عندما قرأت خبر بيع ياسمين وفريدة محمد فريد خميس؛
حصتهما في شركة "النساجون الشرقيون"، شعرت ببعض الألم، أن يجري التفريط
في هذا الصرح الكبير، قبل أن أكتشف أن البيع كان للنفس، وأنه لصالح شركة أجنبية
مملوكة للأختين، (قرأت أن لندن هي بلد المنشأ)، فلم أندهش لهذا التصرف، في بلد
يكاد الإجماع فيه أن يكون منعقداً على أنه يسير إلى المجهول، فما ضر
ياسمين وفريدة خميس أن انتابهما ما
ينتاب كل المصريين، بمن فيهم من يدورون في فلك الحكم وجوداً وعدما!
كان هذا الخبر في وقت احتفى فيه إعلام المولاة في
مصر
(لا وجود لإعلام معارض أو مستقل) بما أذاعته هيئة رسمية عن فضائل
أرجل الدجاج، فالفقر
المدقع دفع المصريين لأكله، بديلاً عن الدجاج الذي ارتفع ثمنه. وكانت
"الأرجل" قبل هذا العهد التليد فضلات ترمى في صناديق القمامة، ويقدم
عليها أحياناً أفقر الناس، فيذهبون إلى البائع خلسة ويشترونها في الخفاء، ويحرصون
على أن توضع في أكياس سوداء، خشية أن يراها أحد فيقف على مستواهم الاجتماعي!
الاستثناء صار قاعدة، وهيئة رسمية تفتي بالقيمة الغذائية لـ"أرجل الدجاج" والإعلام يروج ويحتفي، عبر شاشات يلصقون في أعلاها ومنذ أكثر من عامين عبارة "الجمهورية الجديدة"، التي لم ينجحوا في تقديم منجزاتها، إلا في شيوع الفقر، وفي اعتماد سياسة الديون
بيد أن الاستثناء صار قاعدة، وهيئة رسمية تفتي بالقيمة
الغذائية لـ"أرجل الدجاج" والإعلام يروج ويحتفي، عبر شاشات يلصقون في أعلاها
ومنذ أكثر من عامين عبارة "الجمهورية الجديدة"، التي لم ينجحوا في تقديم
منجزاتها، إلا في شيوع الفقر، وفي اعتماد سياسة الديون، إلى درجة أن "الحاكم
الضرورة" يعتبر أن قبول الدول، أو صندوق النقد الدولي، إقراضه إنجازاً من
الإنجازات المهمة، التي يجدر به أن يعتبرها عنواناً لجمهوريته الجديدة التي بدت
أنها بلا شعار (لوجو)، فاستحق أن يكون شعارها، بل وشعار المرحلة، هو "أرجل
الدجاج" بعد اكتشاف قيمتها الغذائية الخارقة، وبعد أن صارت طعام المصريين
بدون خجل أو وجل. وقد تفنن نشطاء منصات التواصل في التعامل معها، فقام البعض بطلاء
أظافرها، وغير ذلك، فلا تحتاج سوى إلى رسام كاريكاتير بأقل إبداع منه لتكون لائقة
بالجمهورية الجديدة!
الحقد الطبقي:
فلما أقبل الليل، وجد رواد "فيسبوك" ما يشغلهم
عن موضوع "أرجل الدجاج"، تمثل في هذا الإعلان الذي نشرته بعض المواقع عن
قيام واحدة من بنات رجل الأعمال الراحل محمد فريد خميس، ببيع حصتها بمبلغ مليار
ونصف المليار جنيه لشركة "FYK
LIMITED"، ثم تبين أن ما تم بيعه
هو حصتا ياسمين وفريدة فريد خميس معا، وأن الشركة التي آلت إليها
الحصة مملوكة لهما، ولأن آفة المجتمعات التي تعاني من الظلم أن يمسك الناس في خناق
بعضهم، وهو ما يسهّل من مهمة الحاكم المستبد، فقد اندفع كثيرون يهاجمون التصرف،
ويسخرون منه، ويرونه خيانة للوطن. والحاصل في مصر من شأنه أن يزيد من الحقد بين
الطبقات، لكن كان يمكن تفهم الموقف والتماس العذر لو قام أحد مستوري الحال بتهريب
مدخراته للخارج!
آفة المجتمعات التي تعاني من الظلم أن يمسك الناس في خناق بعضهم، وهو ما يسهّل من مهمة الحاكم المستبد، فقد اندفع كثيرون يهاجمون التصرف، ويسخرون منه، ويرونه خيانة للوطن. والحاصل في مصر من شأنه أن يزيد من الحقد بين الطبقات، لكن كان يمكن تفهم الموقف والتماس العذر لو قام أحد مستوري الحال بتهريب مدخراته للخارج!
ليس عندي دفاع عن الأختين ياسمين وفريدة خميس، فليس لي صلة بهما من قريب أو من بعيد، والمعلوم لنا في حدود
الصورة العامة هو الوالد رجل الأعمال محمد فريد خميس، ولا أذكر أني التقيته وجهاً
لوجه، وقد كان مقرباً من أهل الحكم في زمن مبارك، وعضواً في مجلس الشورى لعدة
دورات. وهو يمثل عنواناً لتحول
رجال الأعمال في العمل بالسياسة، فقد كانوا يبتعدون
عن السياسة وأهلها، وقد يقفون بالدعم خلف مرشح ما في دوائرهم، هو غالباً من
المرشحين التقليديين، فيساعدونه مقابل قضاء مصالحهم بعد الفوز. ولم تكن تجربة خوض
رجال الأعمال غمار السياسة بشكل مباشر جيدة بالنسبة لهم، فرشاد عثمان انتقل من شخص
يوصيه السادات بمحافظة الإسكندرية إلى مصادرة أمواله وسجنه بتهمة
الفساد!
بداية الانغماس في السياسة:
لكن الذي حدث في العشرية الثانية من عهد مبارك أن بدأ
رجال الأعمال في التسرب للمشهد السياسي، على قاعدة بيدي لا بيد عمرو، وكان النظام
يحتفي بهم بشكل شخصي. وفي العشرية الأخيرة خاض محمد أبو العينين صاحب
"سيراميكا كيلوباترا" انتخابات مجلس الشعب مرشحاً عن الحزب الوطني، كما
انضم محمد كامل إلى الحزب الوطني (لجنة السياسات)، وغيرهما، وإن ظل كثير منهم بعيدين
عن السياسة من باب ابعد عن الشر وغني له، مثل حسن راتب وأحمد بهجت، ممن رأوا السند
في الإعلام، وكانت أمامهم تجربة غير مبشرة هي الخاصة برجل الأعمال رامي لكح الذي
كان مقرباً من مبارك، فبعد أن ناصره سدنة المعبد ضد أحكام القضاء وضد مرشح الحزب
الوطني عن الدائرة الوزير السابق عبد الأحد جمال الدين، أسقطوا عضويته ليغادر
البلاد هارباً ولا يعود إلا في السنة الأخيرة في حكم مبارك، وكم كان مضحكاً وهو
يناديني بصوت جهير في شارع طلعت حرب على بعد خطوات من ميدان التحرير "هل هان
عليك مبارك؟". وعموماً فأزمته كانت كنيسية بعد تحالف الكنيسة الأرثوذكسية ضده
وقام بالمهمة وزير المالية يوسف بطرس غالي، ولكون رامي كاثوليكياً، ولأسباب أخرى
ليست موضوعنا ويطول شرحها!
كان نظام مبارك أخذ بسياسة تشجيع القطاع الخاص، حتى أفسد
من لم تكن بغيته الفساد، فقد كان أحمد بهجت مشروع عالم، قبل أن يجد الأبواب مفتوحة
له ليشتري متر الأرض بجنيه، ثم تعيد البنوك تقييمه بمئات الجنيهات لتمنحه قروضا
بالملايين يقيم عليها إنشاءاته، مدينة للألعاب وأخرى سكنية، ثم تعثّر ولم يسدد حتى
وفاته. وأذكر أنه إبان عهد مبارك مرض مرضاً شديداً فاحتشدت البنوك والسلطة لبث
الطمأنينة في قلوب المصريين، بأخباره الصحية يوماً بيوم، وكلها تبشر بأنه لن يموت
الآن، لإدراك الجميع أن موته سيحول هذه الملايين إلى ديون معدومة، ويكشف
فساداً مطاعاً، ولا تساوي الأرض وما بني عليها شيئاً مذكوراً أمام هذه المديونية!
ميوله الناصرية:
ولم يكن محمد فريد خميس شخصية باهتة في السياسة بل كانت
له ميول ناصرية، علمت بها بعد التعثر المالي لجريدة الحزب الناصري، ونقل الأمر
لعضو في مجلس الشورى، فتحدث هاتفياً مع فريد خميس لمنح الجريدة إعلاناً لشركته
"النساجون الشرقيون"، ووافق الرجل على الفور، لكنه كان يجد نفسه في
الحزب الوطني، مقرباً من الرئيس ودوائر الحكم. وهو من رجال الأعمال العصاميين، ولم
يمارس الأعمال سريعة الربح، ولكنه عمل في مجال الصناعة، وكان يمكن لـ"النساجون
الشرقيون" لجودة المنتج أن تغزو العالم، لولا أن السوق المحلي يكفيه، ولا يجد
نفسه مطالباً بالتركيز بشكل كاف على التصدير!
وهذا النوع من العلاقة مع السلطة يضمن تذليل العقبات،
شريطة أن يلزم رجل الأعمال حدوده ولا يقترب من الحاكم كثيراً، ولا يظن أن العين يمكن
أن تعلو على الحاجب كما اعتقد حسام أبو الفتوح فدفع الثمن غالياً!
ليس عندي معلومات فيما يخص التجاوز في استغلال العلاقة
مع السلطة من جانب فريد خميس، فشيء من هذا لم يرشح للصحف، ولم يصل إلى صالات
التحرير فيها. وليس كل المقربين من دوائر النظام كانوا دائماً من الفاسدين، وقد
ترشح رجل الأعمال العصامي ورجل الخير الحاج محمود العربي، على قوائم الحزب الوطني،
وفاز لدورة ثم لم يجد نفسه في هذا الأمر فانغمس في تجارته وفي أعمال الخير!
والجيل الذي ينتمي له محمد فريد خميس (1940-2020) ليس
جيلاً نهماً لكل شيء كما هي الأجيال التالية، وبعض الوزراء كانوا شديدي النزاهة،
لكنهم في المقابل كانوا عبيداً للمنصب الرفيع. ويُدهش المرء عندما يُحال أحد
الوزراء للتقاعد بعد أقل من عشرين عاماً، فلا يملك مالاً يعالج به زوجته في
الخارج، لكن هذا الوزير نفسه وإن لم يكن فاسداً فقد كان مفسداً، ربما بدون قصد،
وأعرف من انتقلوا -بالقرب منه- من طبقة إلى طبقة، ومن كونه من أبناء الطبقة
الكادحة إلى أن يكون واحداً من الأثرياء!
الأختان "ياسمين" و"فريدة" محمد فريد خميس لم تقوما بالسطو على مال الدولة، أو الاستيلاء على مال الغير، فقد قامتا بمحاولة للحفاظ على مالهما، والنظام قدم بعض التسهيلات المعقولة للاستثمار الأجنبي في تحويل الأموال للخارج، فكانت هذه الشركة الأجنبية. وهو تصرف ليس مضمونا تماماً
وقد مات محمد فريد خميس، فليس مضموناً أن يظل هذا الصرح
الكبير "النساجون الشرقيون" بعيداً عن طمع سلطة تأخذ كل مال غصباً، وقد
رأوا رأس الذئب الطائر، حيث وضعت السلطة الغاشمة يدها على شركة "جهينة
للألبان"، وهي من
الشركات الصناعية القليلة التي يشار إليها بالبنان في مصر،
مثلها مثل "النساجون الشرقيون" و"سيراميكا كيلوباترا"، وقد وُضع
مؤسسها (جهينة للألبان) وابنه في السجن منذ سنوات، وعندما بدأت الزوجة تشكو ما جرى
للأب ولفلذة كبدها كان التهديد بوضعها في السجن أيضاً، لتموت كمداً، كما وضعت
السلطة يدها على "التوحيد والنور" وسجنت صاحبها!
إن الأختين ياسمين وفريدة خميس لم تقوما بالسطو على مال الدولة، أو الاستيلاء على مال الغير، فقد قامتا
بمحاولة للحفاظ على مالهما، والنظام قدم بعض التسهيلات المعقولة للاستثمار الأجنبي
في تحويل الأموال للخارج، فكانت هذه الشركة الأجنبية. وهو تصرف ليس مضمونا تماماً،
فالقوانين تلغى وإن لم تلغ تخالَف، لتبدو هذه الحملة التي يخوضها البعض ضد الأختين
بمثابة تمهيد للسلطة لتضع يدها على الشركة، فالناس إزاء تسلط السلطة قد يفتعلون
أزمات مع بعضهم البعض، ودوا لو أصبح الجميع "على البلاطة"!
رفقاً ببنات فريد خميس!
twitter.com/selimazouz1