كان 2022 عام عودة الحروب إلى القارة الأوروبية بعد ثلاثة أرباع قرن من السلام الذي لا سابق له في التاريخ. سلام بلغ من طول المدة حدا جعل الأمم الأوروبية تخلد إلى أمان الظن بأن
الحرب صارت مستحيلة وأن السلام الذي ساد منذ عام 1945 قد صار أبديا. ولكن الرئيس الروسي، صاحب السجل الطويل في معالجة المشكلات بحد السلاح في الشيشان وجورجيا وسوريا وشبه جزيرة القرم، قدّر أن الفرصة مواتية لتأديب الجارة الأوكرانية بالقوة الغاشمة، وظن أن الغزو العسكري لن يستغرق أكثر من أسبوعين، وأن هذه النزهة الرائقة لجنوده الأشاوس، سوف تكلل بالنصر المؤزر والاستقبال الشعبي الأوكراني الباهر والفرار الحكومي إلى الغرب (أو الاستسلام وتقبيل الأيادي الروسية).
الرئيس الروسي، صاحب السجل الطويل في معالجة المشكلات بحد السلاح في الشيشان وجورجيا وسوريا وشبه جزيرة القرم، قدّر أن الفرصة مواتية لتأديب الجارة الأوكرانية بالقوة الغاشمة، وظن أن الغزو العسكري لن يستغرق أكثر من أسبوعين.
وهكذا، أمكن لعام 2022 أن يثبت للساسة خصوصا، وللإنسانية عموما، أن الفهم المعوج للتاريخ يقود إلى تصورات خاطئة عن المستقبل. إذ إن
بوتين قارئ نهم لتاريخ بلاده، لكن قراءته مانعة للفهم لأنها مثقلة بضباب الإيديولوجيا. وكان رئيس تحرير شهرية «فيلوزوفي ماغازين» ميشال إيلتشانينوف قد نشر قبل أعوام كتابا مميزا بعنوان «داخل ذهن بوتين»، شرح فيه مختلف المؤثرات الأيديولوجية التي أوقعت الرجل في ظلام نفق المظلوميّة الروسية الدامس، وذهبت به كل مذاهب العنف والعدوان والجريمة وتصفية الخصوم والمعارضين بالحبس أو التسميم أو الاغتيال. ومن طرائف ما روى أن بوتين أصدر في بداية يناير (كانون الثاني) 2014 تعليمات إلى طاقم الديوان الرئاسي، بأن يرسلوا إلى كبار موظفي الدولة وحكام الأقاليم ومسؤولي حزب «
روسيا الموحدة» الحاكم هدايا معتبرة من اختياره الشخصي.
وما هي هذه الهدايا؟ إنها كتب فلسفة. أي نعم! كتب لفلاسفة روس من القرنين التاسع عشر والعشرين، مثل «مهامنا الواجبة» لإيفان إيليين، و«فلسفة اللامساواة» لنيكولاس بردييف و«الخير إثباتا وإحقاقا» لفلاديمير سولوفييف.
ويقول إيلتشانينوف؛ إنه لو عاد الروائي الساخر نيكولاي غوغول إلى الدنيا، لكان في وسعه أن يصور لنا هؤلاء الأشخاص الوازنين، المعتادين على المطاعم الفاخرة والسيارات الفارهة، وهم يكدحون كدحا عساهم يظفرون بشيء يفهمونه من هذه الصفحات المليئة بالتجريدات والعبارات المستغلقة؛ إذ ليس لهم في الأمر من خيار سوى أن يمضوا الليالي يتهجون السطور وهم يمزقون شعورهم.
والسبب أن الرئيس ذاته قد ذكر هؤلاء الفلاسفة واستشهد بأقوالهم في عدد من خطبه الحاسمة، فلا بد إذن من محاولة فهم مقاصده ومراميه. وقد نجح المجتهدون من ضحايا التثقيف الفلسفي الإجباري هؤلاء في العثور على مقولات منسجمة تمام الانسجام مع شعارات المرحلة. وتتعلق هذه المقولات بدور زعيم الأمة في الديمقراطية الأصيلة (بعكس الديمقراطية الزائفة السائدة في الغرب طبعا)؛ وبأهمية أن تكون الأمة محافظة ويكون المواطن محافظا؛ ووجوب أن تكون الأخلاق متجذرة في الدين، وأن يتحمل الشعب الروسي أمانة رسالته التاريخية في مواجهة الغرب وعدوانيته المتأصلة منذ القدم، إلخ.
أما الكاتب السويسري الإيطالي جوليانو دا إمبولي، فقد تفنن في روايته «عرّاف الكرملين»، التي نال بها الجائزة الكبرى للأكاديمية الفرنسية لعام 2022، في تصوير المشهد العام لآليات الحكم في روسيا على مدى العقود الثلاثة الماضية. تتمثل الرواية في مونولوج طويل بلسان المستشار الخيالي للكرملين فاديم بارنانوف، الشخصية الروائية المستوحاة من السيرة الحقيقية لفلاديسلاف سيركوف، الذي شارك في إنشاء حزب روسيا الموحدة، الذي كان أداة بوتين للوصول إلى الرئاسة في انتخابات 2001.
فقد بارنانوف الحظوة بعد 15 سنة قضاها خادما للسلطان بوتين. فصار، هو الذي كان راسبوتين عند القيصر، يعمل سائق سيارة أجرة. سائق قليل الكلام، ولكنه ينطلق في سرد قصة حياته حالما يكتشف أن الزبون الجالس في المقعد الخلفي يشاطره الولع بالكاتب الروسي الناقد للاستبداد السوفييتي يفغيني زامياتين، الذي قرأ جورج أورويل روايته الديستوبية «نحن وقومنا»، لما نشرت في الثلاثينيات، وتأثر بها في بناء شخصية ونستون سميث وتأليف رواية 1984، أشهر ديستوبيات القرن العشرين.
لماذا شن بوتين هذه الحرب العبثية التي بددت 75 سنة من السلام؟ يقول دا إمبولي: لقد تلبّد عليه ذلك السحاب الذهني الأسود الذي صوره شاتوبريان وقال؛ إنه مصدر ضلال الحاكم.
ولماذا يهدد باستخدام السلاح النووي؟ لأنه تعلّم منذ أن كان شابا في أحياء موسكو العنيفة، أن ليس في يد الضعيف من سلاح، سوى التصرفات المجنونة وردود الفعل اللامتوقعة.