رغم
هدوء نبرته -على خلاف أغلب إطلالاته العمومية- عند تهنئة الشعب
التونسي بالعام
الإداري الجديد، فإنه لم ينس كدأبه دائما أن يتبرأ من أية مسؤولية عن الأوضاع محمّلا
السياق الدولي (كورونا والحرب الروسية الأوكرانية) وخصومه السياسيين المسؤولية عما
تعاني منه البلاد (بافتعال الأزمات في الداخل وعرقلة المفاوضات في الخارج). فلا
نتائج
الانتخابات التشريعية التي أنهت وهم التمثيل "الحصري" للإرادة
الشعبية، ولا ميزانية الدولة القائمة على زيادة الضرائب والرفع المتدرج للدعم كانتا
قادرتين على إخراج الرئيس من "طوبى التأسيس الثوري الجديد"، أو إقناعه
بضرورة مراجعة السياسات الحكومية العاجزة عن تحسين أوضاع "من يعانون من
ضنك العيش ويبحثون عن الحياة الكريمة بعد إقصائهم على مدى عقود".
وسنحاول
في هذا المقال -تأسيسا على الثوابت البنيوية في الجملة السياسية للرئيس واستقراءً
لمواقف القوى المعارضة "النقدية" و"الجذرية"- أن ندرس إمكان
حدوث حوار وطني في تونس والسقف الذي يحدده بصورة ما قبلية، وكذلك فرضية الذهاب إلى
انتخابات رئاسية مبكرة، خاصة مع استمرار تشتت المعارضة وتضخم صراعاتها البينية، وإصرار
الرئيس على منطق "الإنكار" وسياسة الهروب إلى الأمام من خلال تصاعد التضييقات
على المعارضة باستعمال المرسوم 54 لسنة 2022،
والمتعلق بمكافحة الجرائم المتصلة بأنظمة المعلومات والاتصال.
يبدو من الصعب -بل من المحال- أن يتزحزح عن مشروعه السياسي مهما أظهرت "المحطات التاريخية" التي يعود فيها إلى الشعب تهافت الأسس التي يقيم عليها شرعيته، ومهما بيّنت الأرقام والإحصائيات الرسمية هشاشة "مشروعية الإنجاز" التي قد تبرر بقاءه خارج إطار المساءلة والمحاسبة
كنا
في مقالنا السابق قد ذكرنا أن الرئيس قد دفع بالخطاب الاستئصالي (في نسختيه الناعمة
والصلبة) إلى نهايات لم تكن مقصودة عند رموز ما يسمى بـ"العائلة
الديمقراطية". فحاكم قرطاج يُسلّم لهؤلاء بأن تونس ستكون أفضل بغير حركة
النهضة في الحكم والمعارضة، ولكنه يدفع بمنطقهم إلى نهاياته المنطقية، لتُصبح
المصادرة هي أن تونس ستكون أفضل بغير ديمقراطية تمثيلية وبغير أحزاب أو أجسام
وسيطة مستقلة، أي ستكون أفضل في ظل نظام رئاسوي يُنهي الحاجة للأحزاب وتعدد
السلطات واستقلالية الهيئات الدستورية وغيرها.
وفي
ظل إصرار الرئيس على خطابه الطوباوي أو الرسالي "الهجين" (لا هو خطاب
ديني صرف يُقصى الإرادة الشعبية، ولا هو خطاب مُعلمن يُخرج الشرعية السياسية من
فلك الدين والإرادة الإلهية) يبدو من الصعب -بل من المحال- أن يتزحزح عن مشروعه
السياسي مهما أظهرت "المحطات التاريخية" التي يعود فيها إلى الشعب تهافت
الأسس التي يقيم عليها شرعيته، ومهما بيّنت الأرقام والإحصائيات الرسمية هشاشة
"مشروعية الإنجاز" التي قد تبرر بقاءه خارج إطار المساءلة والمحاسبة، كما
هو مقرر في دستوره الجديد.
إن
الدعوة إلى انتخابات رئاسية مبكرة هي دعوة لا يمكن أن يصدرها إلا عقل سياسي لم
يفهم جيدا التعامد الوظيفي بين مشروع الرئيس ومشروع النواة الصلبة للمنظومة
القديمة ورعاتها الإقليميين والدوليين. فتلك النواة الصلبة ومَن وراءها في الخارج
يحتاجون إلى الرئيس لإعادة هندسة المشهدين السياسي والاقتصادي بمنطق المراسيم، أي
بعيدا عن الرقابة بكل أشكالها الشعبية والمؤسساتية. أما الرئيس -إذا ما سلمنا بأنه
فعلا يحمل مشروعا سياسيا يتجاوز مستوى "الواجهة" أو السردية الوظيفية في
استراتيجيات المنظومة القديمة- فإنه سيستغل حاجة النواة الصلبة للحكم إليه كي
يخترقها من الداخل ويعيد بناء توازنات القوة معها، عبر التمكين لنخبته
"الجديدة" في مراكز القرار.
النواة الصلبة ومَن وراءها في الخارج يحتاجون إلى الرئيس لإعادة هندسة المشهدين السياسي والاقتصادي بمنطق المراسيم، أي بعيدا عن الرقابة بكل أشكالها الشعبية والمؤسساتية. أما الرئيس -إذا ما سلمنا بأنه فعلا يحمل مشروعا سياسيا يتجاوز مستوى "الواجهة" أو السردية الوظيفية في استراتيجيات المنظومة القديمة- فإنه سيستغل حاجة النواة الصلبة للحكم إليه
وفي
الحالتين، فإن ما جاءت إجراءات 25 تموز/ يوليو لتحقيقه واقعيا بصرف النظر عن
صراع التأويلات الذي ارتبط بها هو تغيير شكل النظام السياسي، ومركزة السلطة في يدي
الرئيس باعتباره الطرف المحاور الأوحد للجهات المانحة/ الناهبة، وإضعاف الإسلام
السياسي وتحجيم دوره في المعارضة، وتدجين النقابات وإرجاعها إلى دورها في
"تثمين" قرارات الزعيم وشرحها لمنظوريها، وتمرير إملاءات صندوق النقد
الدولي، والالتحاق بركب التطبيع والتحالف الاستراتيجي مع عرابي الثورات المضادة، وحراسة
السواحل الجنوبية للمتوسط من الهجرة غير الشرعية، واستقبال المرحّلين من المهاجرين
التونسيين غير الشرعيين، وتقوية دور تونس في المنظمة الفرنكفونية لحماية مصالح
فرنسا الاستراتيجية في تونس والإقليم.. الخ.
ولا
شك في أنّ الرئيس -ومَن وراءه- لن يخاطروا بإنهاء هذا المسار بالدخول في حوار وطني
شامل أو بإجراء انتخابات رئاسية مبكرة؛ يعلمون يقينا أنها لن تكون في صالحهم.
أما
المعارضة -وهي في الحقيقة "معارضات"- فإنها ليست على قلب رجل واحد. فما
يسمى بـ"المعارضة النقدية" مثل المركزية النقابية والحزب الدستوري الحر
والكثير من الجمعيات المدنية؛ ليست في الحقيقة إلا حليفا موضوعيا للرئيس قبل 25 تموز/ يوليو وبعده. فهي لا تعارض
"الانقلاب" على الديمقراطية ومؤسساتها بدءا بالبرلمان والهيئات
الدستورية، بل تعارض الإدارة المنفردة للانقلاب وإقصاء "القوى
الديمقراطية" من مراكز صنع القرار وتحديد السياسات العامة للدولة.
المعارضة -وهي في الحقيقة "معارضات"- فإنها ليست على قلب رجل واحد. فما يسمى بـ"المعارضة النقدية" مثل المركزية النقابية والحزب الدستوري الحر والكثير من الجمعيات المدنية؛ ليست في الحقيقة إلا حليفا موضوعيا للرئيس قبل 25 تموز/ يوليو وبعده
كما
أن هذه "المعارضة النقدية" (أو الولاء النقدي) تشترك مع الرئيس في شيطنة
ما يسمونه بـ"العشرية السوداء"، وفي تحميل حركة النهضة -دون سائر
الفاعلين السياسيين والنقابيين والمدنيين والإعلاميين ورجال الأعمال- مسؤولية تلك
العشرية سياسيا وقضائيا، ولذلك فإن
الحوار عند هؤلاء لا يمكن أن يشمل حركة النهضة.
إذا
ما كان الرئيس يصر على فهم مخصوص للحوار الوطني -باستثناء كل الأحزاب وإشراك
"المواطنين"- فإن الاتحاد العام التونسي للشغل يوسع من دائرة الحوار
لتشمل "القوى الوطنية" خاصة في المجتمع المدني. وفي حالة مشاركة الأحزاب
في الحوارات التمهيدية التي يجريها الاتحاد فإنها ستكون -كما صرح الأمين العام
المساعد سمير الشّفي- مع الأحزاب "الوطنية" التي تعترف بالسلطة ولا
تستقوي عليها بالخارج، وهو ما يعني إقصاء حركة النهضة التي يتهمها الاتحاد
بالتواصل مع جهات أجنبية وبعدم الاعتراف بالدولة- الأمة ومؤسساتها ورموزها.
أما
زعيمة الحزب الدستوري الحر، فإن دورها في تعفين المشهد البرلماني قبل 25 تموز/ يوليو قد أضيف إليه دور جديد في
استهداف خصوم الرئيس وتقديم القضايا ضدهم. إن عبير موسي ليست إلا جسما وظيفيا
تتغير أدواره حسب السياق، ولكنها تظل دائما في خدمة النواة الصلبة للمنظومة
القديمة. ولا يمكن لوريثة التجمع الدستوري أن تقبل بحوار وطني جامع تشارك فيه
النهضة أو تستفيد من مخرجاته، كما لا يمكن لها أن تساند الدعوة إلى انتخابات
رئاسية مبكرة لا يكون البديل فيها أحد مرشحي المنظومة القديمة.
ورغم
بؤس هذا الوعي السياسي فإنه لا يختلف في شيء عن بؤس باقي مكونات المعارضة.
فتنسيقية الأحزاب الاجتماعية ما زالت تصرّ على عدم وجود أية أرضية للعمل المشترك
بينها وبين "جبهة الخلاص الوطني"، ولو بالالتقاء التكتيكي المؤقت ضد
خصمهما المشترك. أما جبهة الخلاص فما زال سقفها هو "مرحلة التوافق" رغم
سوء سمعة تلك المرحلة في الوعي الجمعي للتونسيين. ولذلك فإن الحوار الوطني عند
جبهة الخلاص ليس في جوهره إلا حركة إلى الوراء دون تقديم أي نقد ذاتي أو مراجعات
لتلك المرحلة ومحصولها الواقعي، بعيدا عن التغني بالديمقراطية
"الصورية".
الحوار الوطني الشامل حتى في حال وقوعه -وهو أمر مستبعد جدا في السياق الحالي- لن يكون إلا هندسة مستأنفة للحقل السياسي بشروط المنظومة القديمة الضامنة لمصالحها المادية والرمزية. ولكننا نرجّح استحالة التوافق بين أهم الفاعلين الجماعيين على إجراء هذا الحوار
أما الانتخابات الرئاسية فلن تكون هي الأخرى إلا بمنطق
التوافق الذي سيدفع بأحد رموز المنظومة القديمة -أو بأحد حلفاء النهضة المؤقتين-
إلى الرئاسة، مع ما يعنيه ذلك من استمرار منطق التوافق مع المنظومة القديمة بشروط
تلك المنظومة كما كان الشأن بعد انتخابات 2014.
قد
لا يكون من التشاؤم أن نقول إن الحوار الوطني الشامل حتى في حال وقوعه -وهو أمر
مستبعد جدا في السياق الحالي- لن يكون إلا هندسة مستأنفة للحقل السياسي بشروط
المنظومة القديمة الضامنة لمصالحها المادية والرمزية. ولكننا نرجّح استحالة
التوافق بين أهم الفاعلين الجماعيين على إجراء هذا الحوار، وإن كنا لا نستبعد حصول
تواصل بين الرئيس وبين الأطراف المشكلة للمعارضة النقدية مع استبعاد جبهة الخلاص
وأساسا حركة النهضة.
ونحن
قد استعملنا كلمة "تواصل" ولم نستعمل مصطلح "الحوار"؛ لأن
الرئيس يعتبر نفسه حقا/ خيرا محضا لا يقبل المحاورة، وإن كان قد يتواضع أحيانا لـ"مجادلة"
الآخرين كي يفسر لهم مشروعهم ويقنعهم بـ"الدخول" فيه. إن المجادلة -بالمنطق
الديني العميق الذي يخترق خطاب الرئيس- لا تفترض تغير "صاحب الحق" بعد
الإنصات للمختلف "الضال"، بل هي تُجرى أساسا لإقامة الحجة عليه وإبراء
الذمة أمام الله والشعب.
ختاما،
قد يكون على المعارضة -قبل الدعوة إلى انتخابات رئاسية مبكرة أو إلى حوار وطني
يشمل رئيس الجمهورية- أن تفكر في السؤل التالي استعدادا لانتخابات 2024: كيف يمكن للرئيس الذي يعتبر نفسه بديلا لا
شريكا ومحررا للبلاد من الخطرين الداهم والجاثم، والذي فرض خارطة طريقه -ويواصل ما
تبقى منها بتركيز مجلسي النواب وفرض الأمر الواقع على الجميع- أن يتنازل عن منصب
الرئيس، أو أن يقبل بالاحتكام إلى الإرادة الشعبية وهو يعتبر نفسه "أب
الجمهورية" وصاحب الأمانتين الإلهية والشعبية، ويعتبر كل من عارضه -ومن باب
أولى ذاك الذي يتجرأ على منازعته منصب الرئاسة- مأجورا أو مخمورا أو فاسدا أو
معاديا لإرادة الشعب ومصالحه؟
twitter.com/adel_arabi21