه أغلب التونسيين، هو محاولة إرساء علاقة تبعية لـ"الآخر"، تبدأ بالتبعية اللغوية لتمتد إلى التبعية الثقافية والحضارية، خاصة في ظل تبعية اقتصادية، وحاجة متأكدة إلى الدعم الخارجي في أدنى متطلبات العيش والأمن والصحة
قمة الفرنكفونية انعقدت والشعب التونسي واقع تحت ضغط نفسي بسبب الأزمة
الاجتماعية، أيضا بسبب سوء تعامل السلطة مع
الاحتجاجات السلمية، حيث تعرض أهالي
غرقى الهجرة السرية إلى ردة فعل أمنية عنيفة، حين أرادوا التوجه سيرا على الأقدام
من مدينة جرجيس إلى مدينة جربة، حيث تنعقد القمة.
التونسيون منفتحون أكثر من غيرهم على الثقافات والحضارات الأخرى، ولا
يعترضون على التبادل في مجال الإبداع والثقافة والفنون واللغات مع أي دولة،
فحضارتنا الإسلامية التي ننتمي إليها هي حضارة منفتحة ولها قدرة على استيعاب وهضم
إنتاجات الأمم الأخرى في كل المجالات.
ما يعترض عليه أغلب التونسيين هو محاولة إرساء علاقة تبعية لـ"الآخر"،
تبدأ بالتبعية اللغوية لتمتد إلى التبعية الثقافية والحضارية، خاصة في ظل تبعية
اقتصادية، وحاجة متأكدة إلى الدعم الخارجي في أدنى متطلبات العيش والأمن والصحة.
النخبة التي وقع تهميشها كليا أو جزئيا في سنوات
الاستبداد، وأُكرهت على
الصمت أو على خفض الصوت أو على أداء دور غير ثقافي في أحيان كثيرة، ربما نجد لها
بعض عذر ونعدّها بعضا من ضحايا الاستبداد. أما اليوم، وقد انقشعت كوابيس الخوف من
على رؤوس الناس، واتسعت سماء الوطن لكل الطيور، فلم يعد ثمة عذر لأي كان حين يختار
الصمت عن الحق، أو الانضمام إلى مجالس سوء تمارس هواية مرَضيّة في جلد طرف أو
أطراف، وفي التحريض على لعبة "المتفجرات" الهوياتية والعقدية وسط الزحام
الشعبي.
حين تتذكر النخبة أوجاع الماضي، عليها أن تستجمع عزائمها من أجل المستقبل كي لا يتكرر الاستبداد الذي بدأ قيس سعيد يقيم أركانه ويتقدم حثيثا نحو إرسائه، وكي لا تُذل النخبة مرة أخرى وكي لا تلوث فضاءاتنا الثقافية والمعرفية مرة أخرى
هروب الرئيس السابق يوم 14 كانون الثاني/ يناير 2011، مثّل صدمة في الساحة
التونسية وباغت الجميع، بحيث لم يكن ثمة بديل جاهز لسد الفراغ، ولم تكن ثمة تقاليد
ديمقراطية ولا دُربة على التحاور والتشاور أو على الاستماع للآخرين، ولم يكن ثمة
ما يكفي من القيم لضمان تحول هادئ عميق ولطيف. أعتقد أن أبشع ما عرفته البلاد
سابقا، ليس سرقة ثروات الشعب أو حتى تضييق مساحة الحرية، وإنما تلويث "المائدة
الأخلاقية" وتسميم دماء السياسة والثقافة والأفكار، بل وحتى الأفهام الدينية.
يُدرك أي مستبد أنه لا يستطيع أن يبسط نفوذه على شعب، إلا متى أفلح في تقطيع
وشائجه وتلويث أخلاقه وإرخاء أعصابه وإفراغه من روحانيته ومعانيه، يُدرك أن
"النخبة" دائما تمثل منارات وأعمدة وعلامات وفوانيس، لذلك يحرص على كسر
قاماتها وطحن نوياتها وتشويه نقاوتها بأساليب تراوح بين التطويع والتطميع. يقول
الكواكبي: "والمستبد كما يكره العلم لنتائجه يكرهه لذاته، وهو لا يُحب أن يرى
وجه عالم ذكي، وكلما رأى عالما احتقر نفسه، وإذا ما احتاج لمثل الطبيب أو المهندس، يختار المُتصاغر المتملق". لقد شهدت البلاد في ظل الاستبداد حالة من
"الفاجعة الثقافية".
حين تتذكر النخبة أوجاع الماضي، عليها أن تستجمع عزائمها من أجل المستقبل؛ كي
لا يتكرر الاستبداد الذي بدأ
قيس سعيد يقيم أركانه، ويتقدم حثيثا نحو إرسائه، وكي
لا تُذل النخبة مرة أخرى وكي لا تلوث فضاءاتنا الثقافية والمعرفية مرة أخرى.
إن السياسة حين تخرج عن كونها فنّا وحين تصبح مغالبة ومحاصصة وغنائمية، تظل
مصدر تهديد للقيم وللأفكار، ولسلامة العلاقات الاجتماعية والعمران البشري، وهنا
تتأكد عظمة دور النخبة في "مرافقة" العملية السياسية التي أرادت منذ
2011 أن تكون نموذجا ديمقراطيا سيقيس عليه جيراننا وأشقاؤنا وشركاؤنا في
مصائب الاستبداد.
اليوم وتونس تتهددها ممارسات ترقى إلى مستوى "الجريمة" بكل أركانها، من تحريض وتيئيس وتهييج وتمييع وتشويه وتعجيز وتضليل من قِبل أطراف مُتخفية أو متبدّية، فإنه من المسؤولية الوطنية ومن الواجب الأخلاقي، بل ومن الشهامة والرجولة الصّدعُ بمواقفنا الشجاعة؛ لا دفاعا عن طرف ولا استهدافا لآخر، وإنما دفاعا عن حظوظ تونس في تجربة ديمقراطية ما زلنا نتدرب عليها
يُعول على نخبتنا في تنقية القاموس السياسي من المفردات المستجمعة من أدران
الحقد والأنانية والنرجسية والعصبية ومن أمراض نفسية شتى. يُعوّل عليها في لحظات
"الحسم" حين تختلط السبل وتتلبس الأمور على العامة وتتداخل الأصوات
والألوان والشعارات، فيتيه الوطن وتتلاشى ملامحه بين أدعياء وزعماء. يُعوّل عليهم
في قول ما يجب وكما يجب، لا يُجارون أحدا ولا جمعا، فللوطن عُنوانٌ واحد أكبر من
الأحزاب ومن الأيديولوجيات وأكبر من الزعامات، وهو أرحب وأنقى من أن يكون ساحة
لعراك سياسي وتوزيع كراسي أو لولاءات ومحاور خارجية.
اليوم وتونس تتهددها ممارسات ترقى إلى مستوى "الجريمة" بكل
أركانها من تحريض وتيئيس وتهييج وتمييع وتشويه وتعجيز وتضليل من قِبل أطراف
مُتخفية أو متبدّية، فإنه من المسؤولية الوطنية ومن الواجب الأخلاقي، بل ومن
الشهامة والرجولة الصّدعُ بمواقفنا الشجاعة؛ لا دفاعا عن طرف ولا استهدافا لآخر، وإنما دفاعا عن حظوظ تونس في تجربة ديمقراطية ما زلنا نتدرب عليها، وفي مستقبل
أرقى وأنقى، نريده أن يكون بجهد وإرادة التونسيين جميعا مختلفين ومؤتلفين.
تتحمل النخبة مسؤولية تاريخية في تدارك الأمر، فالمسألة جدّية وتتجاوز كونها
مجرد مشهد لتنافس سياسي، إنها معركة معان ومفاهيم وقيم، وهي معركة سيادة وطنية
ومعركة انتماء حضاري، وليس أقدر على خوضها من "النخبة".. وكم ستكون
مهزومة إذا ما تخلت عن دورها!
twitter.com/bahriarfaoui1